هو متوعك بحق... الضعف الشديد في دعم الأبحاث العلمية في مجتمعاتنا العربية أمر نكثر الحديث حوله، وهو جدير بما هو أكثر، لخطورة الأبحاث العملية ودورها المحوري في نهضتنا الحضارية، فبالبحث العلمي نقبض على المفردات الرديئة في ثقافتنا؛ تلك المفردات التي تفرز أمراضا فكرية وتخلق تشوهات سلوكية، والبحث العلمي هو القنطرة المضمونة لوصف الظواهر -بمختلف أشكالها وتنوع مجالاتها- وتفسيرها بطريقة تجعلنا أصحاب (ذاكرة جمعية) تراكم الحقائق والنظريات والنماذج والنتائج والأفكار، بعضها على بعض؛ للتنبؤ بالظواهر والتحكم بها. هذا هو العلم الذي نزهد به وبدرجة كافية!
أحسب أننا نتفق على أن مجمل النقد حول ضعف الدعم للبحث العلمي العربي يوجه للحكومات، بحكم أنها اللاعب الرئيسي أو هكذا يجب أن تكون، سواء من حيث سن التشريعات لخلق بيئة البحث أو ضمان التيسيرات اللازمة أو حتى ممارسة الدعم المباشر له، وهذا صحيح لا غبار عليه، ونلحظ أن ثمة انتقادات للقطاع الخاص، يبدو أنها انتقادات أقل مما يجب كثيراً، لا سيما أن القطاع الخاص العربي تمكن من السيطرة على حصص متزايدة من العوائد والامتيازات الاقتصادية من خلال دعم حكومي وتسهيل إجرائي، وهذا الدعم وذلك التسهيل يفترض أن يكون قد بني على نوع من (العقد الاجتماعي) الذي يضمن أن الناس –عموم الناس– سينتفعون من هذا (السماح) للقطاع بأن يعمل ويتوسع وينمو، أفقيا ورأسياً، وإذا لم يتحقق ذلك فالنتيجة هي (تغول) القطاع الخاص لمصلحة (ملاكه) فقط؛ على حساب مصلحة الوطن الذي هو: الناس! وهذا ما يبرر الدعوة إلى سن تشريعات تفرض على القطاع الخاص دعم البحث العلمي، مع الصرامة والشفافية في التطبيق.
في كثير من المشاهد التحليلية لواقع البحث العلمي تسدل ستائرها حين نصل إلى ذلكما المشهدين: تقاعس الحكومات وتقاعس القطاع الخاص. وفي رأيي أن هنالك مشهداً لا يقل سوءاً أو خطورة عن سابقيه، وهو تقاعس المجتمع عن دعم البحث العلمي، بل يمكنني أن أتجاسر وأزيد الأمر وضوحاً لأقول: بأن تقاعس المجتمع هو أسوأ وأخطر حين يصدر من (التدين) الذي يزعم الانبثاق من (الدين)!
كنت ممن يتحمس –ولا زلت– في خلق وعي جديد حول تلك المسألة لدى التجار لدينا وأغلبهم من كبار السن، ولم أكن أحمل عليهم كثيراً حين أجد منهم صدوداً وإعراضاً، فهو أمر متوقع لضعف إيمانهم وجهلهم شبه المطبق بأهمية البحث العلمي... نتيجة متوقعة، ولا تبعث على هو ما أكثر من الأسى الذي يقطع أنياط القلب! غير أن صدمة وبكل المقاييس كانت موجعة لي بحق، مما يتطلب الإفصاح بكل وضوح عن تلك الصدمة، علنا نبدأ في اكتشاف مكمن الداء...
تحدثت ذات مساء نهضوي مع زميل (أكاديمي شاب) –يحمل الدكتوراه في تخصص العلوم الاجتماعية-، وهذا الزميل في طريقه لأن يكون (تاجراًً) ذا بال، تحدثت معه عن أهمية البحث العلمي، ورحت أنتقد بأسلوب مباشر (استمرار) الكثير من التجار في (التوقف) عن دعم الأبحاث من جراء المبالغة في دعم بعض المشاريع الخيرية، كـ (الإفراط) في بناء المساجد، لدرجة أننا بدأنا نشاهد مساجد تكاد تلتصق بالأخرى في بعض مدننا وأحيائنا، مع إنتاجية ضعيفة لها في ظل غياب (الدور الحضاري للمسجد)، والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل وصل إلى وجود قائمة انتظار من (المحتسبين) لبناء المزيد منها، وقد يصل عدد المنتظرين في بعض الأماكن إلى ما يقارب خمسين، فلو تخيلنا أن كل مسجد سيكلف مليون ريال فقط، فإن ذلك يعني ببساطة أنه سيكون لدينا خمسون مليون، بعائد سنوي خمسة ملايين، وهو مبلغ يمكن أن يكفي جامعة صغيرة الحجم لمدة سنة، ويضاف إلى ذلك إحجام أصحاب (الوقف) عن الدعم للبحث العلمي وإبعاده بشكل مطلق عن الكثير من ميادين التنمية...
كنت أتوقع حينها أن صاحبي سيريحني من عناء الكلام ليأخذ حظه غير منقوص من التحليل والنقد والتشريح لتلك الظاهرة المرضية، والأهم عندي هو أن يبدي بعض مرئياته ويكشف عن أساليب دعمه (المرتقب) للبحث العلمي، وكيف سيكون؟ وبأي شكل؟ ولمن؟... صعقت حين قال لي: (أنا لو عندي فلوس ما حطيتها إلا في مسجد)، ففيه الأجر المضاعف، (ولا تقولي بحث علمي ولا شيء آخر)!!
يا إلهي أي شيء يمكننا أن نتخيله لنهضتنا المنشودة ونحن نفكر بمثل تلك الطريقة؟ كل هذا يدفعنا وجوبا إلى أن نتساءل عن السبب المحوري الذي أفرز ذلك النوع الرديء من التفكير... أين هي انعكاسات مبادئ الإسلام العظيم وحثه المكثف على العلم والعناية اللائقة بالعلماء في نصوص مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ في نصوص يحفظها الصغير قبل الكبير! أين اشرقاتها الربانية في نفوس ترى أننا متأخرون في الأبحاث العلمية لدرجة التخلف؟ أيعقل أن يكون ذلك المنطق لأستاذ جامعي؟!
(الفهم الرديء) لـ (الفكرة الجيدة) هو المسئول عن هذا الخلل البنيوي في حالتنا هذه، وأحسب أن (الممارسة السلفية) المعاصرة قد أنتجت مثل ذلك التشوه في الوعي، لدرجة تزهيد الناس في أبواب كثيرة من أعمال الخير والإحسان، مع الإفراط والحرص الشديد على حصرها وقولبتها في بعض الأعمال الخيرية، فتلك الممارسة السلفية تنزع –بشكل عام- إلى التركيز المخل على أجزاء من الصورة، تماماً كما نشاهد في المواعظ والنشرات التوعوية الحث المبالغ فيه على (عمرة رمضان) وكأنها أضحت واجباً لا يسوغ لأحد التفريط أو التهاون فيه، ويدخل في ذلك –ونحن في رمضان– مشاريع تفطير الصائمين الذي وصل التنافس في بعضها إلى درجات لا تصدق، في (مشاهد خيرية) يغلب عليها –بحسب ملاحظاتي التراكمية– الرغبة الجامحة لدى الكثيرين في (قحش الأجر) أكثر من تحقيق (معاني الإحسان) إلى الخلق! وهو خلل جوهري له مقدماته وتوابعه يجب الاعتراف به وتصحيحه.
وأنا في وجهة النظر هذه لا أريد أن يُفسر كلامي وكأنني أعترض على بناء المساجد أو مشاريع التفطير ونحوها ولكنني قصدت التأكيد على وجوب عدم قصر الأعمال الخيرية والوقفية والإنفاق عليها بعدد محدود منها، وما أجمل ما قاله العلامة الشيخ عبد الله بن بيه: (بلغت الكتاتيب التي تم تمويلها بأموال الوقف عددا كبيرا؛ فمثلا يورد منها ابن حوقل -في كتابه "الجغرافي"- ثلاثمائة كُتاب في مدينة واحدة من مدن صقلية، وذكر أن الكتاب الواحد كان يتسع للمئات أو الآلاف من الطلبة. وذكر أبو القاسم البلخي مدرسة في ما وراء النهر، كانت تَسَع ثلاثة آلاف طالب ينفق عليهم وعلى الدراسة فيها من أموال موقوفة لذلك الغرض، وجاء في رسالة أحد الواقفين إلى أحد النظار على الوقف بالدار البيضاء:
"وبعد فنأمرك أن تنفذ للطالبين والمدرسين الواردين من فاس بقصد التدريس وبث العلم: دارا من دور الأحباس لنزولهما، وعشرين ريالا للواحد من مدخول الأحباس في كل شهر حتى تكتمل مدتهما -وهي سنة واحدة- ليعين بدلهما عند انقضائهما -بحول الله- على يد قاضي فاس والسلام) (انظر: عبد الله بن بيه، من أمثلة الوقف في التاريخ الإسلامي، موقع الإسلام أون لاين)... بل ذهب الوقف الإسلامي –يوم أن كان وعينا معافى- إلى ما هو أبعد، حيث خصص البعض وقفاً لإطعام الكلاب التي ليس لها صاحب حتى لا يصيبها الجوع فتؤذي المارة!!
اقرأ أيضاً:
متى نشخِّص الثقافة؟
القابلية للانصياع.. والفتاوى الدينية!