علي اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء،
أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء...
باحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب،
وباحبها وهي مرمية جريحة حرب،
باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء،
وأكرها وألعن أبوها بعشق زي الداء،
واسيبها واطفش في درب وتبقي هي في درب،
وتلتفت تلقيني جنبها في الكرب،
والنبض ينفض عروقي بألف نغمة وضرب..........
علي أسم مصر.
هكذا كتب المبدع الراحل صلاح جاهين عن مصر في إحدى قصائده، فترى ماذا كان يكتب لو شاهد أحداث الخميس الدامي والتي ما أن شاهدت صورها حتى أغلقت كل ما بيدي من أعمال حتى انتهى من كتابة هذه الكلمات.
فقد شعرت أن كلمات حبيسة في صدري تريد أن تخرج، تبحث لها عن متنفس في أرض الواقع الملموس، شعرت أنني أريد أن ارضي ضميري وأن أشارك ولو بكلمات قليلة في أحداث البلد المشتعلة، أريد أن أقول كلمة حق في عصر ظالم وبلد قاهر لحريات أبنائه، ولا يمكن لمن شاهد صور اعتداءات الأمن علي المواطنين العُزل أمس من أن يتخذ رأيا آخر، أو أن يصدق دعاوى النظام ليل نهار من عدم تدخل الأمن في الحريات، وأننا نعيش أزهى عصور الديمقراطية... وأننا نعيش حياة سياسية تتسم بالشفافية والنزاهة... على رأي بلال فضل – الذي أختلف معه كلية في أفلامه السينمائية واتفق معه في بعض كتاباته الصحفية- خالتي نزيهة وعمتي شفافية..!
وتأتي أحداث الخميس بعد قراءتي لمقال إبراهيم عيسي في الدستور الأربعاء الماضي والتي يقول فيه أن الأمن ألقي القبض علي ثلاث بنات في آخر اعتصام للحركة الوطنية في وسط البلد، ويسخر بالرسم المرافق للمقال من ملك يأكل عنقود عنب بشراهة قائلاً: أصل أنا بحب العنب"البناتي" اوى! وهو ما جاء بعنوان "نظام دكر"!، ويعرض في المقال ما الذي يحكم نفسية الأمن وأفراده في التعامل مع البنات المقبوض عليهن، وأنا عن نفسي أعود سريعاً لفيلم الكرنك لنجيب محفوظ، وتعامل الأمن مع سعاد حسني في الفيلم، ولا أريد من يعلق علي كلامي بأن يقول "كان زمان نحن في زمن الحريات" واحترام حقوق الإنسان خاصة النساء!
وأدعو من لا يصدق (خاصة من الإناث) أن يعود بالذاكرة لأحداث الاستفتاء على الدستور يوم الأربعاء الأسود 25/5/2005 وما حدث فيه من هتك عرض الصحفيات والمحاميات والناشطات الشريفات النبيلات –في الشارع- واللاتي آثرن أن يعلن أصواتهن جهاراً أمام آلة الأمن المصري العسكرية، واستخدم التعبير السابق استنادا للصور الأخيرة لمظاهرات أمس والتي تتشابه إلى حد كبير مع الصور التي تنقلها وكالات الأنباء وتبثها الفضائيات "الصادقة" والتي تحترم جمهورها فاحترمها جمهورها، عن أحداث فلسطين الجريحة، في الوقت الذي يصدع فيه التليفزيون المصري "الحكومي" رؤوسنا بأن الأمن تواجد يوم الخميس الماضي بهذه الكثافة وهذا العنف والوحشية لتأمين دار القضاء العالي! وهو نفس ما جاء في صحفهم الحكومية التي يدعون أنها قومية! وأنها مملوكة للشعب، ولا أدري عن أي شعب يتحدثون!
ولا يمكن لإعلام يحترم مشاهديه أن يخرج عليه لينفي تعرض قوات الأمن للمتظاهرين أمام دار القضاء العالي مثلما فعل الإعلام المصري صاحب (الريالة الإعلامية) بعد الأحداث الأخيرة، والمصطلح للصحفي والكاتب بلال فضل! تهكما علي ما أشبعنا به الإعلام المصري من ترديد مصطلحات مثل الريادة الإعلامية، ولم يقل لنا ريادة علي من بالضبط؟!
ويبدو أن العساكر التي ظهرت في الصور التي أطلقتها وسائل الإعلام المختلفة العربية والأجنبية لم تكن سوي عساكر شطرنج مثلاً وليست عساكر الأمن المركزي! ويبدو أن المرتدين ملابس الضباط ذات النجوم اللامعة والسيوف القاطعة كانت كومبارس لتصوير أحد الأفلام الجديدة التي أصر مخرجها علي تصويرها في وسط البلد! متحدياً إغلاق وسط البلد تماماً بالضبة والمفتاح وتصدير كلمة "ممنوع" لكل من أرد العبور في "بلدهم الحر الديمقراطي"!
وهناك من يري أن استخدام قوات الأمن للعنف الزائد مع المتظاهرين في الفترة الأخيرة ما هو إلا تعبير عن جهاز أمني ضعيف أنهكته المواجهات مع الإرهاب، فما كان منه إلا أن أصبح ينفث غضبه المكتوم في المتظاهرين بعدما فشل في إحكام قبضته علي فلول الإرهاب الهاربة، وتلك الناشئة حديثاً! فأصبح جهازاً مهترئاً مليء بالثغرات الأمنية والثقوب الكبيرة والتي رأي المسئولون الأمنيون أن علاجها يتمثل في التضييق على المتظاهرين وضربهم وسحلهم!
وأصبح البديل هو سحق من يكشف الحقيقة للمواطنين ناقصي المعلومات ومفتقدي الحقيقة، وأصبح الحل هو تمزيق شراذم الصحفيين والإعلاميين ودكهم دكاً بتمزيق ملابسهم وضربهم وكيل السباب واللكمات لهم فضلاً عن تكسير آلاتهم الإعلامية ومصادرتها، مثلما حدث مع مصوري المصري اليوم والأسوشيتدبرس ورويترز وقناة الجزيرة، وهكذا تُعمى عين الحقيقة في هذا الوطن!
ولمن لا يعرف أو لمن نسي الحقيقة المؤلمة –من عشرات الحقائق المؤلمة التي أصبحنا نعيشها يومياً- أن النائب العام قد حفظ التحقيق في قضية الاعتداء علي الصحفيات والناشطات، وتعالت أصوات الصحفيين الشرفاء من أجل إعادة فتح باب التحقيق في أحداث الاستفتاء على الدستور المصري، ولكن يبدو أن السلطة المصرية ردت بجملة: "اخرس يا كلب" والتي صاح بها الضابط الذي اعتدي على أحد القضاة في الاعتصام المفتوح أمام ناديهم من أيام!
هذا هو المعني الذي وصلني من السلطة بخصوص هذا الأمر والذي أهانني وأشعرني بمرارة شديدة باعتباري صحفية، أشرف بالعمل في مهنة تنير الرأي العام وتكشف فساد المفسدين الذين استشروا في المجتمع كالماء والهواء، فغدونا نتنفس فسادا!
وفي ظل قانون الطوارئ وتحت دعاوى "الحفاظ على أمن الوطن" والأمن العام، أطلق الأمن المصري أدواته القهرية من أجل منع التظاهر والتجمهر كما ينص قانون الطوارئ وشحن العشرات من النشطاء السياسيين في عربات الأمن المركزي غير الآدمية واتجه بها لأماكن مجهولة، ووجه تهمة إهانة الرئيس للبنات الشجاعات اللاتي قبضن عليهن مؤخراً، مما يجعلني أتخيل أن لو صلاح جاهين بيننا الآن وأراد إعادة كتابة قصيدته الشهيرة على اسم مصر لكتب:
على اسم مصر يقدر الأمن يفعل ما شاء،
أنا مصر عندي صحفيون ومحامون وقضاء....
بحبها وهي مسروقة يمين وشمال،
وبحبها أكثر لو ما كانش فيها جمال،
واسب والعن في كل ظالم جبار ،
واحب واغني لكل شريف محتار،
مش عارف يغنى لمصر ست الحسن،
ولا يقاوم عصاية العسكر والأمن،
(وأكمل أنت القصيدة لو سمحت فالقولون العصبي عاد يؤلمني من جديد!).
واقرأ أيضًا:
يوميات ولاء في عيد ميلادي ...أنا متفائلة / يوميات ولاء : تساؤلات مؤلمة / عندما سُئِلْت: هل أنتِ مجنونة؟