كان عام 2014 حاسماً لحكومة العراق وشعبه وكشف هشاشة المؤسسات التي تدير الدولة. مارس العراق العملية الديمقراطية في بداية العام ولكن سقوط الموصل على يد قوات يمكن تسميتها بقوات سنية كشف عدم كفاءة القوات العسكرية التقليدية أولاً وهشاشة وفساد الحكومة المركزية في بغداد وألاعيب الحركة السياسية بين بغداد وأربيل مع وجود مرض مزمن استوطن العراق منذ عقود من الزمن ولم يتم القضاء عليه ألا وهو الفساد المالي والإداري الذي يفتك بالبلد من الشمال إلى الجنوب. تولت قيادة القوات السنية الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) والتي سرعان ما أحكمت قبضتها ونشرت سلطانها على مساحات واسعة من شمال العراق وغربه. تصاعدت الأحداث ولولا تدخل حلف شمال الأطلسي وحلفائه لاجتاحت داعش بغداد وجنوب العراق وفرضت سلطانها على وادي الرافدين.
تتحلى داعش والحركات الجهادية في العالم الإسلامي بأدنى مستويات الإنسانية والحضارة البشرية في يومنا هذا كما يشهد لها بذلك جرائم مجزرة الأطفال في باكستان، المتاجرة بالفتيات في نيجيريا والتطهير العراقي في العراق وسوريا. لم تسمح القواعد الدولية القانونية والضغوط الاقتصادية والمحلية لدول التحالف إرسال قوات برية ولم يكن لها إلا خيار واحد وهو مساندة القوات القتالية المتوفرة في العراق وعلى رأسها الميليشيات الشيعية التي ملأت الفراغ الهائل في الجيش العراقي. بعد سقوط الموصل وتزايد تهديد داعش لبغداد أصدر آية الله السيستاني فتوته للجهاد ضد داعش. الحق أن هذه الفتوى لم تكن تستهدف دفع زخم الميلشيات الشيعية ولكن لم يكن هناك غيرها لتستجيب لهذا النداء.
إيران والعالم العربي:
وضع الكثير من المؤرخين الثورة الإيرانية عام 1979 في مقام الثورة الفرنسية والبلشفية في إمكانية تأثيرها على تاريخ المنطقة بسبب البعد العقائدي. لم يأخذ الكثير هذا الرأي بعين الاعتبار ولكن الأحداث التي شهدتها منطقة الشرق الوسط والعالم الإسلامي أثبتت2 صحة هذه المقولة.
استغلت الحكومة الإيرانية الصراعات المحلية الإقليمية والطائفية لنشر عقيدتها الثورية من خلال تنظيم وكلاء لها في المنطقة ومع مرور الوقت أصبحت هذه السياسة الوسيلة المركزية لنشر النفوذ الإيراني في المناطق المتنازع عليها وأحرزت نجاحاً باهراً في لبنان.
انسحبت القوات السورية من لبنان عام 2005 تاركة خلفها فراغاً أمنيا وسياسيا، وظهر بعدها حزب الله كأقوى مجموعة سياسية وعسكرية في نفس الوقت. يمكن تفسير هذا النجاح في لبنان بالتزام حزب الله وخبرته القتالية ودوره في الدفاع عن جنوب لبنان في الصراع ضد إسرائيل ودعم إيران له. لكن هذا النجاح الهائل في لبنان لم يتكرر مع تدخل إيران الخفي والعلني لدعم حركات الموالية لها في المناطق الأخرى ويشمل ذلك حماس.
قام الربيع العربي في تونس ونجح في مواجهة التحديات. لكن الربيع العربي في البلدان العربية الأخرى تحول إلى صراعات وحروب أهلية لأسباب عدة ونتج عنه عقم السلطة المركزية بل وحتى غيابها أيضا كما هو الحال في ليبيا واليمن وسوريا يضاف إلى ذلك تقويضه في البحرين ومصر. استغلت إيران الربيع العربي وأثبتت مهارتها أيضاً في توسيع نفوذها رغم جميع مشاكلها الاقتصادية. رغم الجرف العقائدي الذي يفصل الحركة الحوثية الزيدية من الشيعة الإثني العشرية، لكن إيران ساندت هذه الحركة التي تتحلى ببعد ليبرالي وهي الآن أقوى مجموعة في صنعاء، ولكن نجاح إيران الأكبر بعد الربيع العربي كان في سوريا.
أوشك نظام بشار الأسد على السقوط في الأشهر الأخيرة من عام 2012 وأثبت الجيش السوري بأن إعداده وكفاءته مجرد حبر على ورق أسوة ببقية الجيوش العربية. كان تقييم إيران للحرب الأهلية السورية دقيقاً وأدركت بأنها حرب ميليشيات. تدخل حزب الله في بداية عام 2013 وتم تنظيم وتدريب الميليشيات العلوية والشبيحة لتنتظم تحت لواء مجموعة تعرف بقوات الدفاع الوطني. كان تعداد القوات البرية لمجموعة الدفاع الوطني بضعة مئات في البداية تساندها قوات حزب الله وميليشيات عراقية شيعية تدخلت بعدما تحول ربيع سوريا إلى صراع طائفي إسلامي.
إيران والعراق:
واجهت الحكومة العراقية بالضبط ما واجهته حكومة بشار الأسد واستعملت إيران السياسة ذاتها في دعم الحكومة العراقية. الكل على علم بأن القائد الحقيقي للمعارك في العراق منذ اجتياح داعش هو الجنرال قاسم سليماني وتم تنظيم وتدريب الميليشيات الشيعية ودعمها من قبل قوات القدس للحرس الثوري الإيراني وحزب الله.
هناك العشرات من الميليشيات الشيعية العراقية جميعها مدعومة من قبل إيران. اتبعت إيران ولا تزال تفعل ذلك باستعمال سياسة حذرة مع هذه الميليشيات المختلفة والمتعددة وتحرص دوماً على عدم تعاظم فريق واحد وإن طلب الأمر لا تتوقف عن تحفيزهم للصراع بينهم. تصدرت ثلاث ميليشيات المسرح العراقي السياسي والقتالي وهي عصائب أهل الحق المقربة من نوري المالكي، كتائب حزب الله (سرايا الدفاع الشعبي) ومنظمة بدر. هناك أيضاً سرايا الخرساني، كتائب سيد الشهداء وحركة النجباء وجميعها شاركت في سوريا. هناك أيضاً سرايا السلام والتي هي نسخة جديدة لجيش المهدي التابعة لمقتدى الصدر وهناك لواء ذو الفقار التي حاربت في سوريا وعادت إلى العراق بعد اجتياح داعش.
يتحسسن الإشارة الى بعض صفات هذه الميليشيات وهي:
1- ترتبط هذه الميليشيات بشخصية دينية شيعية تساعدها على اكتساب شرعية دينية وشعبية جماهيرية مثل أنصار العقيدة والشيخ جلال الدين الصغير وسرايا عاشوراء وعمار الحكيم.
2- تحاول بعض الميليشيات إثبات وجودها بعيداً عن منظمة بدر.
3- رغم وجود خلاف ظاهري بين تيار الصدر والتيارات الأخرى ولكن أهداف جميع هذا التيارات يكاد يكون واحداً.
4- رغم رحيل المالكي لا يوجد أي دليل على تضاؤل شأن هذه الميليشيات على الساحة السياسية والقتالية.
مستقبل العراق مع هذه الميليشيات:
لا أحد يعلم متى وكيف ستنتهي الحرب في العراق ولكن هذه الميليشيات ستكون بلا شك مصدر ضغط على الإدارة السياسية العراقية ومن خلالها ستحكم إيران نفوذها على العراق.
ومع نهاية عام 2014 هبط سعر برميل النفط إلى ما يقارب 60 دولاراً وميزانية العراق السنوية مبنية على سعر 110 دولاراً للبرميل وهذه كارثة اقتصادية بكل معنى الكلمة. قد يظن البعض بأن دعم إيران لهذه الميليشيات سيتضاءل مع الأزمة الاقتصادية الراهنة ولكن الظروف الاقتصادية الصعبة قد تزيد من شان هذه الميليشيات في داخل العراق. الحقيقة المرة هي أن هذه الميليشيات ظاهرة غير صحية لا تعكس إلا حقيقة واحدة وهي تمزق العراق.
الملاحظات:
1- الكثير من الحقائق في هذا المقال تم استعارتها من بحوث السيد أيمن جواد التميمي الباحث الخبير في الأمور السياسية والجهادية للشرق الوسط.
2- مقولة تأثير الثورة الإيرانية على الأحداث في الشرق الأوسط تحدث بها الكثير من الخبراء في هذا الشأن منذ الثمانينيات مثل برنارد لويس وجارلس إيفنز وبارنبي روجرز.
3- الآراء أعلاه والاستنتاجات هي لكاتب المقال ولا تمثل أي توجه سياسي أو طائفي.
واقرأ أيضًا:
دور اليهود في الحرب العدوانية على العراق / بوش دمّر العراق بحثاً عن يأجوج ومأجوج! / سيكولوجيا الفساد في العراق / اليقظة العراقية... هل اكتملت شروطُها؟!