الحياة كالماء لا تستطيع أن تسيطر على أجزائه ولكنك تستطيع أن توجهه. جرب والق بحجر في بحيرة راكدة من الماء، سترى الأمواج قد بدأت تعكر صفو سطح البحيرة. حاول أن تسيطر عليها وتعيد إليها صفاءها وهدوءها، حاول أن تمسك بها جزءاً تلو الآخر لتعيد إليه السكينة، لن تنجح في ذلك بل ستزيدها حركة وتشتتاً وفوضى. ولكن اتركها لبعض الوقت ستهدأ من تلقاء نفسها وتعود سيرتها الأولى. حاول أن تنقلها جزءاً جزءاً إلى مكان آخر، كم من الوقت والجهد سيستنفذ في ذلك، وكم من الماء ستفقده هدراً أثناء هذه المحاولة.
شق قناة صغيرة بجوارها ستجد الماء ينساب فيها بهدوء إلى حيث أردت دون أن تفقد منه شيئاً أو يتعكر صفوه، وحتى إن طفا الزبد على سطحه للحظات فإن الماء سيعود ويهدء في مستقره الجديد دون أن يفقد رونق صفائه وهدوئه. وكذا هي الحياة، كلما حاولت أن تسيطر عليها تفلتت منك أجزاؤها، ولكن وجّها بهدوء وراقبها من بعيد وهي تسير كيفما تتمنى.
حاول أن تمسك بالفرشاة وتدهنها جزءاً تلو آخر، ستختلط الألوان وتفقد السيطرة عليها، ولكن ضعفيها بهدوء بضع قطرات من لون جديد وراقبها تتلون من نفسها. حاول أن تزيد من حرارتها بإشعالها ولن تشتعل أبداً، ولكن أوقد من تحتها ناراً وانتظرها وستجدها تستجيب كما تريد. انفخ فيها حتى تبرد، وستنقطع أنفاسك قبل أن تبلغ مرادك، ولو وضعت فيها قطعة من الثلج لعادت إليها برودتها وأنت واقف تتأملها. حاول أن تشكلها كالصلصال لتحصل على شكل فريد.
أراك تبتسم الآن ولعلك تتذكر تجربة من تجارب حياتك، لأنك تعرف بالتأكيد النتيجة، ولكن هيّء لها إناءً مناسباً بالشكل الذي تريد ودعها تنساب فيه بهدوء. ابقها دوماً راكدة في إناء واحد لا تتحرك ولا يتغير شكلها، فتبدأ بالأسون وتنمو الطحالب على سطحها وتنبعث منها الروائح الكريهة، ولكن دعها تجري وتنطلق حرة فتتجدد وتتطهر وتكتسب في كل لحظة شكلاً جديداً. ولاحظ هنا أنني دوماً استعملت كلمة الماء ولم أقل بحيرة من الماء، فحياتك كالماء نفسه تستطيع أن تقسمها على مجموعة من البحيرات المستقلة التي تربطها قناة واحدة هي أنت وتوجه كل منها بشكل يختلف عن الآخر كما تشاء.
قبل بضع سنوات ظهر كتاب اسمه السر أثار الكثير من الجدل واللغط وأخطأ الكثيرون في فهمه ما بين رافض لعلل في الصياغة اللغوية والإطار الثقافي التي أتت منه فجعلت منه مثار جدل ديني، وبين رافض للفكرة أساساً لأنه لم يفهم لب المراد منها وظنها دعوة للتواكل وأحلام اليقظة تماماً كما أخطأ آخرون في فهم المقولة الشهيرة لإيرني زيلنسكي "اعمل أقل تنجح أكثر". وعلى الجانب الآخر تقبله آخرون ومع ذلك فقد فهموا التطبيق خطأً، كما فعل غيرهم في فهمهم لخريطة ستيفن كوفي الذهنية وبوصلة الواقع والأدوار المختلفة في الحياة التي وصفها في كتابه الشهير العادات السبع للناس الأكثر فعالية. ومن هذا الخطأ أو ذاك تحولوا إلى مجرد آلات تكدح وتكدح دون أن تصل إلى غاية المراد وقمته، أو تحولوا إلى مجرد حالمين نائمين ينتظرون أن تمطر السماء بالذهب والفضة. واليوم ألخص لك ما أراد هؤلاء كلهم قوله باختصار في جملة واحدة أكررها لك "الحياة كالماء لا تستطيع أن تسيطر على أجزائه ولكنك تستطيع أن توجهه".
وأخيراً فمن العجيب ويالغرائب الصدف!!، أن الماء أيضاً هو سر الحياة، وأن من أخبرنا بها قبل أربعة عشر قرناً من الزمان فقال "وجعلنا من الماء كل شيء حي" هو نفسه من أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ليرشدنا بقوله "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطانا" بل وربما أيضاً كان هذا تفسيراً آخر لا تعارض بينه وبين التفسير اللفظي المشهور عند أهل العلم لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".
واقرأ أيضاً:
الحياد بين السلبية والإيجابية / قلوب قاسية