مسرحية الإسكندرية.. فوضوية الاستهزاء
الشبهة الأولى
عندما تعرَّضت لمسرحية الإسكندرية التي عرضها إخواننا المسيحيون على مسرح إحدى كنائسهم في مرة سابقة؛ كان منهجي في الرد قائمًا على استنكار ما تضمنته المسرحية من سخرية فجَّة، لا تمتُّ للنقد العلمي الفني بصلة، ولا يمكن لأحد أن يقرر غير ذلك، ليس حَجْرًا على رأي أحد، ولكن لأن أصحابها قد ارتضوا لها منذ البداية أن تصاغ في أسلوب يدعو إلى السخرية والاستهزاء.
أما الآن وفي تلك القراءة الثانية الهادئة؛ فأريد أن أنصب الميزان، ميزان حق لا تعصب فيه ولا عوج، كما أمرنا ربنا عز وجل، فأرد على الشبهات التي حاول الأخوة الترويج لها في هذا النص «المسخرة»!
والمسخرة -حتى لا أُفهم خطأً- كلمة فصيحة، تعبر عن فن قديم يشبه ما يعرف بمسرحيات «الكوميديا» في العصر الحالي، وجمعها «المساخر»!!
ونستطيع أن نحصر الشبهات التي وردت في النص فيما يلي:
الشبهة الأولى: المسلمون يرشون أصحاب الديانات الأخرى للدخول في دينهم.
الشبهة الثانية: المسلمون متخلفون متواكلون ولا يأخذون بأسباب الحضارة.
الشبهة الثالثة: المسلمون جفاة غلاظ، لا يتورعون عن سفك الدماء.
الشبهة الرابعة: التعريض بالصحابي الجليل عمر بن الخطاب ورميه بالغلظة (اختيار الشخصية المتهورة في النص باسم عمر).
الشبهة الخامسة: القرآن هو مجرد نص موسيقى موزون يشبه الشعر، ولكنه يتدنى عن الشعر؛ حيث لا معنى من ورائه.
وسوف أحاول من خلال عدة مقالات، دون إثقال وحسبما يتيسر، أن أرد على تلك الشبهات على قدر ما لدي من علم بالأمر، لا أتجاوز، وليصوبني من شاء إن كنت مخطئًا.
الردُّ على الشبهة الأولى
«المسلمون يرشون أصحاب الديانات الأخرى للدخول في دينهم»
ربما كانت تلك هي الشبهة الوحيدة التي عرضنا لها سابقًا بشيء من الذكر، حيث كانت من الفجاجة بمكان! وبيَّنا أن المسلمين لا يعِدُون أحدًا بشيء مقابل إسلامه، ولم يثبت أبدًا أن مسلمًا أعطى رجلاً مالاً وقال له: أعطيك هذا مقابل أن تدخل في الإسلام!
والمسرحية تتضارب مع نفسها في ذلك المجال؛ فإن كان المسلمون من القوة والتمكن -والغلظة أيضًا- بحيث يطاردون الناس في الشوارع، ويقتلونهم في عقر ديارهم من أجل الدخول في دينهم؛ فما الذي يدفعهم إلى بذل الأموال هكذا في مقابل ذلك؟! أليس من الأفضل أن يشتروا بتلك الأموال سلاحًا يقاتلون به هؤلاء الكفرة الفجرة! ويغصبونهم على الإسلام غصبًا! بدلاً من أن يمنحوه لفرد مقابل إسلامه هو فقط؟!
أقول: وربما وردت تلك الخاطرة على أذهان البعض بسبب ما يحدث في بعض دوائر الانتخابات لنواب مجلس الشعب المصري! حيث يحدث أن يقول حضرة النائب (باعتبار ما سيكون) لمواطن: «امنحني صوتًا؛ تأخذ جنيهًا!»، و«الجنيه» على سبيل التمثيل بالطبع؛ حيث لو قال له: «جنيهًا» في ذلك الزمن لبصق في وجهه!
ولكن على أي حال المجال مفتوح لمن يرى العكس أن يثبته لنا؛ بالدليل والشهود الناطقين، لا بالسخرية والتلسين!
نعم.. ربما يأخذ المسلمون بيد البعض من الفقراء الداخلين في دين الإسلام، تمامًا كما يفعلون مع فقراء المسلمين أنفسهم، وهذا هو ما شرعه لهم ربُّهم ثم نبيُّهم، أما هؤلاء الذين يعدون بمقابل من أجل الدين؛ فهم من الشهرة بحيث إنهم معروفون للجميع، وهم يفتخرون بذلك والجميع يعلم.
وأريد أن أؤكد هنا على شيء هام؛ وهو أن دين الإسلام لا يعترف أصلاً بالمساومة على الدين كمبدأ، فالمساومة تعارض كثيرًا من نصوصه ونصوص سيرة نبيه (ص)، وقد جاء فيهما ما يكفي المخلصين لإثبات ذلك؛ وربما لو سمح للمسلمين شرعُهم بذلك، فقالوا لبعض القساوسة، وأنا أقول (البعض): «خذ مليونًا -مثلاً- مقابل إسلامك»؛ لقال: «ما رأيكم بنصف مليون وأتهوَّد فقط؟!»!
وفيما يلي بعض الشواهد لمن كان له قلب أو ألقى السمع:
أولاً: الشواهد من القرآن:
أما عن شواهد القرآن فهي أكثر من أن تحصر، وهي في مجملها تدل على سماحة هذا الدين، وأنه لم يأت ليفرض على العباد، وحتى في تلك المواقف التي كان يجهد فيها النبي (ص) نفسه برحمته الرقيقة رغبة في إسلام من يدعوه؛ كان الله ينبِّهه إلى تلك النقطة الهامة؛ وهي أن الأمر لا يتعلق بدخول المدعو في الإسلام، وإنما يتعلق بتبليغه أمر الله فقط، أما الهداية فهي شأن آخر لا علاقة لأحد به، ولا حتى النبي.
(1) قال الله في القرآن: «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» [البقرة: 256].
(2) وقال عز وجل: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» [الكهف: 29].
(3) وقال تعالى: « وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » [يونس: 99].
(4) وأمر نبيه (ص) بأن يخاطب الكافرين بدينه بقوله: « قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ* وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» [سورة الكافرون].
ثانيًا: الشواهد من سيرة محمد (ص):
أما عن سيرة محمد (ص) فقد ورد فيها أخبار من الكثرة بحيث تجعل من عدم المساومة على الدين مبدأً غير قابل النقاش؛ ومن ذلك ما يلي:
الموقف الأول:
أتى محمدٌ (ص) بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له «بيحرة بن فراس»: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب! ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك.. أيكون لنا الأمر من بعدك؟!
فقال محمد (ص): «الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء».
قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟!! فأبوا عليه. [رواه الـطـبري في تاريخه: (2/ 84)، وابن كثير في سيرته: (2/ 158)].
أرأيتم رجلاً يفاوض على النُّصرة وهو في أشد حالات الضعف والحاجة إليها؟!! وفي مقابل ماذا؟! أن يمنحهم شيئًا لا عناء فيه، وليس مما في ذات يده، وإنما هو مما في رحم الغيب! والله ما أسهلها من خطة لو أنه أرادها!!
الموقف الثاني:
ذهبت بعض أعيان قبيلة «كندة» إلى محمد (ص) فقالوا له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك؟
فأجابهم محمد (ص): «إن الملك لله يجعله حيث يشاء».
فقالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به! [ابن كثير في سيرته: (2/ 159)].
الموقف الثالث:
قدم أربد بن قيس وعامر بن الطفيل المدينة على محمد (ص)، فانتهيا إليه وهو جالس، فجلسا بين يديه؛ فقال عامر بن الطفيل: يا محمد، ما تجعل لي إن أسلمت؟
فـقـال محمد (ص): «لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم».
فقال عامر: اجعل لي الوبر، ولك المدر.
فقال محمد (ص): «لا».
فلما قفل من عنده قال عامر: أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً!
فقال محمد (ص): «يمنعك الله»! [ابن كثير في سيرته: (4/114)].
وهذه النصوص في مجملها من البساطة والوضوح في الدلالة بحيث لا تحتاج لشرح، إلا لمن وضع أصبعه في أذنيه، وأغلق عقله، وعمي قلبه!
واقرأ أيضاً:
برنامج ((على البحر)) البذاءة تعلن عن نفسها! / بيدي لا بيد عمرو..