دخل العراق مرحلة جديدة من الصراع الدموي والفوضى. دخلت قوات ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام عبر الحدود السورية يوم العاشر من حزيران واحتلت مدينة الموصل ثاني أكبر المدن العراقية بعد بغداد والتي كانت تمثل مركز ما يسمى بولاية الموصل أيام الدولة العثمانية وتضم إقليم كردستان الحالي. توجهت هذه القوات جنوباً واحتلت مدينة تكريت في وسط العراق وتوجهت نحو سامراء ولكن بعد أن تصدت لها القوات العراقية والمليشيا التابعة للحكومة مع ما يزيد على ألف مقاتل من قوات الصحوة اتجهت نحو مدينة بعقوبة من أجل الزحف على بغداد. مع كتابة هذه السطور هناك حرب شرسة تدور على أرض العراق والغاية من هذا المقال وما سيتبعه ليس نقل الأخبار الميدانية ولكن التطرق إلى بعض المظاهر لهذا الصراع الجديد وموقعه في الشرق الأوسط والعالم العربي.
قبل ثلاثة أعوام أرسل أحد الشباب المتنورين توتير يقول فيه أن الربيع العربي سيتحول وبسرعة البرق إلى ربيع الجهاديين. كلمة جهادي Jihadist باللغات اللاتينية كلمة حديثة وتعني الإسلامي المتطرف الذي يميل إلى العنف. لم أصدق هذا الشاب ولكن بعد ثلاثة أعوام يبدو أن الربيع العربي تم اختطافه من قبل الجهاديين المتطرفين وتم أو سيتم القضاء عليه قريباً وحتى مصطلح الربيع العربي أصبح نادر الاستعمال.
ولدت الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) قبل عشرة أعوام في غرب العراق من جذور تنظيم القاعدة. تغير اسمها مع توسع تنظيمها وتمويلها من قبل دول عربية وتدريجياً بدأ ينظم تحت لوائها مجموعات عراقية معارضة لحكومة بغداد، وسنحت لها الفرصة لإثبات وجودها مع اندلاع الحرب الأهلية السورية، وبدأت تنادي بخلافة إسلامية في العراق والشام والزحف تدريجياً نحو العالم العربي والكرة الأرضية بأجمعها.
لا توجد منظمة إرهابية بدون تمويل وميزانية داعش تقارب 1.2 بليون استرليني. يتم جمع هذه الأموال من زكاة المسلمين في نقطتين الأولى في الكويت والثانية في قطر. يتم تحويل هذه الميزانية إلى بنوك تركيا ويتم نقلها إلى داعش عبر الحدود التركية إلى سوريا والعراق1.
انضم إليها الآف المتطوعين المسلمين من العرب وغير العرب. التطوع للانتماء إلى داعش يكاد يكون علنياً في الكثير من مدن بريطانيا وخاصة مدينة برمنكهام ثاني أكبر مدن بريطانيا، وكان هناك نوع من الإنكار وتحريف الحقيقة من قبل الغرب والعرب على حد سواء. إلى وقت قريب يعترض الكثير عند الحديث حول الإسراف في تنظيم المراهقين المسلمين في بريطانيا للذهاب إلى سوريا وكان الرقم الذي تشيع له الدولة والحكومات العربية لا يتجاوز العشرات. بالطبع الحقيقة غير ذلك وبعد فضيحة أكثر من مراهق بريطاني من أصل باكستاني في كاردف عاصمة ويلز2 بدأت الأرقام ترتفع إلى عدة مئات ولكن إن تجولت في برمنكهام ثاني أكبر مدن بريطانيا والتي تحتوي على أقلية باكستانية لأدركت أن الرقم الصحيح هو الآلاف حيث أصبح نقل هؤلاء الشباب عبر الطريق البري إلى الحدود التركية السورية تجارة لسواق التاكسي. رغم ذلك لا يزال عدد المتطوعين من الدول العربية يشكل أكثر من 60% من مقاتلي داعش وخاصة من السعودية والجزائر وليبيا ومصر.
سقوط الموصل
تسرع الكثير من أهل العراق والعالم العربي بالسخرية من القوات العراقية وفرارها من الموصل يوم اقتحمت قوات داعش المدينة وفر أكثر من نصف مليون مواطن إلى إقليم كردستان. أصبح عرض ملابس الجندي العراقي ظاهرة تنافس عليها الكثير على مختلف المواقع الإخبارية والاجتماعية. ولكن الحقيقة التي لا يجهلها الجميع بأن توزيع القوات العسكرية العراقية يتم على أسس عرقية وطائفية متخلفة وأن الغالبية العظمى من الجيش العراقي المتواجد في المدينة هم من الأكراد وأهل المدينة أنفسهم. هرب قادتهم أولاً وتم إعدام 1700 أسير في يوم واحد من غير أهل المدينة والأكراد. لم تحصل مناوشات بين قوات البيش مركا الكردية وداعش وسارعت الأولى باحتلال كركوك بعد يوم واحد وتحقيق حلم ضم هذه المدينة إلى إقليم كردستان.
لا يتورع الأخوة الأكراد بوصف كركوك بـ “قدسنا" Our Jerusalem عند إطلاق التصريحات الإعلامية السياسية في الغرب3. تحتوي هذه المدينة على احتياطي نفط هائل ويقدر احتياطي النفط في شمال العراق مع كركوك بـ 9 بلايين برميل وبدون كركوك لا يتجاوز الأربعة بلايين. لكن 90% من إجمالي احتياطي النفط العراقي4 هو في مدينة البصرة ومن هنا تكثر النظريات حول الأطماع الكردية وكثرة غض النظر من بغداد ورغبتها الخفية في تقسيم العراق والتخلص من مشاكل الصراع الطائفي بين السنة والشيعة9.
السياسة التوسعية لكردستان5 مع وجود إدارة مركزية ضعيفة وفوضى سياسية لا تخدم الأكراد والعرب من سنة وشيعة وكافة الأقليات العرقية والدينية في العراق. تزايد ضخ النفط من العراق تدريجياً في السنوات الأخيرة وكان من المتوقع أن يتجاوز الأربعة مليون برميل يومياً في نهاية العام. تحصل كردستان على ما يقارب ال 20% من عائدات النفط رغم أن تعداد سكانها لا يتجاوز الخمسة ملايين من عدد سكان العراق البالغ 33 مليون نسمة. ينتظر الأكراد عيد نوروز كل عام (21 من مارس) لإعلان قيام الدولة الكردية15 ولكن هذا الحلم لم يتحقق إلى الآن لأسباب اقتصادية تتعلق بعائدات النفط يضاف إلى ضغط تركي حول قيام مثل هذه الدولة وضم كركوك إليها. يشكل التركمان أقلية في كركوك ولا يزال الدستور التركي يعتبر المدينة جزء من تركيا حالها حال الموصل وجميع شمال العراق. قد تقوم هذه الدولة يوماً ما مع حصول تفاهم بين الأكراد والأتراك حول مدينة كركوك وكان الأحرى بالحكومة العراقية الجلوس على طاولة المفاوضات مع الحكومة الإقليمية الكردية بدلاً من استعمال أسلوب التهديد والوعيد.
رفضت الحكومة العراقية قبل أشهر دفع كردستان6 حصتها من عائدات النفط بعد إبرام الحكومة الكردية اتفاقيات تنقيب مع شركات أجنبية. وهددت بمقاضاة أي شركة قانونياً. هذه الأزمة تعكس التغطرس الكردي والسذاجة السياسية للحكومة المركزية العراقية في حل الأزمات ويفشر عدم اكتراث الأكراد بهجوم داعش والمناداة بإقليم سني في العراق.
أصابع الاتهام تجاه أهل العراق
لا يصعب صب اللوم على أهل العراق فيما يحدث في العراق الآن. في بداية الأمر هناك أهل السنة العرب الذين يشكلون 20%7 من مجموع السكان باعتراف جميع المصادر باستثناء مقالات قليلة عاطفية تحور الحقيقة. لم يعترف أهل السنة بانخفاض موقعهم السياسي وتحولت مقاومتهم إلى حركة دينية إرهابية وأكثروا من التسفيه بالعملية الديمقراطية وتخلوا عن قيادات حكيمة. انتشر الفساد المادي ضمن قياداتهم الجديدة وتحالفوا مع عناصر خارجية لا مصلحة لها في بناء العراق8.
أما الشيعة فلم يكن دورهم أفضل من إخوانهم السنة في التفافهم حول قيادة ركيكة15واستعمالها لميلشيات لا تقل إرهابية عن ميليشيات السنة. كان رد فعل المالكي في تهميش أهل السنة مبالغ فيه بعد ضلوع طارق الهاشمي في علاقته مع الإرهاب12. لم يواجه الهاشمي القضاء وهرب عبر كردستان إلى قطر من ثم منحته الحكومة التركية جنسيتها لكي يتفادى القضاء. فشل المالكي في بناء مؤسسات إدارية تنهض بالعراق الجديد وانتشر الفساد المادي والإداري في كل مكان11، 13،14.
لم يبالي المالكي باعتراضات السنة لمدة عامين وفي نيسان 2013 قتلت القوات العراقية 50 متظاهراً في قضاء الحويجة. بدلاً من مواجهة تسلسل داعش في الفلوجة بصورة حازمة التجأً إلى قصف جوي للمدينة وأرسل الميليشيات الشيعية إلى سوريا بدلاً من ذلك. كان عليه أن ينتبه إلى أن داعش نفذت 9540 عملية راح ضحيتها الآلف من العراقيين هذا العام فقط ونفذت 83 عملية اغتيال10.
كان من المتوقع تنحي المالكي عن السلطة بعد سقوط الموصل ولكن بدلاً من ذلك توجه نحو الانتقاد الشديد للسنة والأكراد في خيانتهم للوطن. بعد المجازر الوحشية لداعش وحلفائها ترى الغالبية العظمى من شيعة العراق يلتف حوله خوفاً من عناصر تسميهم بالروافض وتطالب بقتلهم وسبي نسائهم. لا أحد يتوقع بقاء المالكي في السلطة مستقبلاً وخاصة أن المرجعية الدينية في النجف الأشرف لا تطيقه. لكن مع تلكؤ العالم الغربي والعالم العربي المؤيد لداعش لا يمكن التخمين بموعد نهاية الحرب الأهلية العراقية وبقاء العراق موحداً.
المصادر
1- التايمس اللندنية 22 يونيو 2014.
2- التايمس 22 يونيو 2014 والايكو كاردف 23 يونيو 2014.
3- الجيرو سلم بوست 21 يونية 2014.
4- الإيكونيميست 13 يونيو 2014.
5- التايمس اللندنية 18 يونيو 2014.
6- الإيكونيميست 21 يونيو 2014.
7- التايمس اللندنية 21 يونيو 2014.
8- التايمس اللندنية 23 يونيو 2014.
9- سداد جواد التميمي(2010). العراق و لعنة النفط. الأخبار.
10- سداد جواد التميمي(2010). مستقبل العراق. الاخبار.
11- اسداد جواد التميمي(2013). العراق ولعبة الأزمة الطائفية. الأخبار.
12- سداد جواد التميمي(2011). القضاء بين شتراوس كان وطارق الهاشمي. الأخبار.
13- سداد جواد التميمي(2011). خواطر لنواب العراق.الاخبار.
14- سداد جواد التميمي(2011). على هامش العصاب العراقي الطائفي. الأخبار.
15- سداد جواد التميمي(2012). كردستان وطن من تصميم الله. الاخبار.
واقرأ أيضاً:
وش دمّر العراق بحثاً عن يأجوج ومأجوج!/ سيكولوجيا الفساد في العراق/ ثورة الغضب العراقي من الشمال إلى الجنوب/ اليقظة العراقية... هل اكتملت شروطُها؟!/ نظرة سريعة حول أصل اللغة الكردية/ كوردستان العراق