ثقافات الشعوب لها أعمار أنثروبولوجية1
هل ما زال فرويد مهماً وفاعلاً؟!
للإجابة عن هذا السؤال نورد سؤالاً آخر: هل مرجعية فرويد الثقافية ما زالت مهمة وفاعلة؟ فرويد إنما حاول إخضاع الطبيعة للثقافة ظنّاً منه أنه بذلك يحرر الفرد من قمع وقهر المجتمع، لكن نماذجه للنفس الإنسانية لم تفِ بالغرض، فقد زاد من تأثيم المجتمع لأعضائه وتأثم الفرد بحجة أن الطبيعة دنس وفجر وأن الثقافة تسامٍ وطهر، وفشل مشروعه الجديد في إعادة تربية الإنسان في ضوء ما ادّعى أنه علميّ. فرويد بحكم مرجعيته اليهودية والإغريقية المحافظة والأسطورية عالج "الجنس" بشكل خرافيٍّ متجاهلاً أن الإنسان مجرد حيوان وأن الثقافة لم تحوله إلى ملاك ملوث بغريزة الجنس الشيطانية.
جاء موريس (Morris) عالم الحيوان (1928 -) ليقرأ الوضع في ضوء حيوانية البشر وليس إنسانيتهم؛ حيث رأى أن الانسان يمتلك أكبر مخٍّ وأيضاً أكبر قضيب وأكبر مكورات أنثوية، ومن ثم فهو أكبر الثدييات طاقة جنسية، إضافة إلى امتلاكه أوسع توزع للنقاط الحساسة جنسياً في البدن سواء كان ذكراً أم انثى. وهذا يشير -فيما أرى- إلى غاية تطورية تسعى لجعل النسل خطوة تجاه المتعة، بدليل ما يحدث اليوم من الإقبال على فصل النسل بالتلقيح الصناعي وبنوك المنيّ مع استمرار البشر مشغولون بالجنس! وهو توجه مرشح للتضاعف في المستقبل بظهور تأجير الأرحام بل والرحم الصناعي وزراعة النسل في المعامل كما يزرع الورد في الدفيئات.
ديزموند جون موريس يسعى لفهم الإنسان من خلال فهم الحيوان مقارناً بين "قطيع" البشر وقطعان الحيوانات، كتب "حديقة حيوان البشر" عن سلوك البشر المتكدسين بالمدن، حيث يرضون بالعيش مزدحمين ازدحام الحيوانات في حدائق الحيوان مكتفين بالكفاف بنفس راضية أو قسراً، ومحرومين من العيش الطبيعي التلقائي والعلاقات الاجتماعية الطبيعية، معرضين أنفسهم للملل والقمع والكبت بل ومطالبين بتكييف النفس وفقاً لكل هذا القسر على عيش سيء! مما نفهم منه بدء نقد سلبيات الحداثة بينما ما زلنا نحن نجاهد في إلغاء تأثير ثقافة بدوية حان انقراضها منذ زمن.
كما أن علم النفس التطوري يرى أن الإنسان يتكيّف نفسياً عبر الزمن مع ما يواجهه من معضلات البيئة، ومن ثم فجميع خبرات البشر صالحة للتطبيق من قبل أي فرد بشريّ، رهناً فقط بصلاحيتها للمعاصرة النسبية المتغيرة عبر الزمن وليس بمجرد تقديس سرمديّ للأسلاف. فكما يسعى التطور إلى الارتقاء بنماذج الإنسان فسيولوجياً للوصول إلى ما نحن عليه الآن وإلى ما هو أكثر تطوراً في المستقبل، كذلك يسعى التطور للرقيّ بنماذج الإدراك والمعرفة والذكاء الصناعي لتتطابق مع تطور المخ بحيث تنبذ نماذج النفس والعقل البشري تلقائياً إذا انهارت بسبب انهيار مرجعيتها الثقافية ولم تعد صالحة لحل معضلات آنية، تماماً مثلما تطرح قطع الصاروخ على مراحل إذا أردنا الصعود لأعلى ضد رجعية الجاذبية الأرضية -إن جازت المقاربة-.
كنت أناقش يوماً أصولياً، فما أن تلفظت بكلمة "تاريخ" حتى صاح قائلاً: "لا يوجد تاريج لدينا" هنا تبيّنت استحالة الوفاق لأني أؤمن بالتاريخ وما قبله بل وما بعده، في حين أنه لا يؤمن إلا بسنة تنسك! وفي ظل تفكيري الفردي منذ صباي وعيت في ظل عيش المؤسسة العسكرية وعبد الناصر أننا نعيش توجيهاً ثقافياً من قبل السلطة لكل المجتمع ككتلة بشرية وللفرد كإنسان بحجة الجهل بمسار التوجه القومي. اليوم أجدني أواجه بموقفي الرافض للتلقين والتوجيه الديني بحجة الجهل بطريق التنسك الحقيقي. واليوم من واقع إيماني بالتطور أرفض أي حجر لمجتمعي واضطهاد لفردي يعيق التطور الثقافي، علماً بأن الإعاقة من قبل الرجعية يمكنها إصابة المجتمع في مقتل ربما أشد من السلبية الجيولوجية في شكل الزلازل والبراكين وسائر الكوارث الطبيعية، فبدلاً من التقدم الإيجابي ننتكس سلباً.
التكالب على فرويد هو بدقة أكبر تكالب على المرجعية الثقافية لفرويد والتي تنتمي إلى عقل العالم القديم والعصر الوسيط، والتي نشهد اليوم سقوطها لصالح عقل العلم الحداثيّ، الذي يؤدي تلقائياً إلى سقوط الكثير بداهة كسقوط منطق أرسطو الصوري. ورغم تجاوزنا لفرويد فلديه قيمة تفيد وعينا، وذلك حين انتزع من الشعور الطبيعي شعوراً موازياً ثقافياً ثم اللاشعور الثقافي الموازي للغريزة، وحين انتزع من الطاقة الفسيولوجية ما أسماه "لبيدو" كطاقة ثقافية تغذي وظائف النفس.
فرويد مثل كثر عاشوا بقناعة أن عقلهم حضاريّ تقدميّ مقابل ثقافات بدائية تركت جانباً للدراسات الأنثروبولوجية، لكن مع تقدم العلم والاحتكاك بالمجتمعات البدائية في أستراليا وغيرها، وظهور ستراوس الذي أكد ضرورة إدخال كل الثقافات ضمن حيثيات اتخاذ القرار حين نبني المجتمع الحديث والحداثي، لم يعد مستساغاً سرمدة قيمة ثقافية فشلت في التقدم بالبشر. وكلام ستراوس ضمنياً يفيد أننا أثناء صنع وبناء حاضرنا لا يلزمنا فقط مراعاة ماضينا بل إنما مستقبلنا أيضاً، فالحوار بين الماضي والحاضر والمستقبل جدليّ، وبينما نتبنى الإيجابي من الماضي نستشرف الإيجابي من رؤى وتنبؤات المستقبل لنتمكن من تشييد المجتمع الحديث والحداثي المعاصر لحاضرنا.
المجتمع الحديث يتضمن ظاهرة الدولة الحديثة الناتجة عن تطور تاريخ البشر، ونحن نعاني اليوم بسبب تمسك بعضهم بمفهوم القبيلة -وقد ثار فرويد على ثقافة قبيلته إلا أنه ظلّ يهودياً إغريقيّ الثقافة مؤمناً بداروين- بينما غيرنا يتطلع لمفهوم الدولة العالمية عبر العولمة والشركات متعددة الجنسيات. ساد في العصر الوسيط نظام الإمبراطوريات استمراراً لنظام العالم القديم البدوي القبلي، إلى جانب إقطاعيات اعتمدت على دفاعات خاصة بها. وقد ظهر مفهوم جديد لنظام "الدولة" في أوروبا حين تعاظمت قوة وسلطة بعض الإقطاعيين، بعد انتهاء حرب الثلاثين في أوروبا 1618 - 1648.
في الدولة الحديثة ثلاث مؤسسات أساسية: المؤسسة التشريعية والمؤسسة التنفيذية والمؤسسة القضائية، إضافة إلى مؤسسة الجيش ومؤسسة الشرطة ومؤسسة الخدمات المدنية أو المحليات. قبل اختفاء الإقطاعي اختفى شيخ القبيلة، وكلاهما اختفيا ليظهر المجتمع بعقد اجتماعي وعاه جان جاك روسو (1712 – 1778)، يشترك في كتابته جميع أفراد المجتمع مكرسين دور الفرد ومحتكمين إلى الدستور.
أنا مؤمن بتأثر سلوكيات أي مجتمع بكل الوجود البشري؛ فإنني أرى ظواهر تاريخنا تمثل هواءً لعقولنا قد يزيد هنا وينقص هناك لكنه موجود يتسلل تماماً مثل الهواء الجوي ويشغل أي فراغ في بيئات عيشنا. وكما قلت سابقاً فقد ظهر البشر مجرد قطيع ثم صاروا قبيلة، وقد اقتنعنا اليوم جميعاً بتجاوز مصطلح "القطيع" لكن ما زال العديد منا يتمسك بمصطلح "القبيلة". وإذا استقرأنا التاريخ جيداً اكتشفنا ظاهرة استثنائية وجدت في خضم شيوع عيش القطيع وعيش القبيلة أدّى لظهورها الثورة الزراعية التي اجتاحت أربعة مراكز -ربما في آن واحد- والذي يؤكد وحدة الوعي البشري حين أبصر البشر على مدى النظر السهل الفيضي يتكون ويفعم بالخضرة عاماً بعد عام.
ظهرت الثقافة الزراعية ومن ثم الحضارة الزراعية المستقرة كجملة اعتراضية؛ فمصر لم تعد مجرد صحراء مشاع وإنما قامت الجيولوجيا والجغرافيا قبل البشر برسم حدودها قبل التاريخ، وعندما استلمها التاريخ لم يستلمها كفرد وإنما كشعب فلاحين متلاصقين، حتى الحاكم لم يكن شيخاً لقبيلة وإنما كان إدارياً مركزياً ينظم عيش شعبه ومجتمعه النهري بقراءة ملامح طبيعة السهل الفيضي حوله وليس بحكي طقسي سرمدي عن الأسلاف. السهل الفيضي حول النهر أحاطت به صحراء لامتناهية وبلا حدود، وكان على من يختار العيش فيها معاناة شتى صنوف القحط والجفاف بينما يتطلع الفلاح أسفل قدميه لينظم خرير الماء يأتيه من حيث لا يعلم، وكان على "إبراهيم" جد فرويد التطلع إلى السماء مترقباً خرير الماء يأتيه من حيث لا يعلم.
ظهر المجتمع في مصر كمجتمع متكامل متعايش، بينما بدأ اليهود كأفراد يتنسكون، لذا يتبين لنا فرق شاسع بين سلوكيات عيش مجتمع زراعي وسلوكيات فرد يعاني، هذا الفرد صار بهرمه شيخاً يرأس بعض أفراد صاروا قبيلة يلتصقون به. ظهرت في مصر دولة بملامح حداثية استثنائية بما فيها من حقوق الإنسان وإعلاء اسم للدولة هو "مصر"، بينما لشيوع أرض البدو لتشمل الصحراء كلها لم يتميز للبدو وطن وإنما تميز لهم قدوة عيش تنسكي هو شيخ القبيلة الذي صار هو الوطن الحقيقي والفعلي؛ ينظم لمن حوله عيشهم ويستعين بخبراته للتنبؤ بأحوال السماء ويبني لهم من الهياكل ما تيسر لتمييز الوجود الأرضي لشعبه، مثل هيكل سليمان أحد أجداد فرويد.
البدو بسبب غلبة أكلهم اللحم أقوى بنيةً، وبسبب تعودهم جفاف الصحراء أصلب عوداً، وكل حروب العالم القديم والعصر الوسيط قادها البدو الذين طمروا المجتمعات النهرية رافعين "حقوق القبيلة" عالياً، فمتى ظهر للفرد حقوق؟. كان للفرد حقوق في المجتمعات النهرية طمرها البدو، ثم عادت للظهور مع الانفجار السكاني والانزياح الجبري عن ثقافة القبيلة والبداوة، فمتى ظهر مصطلح "حقوق الإنسان"؟!.
قلنا سابقاً أنه بعد تخلّي البشر عن مجرد جمع والتقاط الطعام، اهتدوا إلى تدجين الماشية لتلتقط بدلاً عنهم ما يستحيل أكله من كلأ فتحيله إلى بروتين ولبن، وصار هذا النسق صورة أساسية لعيش البشر وتحلقت قبائل حول شيخهم وكلئهم دون وطن لأن انتماءهم في الأصل إلى القبيلة البدوية والشيخ البدوي، ودون عقل فردي لرضاهم بالعقل الجمعي. مجتمع الفرد وقانون الفرد ظهرت إرهاصاته في المراكز الزراعية الأربعة التي ظهرت قبل عشرة آلاف عام في مصر والصين والهند وما بين النهرين. ففي الصين ظهرت الكونفوشيوسية لاحترام الآخر وحقوقه.
وفي الهند ظهرت البوذية تحترم الحرية والمساواة والعدل. وفي مابين النهرين ظهر قانون نسبه حمورابي إلى ربه الشمس ضامناً العدل ومنع الجور. ولدينا في مصر ما يعبّر عن اتجاه وضعي بالكامل في شكل وثيقة الفلاح الفصيح. القانون الوضعي له جذور في الثقافة النهرية القديمة، والتي طمرت بتغلب هجرات الشعوب البدوية اكتساحاً لخضرة المراكز الزراعية الأربعة، واستعانة بما تأصل في بابل من ظهور تعبد حمورابي لرب سماه الشمس شارك فيه مصر، وإن تميز بكونه مجرداً جاهد أخناتون لتمثيله عبثاً فأبقى على أذرع مادية ممدودة من قرص الشمس.
شهد العصر الوسيط ظهور المجنا كرتا الإنجليزية Magna Carta عام 1215 حيث تجمع أمراء الإقطاع للحد من سطوة مليكهم، وأصدروا وثيقة تقنن للملكية وتضمن حرية الأفراد والتنقل والتجارة وتمنع إصدار ضرائب دون موافقة البرلمان. في بداية الدولة الحديثة قلّصت سلطات الملك شارل الأول ملك إنجلترا 1628 بوثيقة أعلت من سلطات البرلمان وأكدت قانون الماجنا كرتا.
الخطوة الثالثة الحداثية تخطت الإصلاح المقتصر على داخل الدولة الواحدة ليشمل إصلاحاً دولياً مقرراً حقوق الإنسان دولياً؛ فبعد مآسي الحرب العالمية الأولى وتشكيل عصبة الأمم صدر عنها ميثاق حقوق الإنسان، وبعد الحرب العالمية الثانية تشكلت الأمم المتحدة وتمّ تأكيد وتكريس ميثاق حقوق الإنسان.
لم يكن وارداً انتصار فرويد لحقوق الإنسان بسبب انشغاله في معالجة ثقافته اليهودية والإغريقية بما ظنه علمياً وتقدمياً. قبل ذيوع فكرة "حقوق الإنسان" التي انتصرت بالكامل لحرية الفرد كان سلوك ومصير الفرد يتحكم فيه المجتمع أو القبيلة، وكان المجتمع يحيل وظيفته إلى بنيته الأساسية وهي الأسرة، بينما القبيلة تحيل وظيفتها إلى بنيتها الأساسية وهي العائلة. وللوهلة الأولى تبدو الأسرة هي العائلة، لكن الأسرة هي البنية الذرية للمجتمع والمستقلة عنه في نفس الوقت والمشكَّلة من أب وأم وأولادهما، بينما العائلة تتطابق مع القبيلة وتتشكل من أسرة تمتد إلى الجدّ أو عدة أسر تشترك في جد واحد، يكون عادة من طرف الأب لأن الأم وشجرتها محرومة من التمثيل في العرف القبلي، وعندما تنمو العائلة وتكاثر تصبح عشيرة.
البدو لا يعرفون -وليس لا يعترفون- بشيء يدعى تاريخاً، ولا مجتمعاً ولا أسرة مكونة من أفراد تتعايش، إنما يعرفون القبيلة والعشيرة والعائلة المكونة من عناصر تتنسك! وقد درس فرويد داخل هذا النسق الضغط الواقع على الفرد قمعاً وقهراً من خارجه وكبتاً من داخله دون أن يبرر حق الفرد في التمرد للخروج والهرب لتحرير نفسه، إنما زاد في الضغط عليه باختراع منظومة تجعل الفرد يتمرغ في التأثم وقبول تأثيم العائلة والعشيرة والقبيلة.
مع بدء ظهور وسطوع الحداثة ببروز المنطق العلمي وإعادة التعرّف على بيئة البشر بالاستكشافات والمسح الجغرافي الحديث لسطح كوكب الأرض، تقزّمت ثقافة البداوة وتحجّمت مفاهيمٌ من قبيل "حقوق القبيلة" مقابل الاعتراف بحقوق البشر جميعاً بما فيهم مجتمعات كانت تعدّ قبلاً خارج إطار الإنسانية كمن كانوا يعيشون على خط الاستواء والذين وجدوا أنفسهم مرغمين على العيش كعبيد أسروا وشحنوا كالأنعام إلى العالم الجديد. أيضاً غابت صورة الامبراطوريات الموالية للبطل الفرد مثل "الاسكندر"، وغابت القبيلة للشيخ المتنسك مثل موسى وداود وسليمان، وكان فرويد يعتبرهم جميعاً شيوخا لقبيلة اليهود.
وإذا بالفرد يبرز وسط الانفجار السكاني وتكدس البشر كتفاً بكتف زاهداً في البطولة الفردية تاركاً إياها للمسابقات الأولمبية، وباحثاً عن عيش هادىء ومقترباً من الطبيعة بعد فشل الثقافة في تلبية أحلامه، مما ولّد جدارة الفرد بحقوق حرة بعيدة عن تسلط بعضهم بحجة قبلية تلبست بتكريس طقسي سرمدي للأسلاف. سقط مفهوم القبيلة كنسق اقتداء بهرم متنسك يحتل وحواريه أرضاً أورثه الله إياها. وعاد للبروز نسق مصر المجتمع النهري ليس كمجرد أرض وإنما وطن جيولوجي وجغرافي وتاريخي. دولة مصر كان لها حاكم يمكن الثورة عليه رغم ربط نسبه بالسماء، واقرأ في ذلك وثائق الفلاح الفصيح. النسق المصري ورثه النسق البدوي القبلي وانحرف به قبل الانتقال إلى النسق الإقطاعي الأوربي.
ثم جاء القرن السادس عشر الذي شهد ظهور مدن كبرى كما شهد توجه الملوك إلى تكوين ممالك معتمدة على توحد وطني. ويأتي جان جاك روسو (1712 – 1778) ليعلن أن أفراد المجتمع يتعايشون وفق عقد اجتماعي وضعي، وتأتي الثورة الفرنسية (1789) مطالبة بالثلاثي المعروف: "الحرية الإخاء المساواة" ليظهر بذلك مبدأ المواطنة. ولهذا فحقوق الإنسان ارتبطت بعدة تواريخ:
1) 1215 – المجنا كرتا
2) 1628– أعادة تكريس الماجنا كرتا
3) جان جاك روسو (1712 – 1778)
4) 1789 – مبادىء الثورة الفرنسية.
اكتساح كوكب الأرض بالبشر أعاد النظر في مصداقية الثقافات، ولم يعد مقبولاً إدعاء بعض البشر أو بعض القبائل تمثيلهم للجنس البشري وإزاحة بقية البشر جانباً. هذه المصداقية الزائفة وهذه الإزاحة المغرضة دعا إليها الانتماء إلى العقل القبلي الجمعي البدوي، والذي كان مقبولاً في السابق كبديل للحدود الجغرافية. ففي مصر محكمة الحدود الجيولوجية والجغرافية، لم يكن المواطن بحاجة لحماية قبلية بعد اعتماده على مجرد تواجده داخل حدود وطنه، بعكس فرد في مطلق صحراء يهدر فيها الدم بسهولة افتراس القوي للضعيف.
الانتماء القبلي ساد العالم القديم والعصر الوسيط، وتعزز هذا الانتماء بتعميق ثقافي بدوي واعطائه حصانة حرمة طقسية سرمدية تعمّدت إلغاء ثقافات المراكز الحضارية الزراعية الأربعة مصر والصين والهند وما بين النهرين. وقد خرجت شعوب عاشت على هامش هذه المراكز، ويهمني للتمثيل على ذلك ذكر زنوج خط الاستواء بأفريقيا الذين فاتهم ركب الحضارات القديمة وجرّوا جرّاً إلى حضارة الحداثة جبراً باستعباد صريح، ولم يعد في إمكانهم اليوم لضمان حماية عيشهم سوى الانضمام إلى عموم البشر بعد انتثارهم وتسربهم من الانتماء القبلي الضعيف الذي كان لهم بلا سند من بقايا ثقافة المركز الحضاري المصري، ولم يدخلوا في إطار دولة حداثية صنعت من مغامري البشر في جنوب إفريقيا، وأصبح من حقهم اليوم المناداة مع جميع المهمشين والمضطهدين فقط بمجرد حقوق الإنسان وهي حق من لا حق له.
الوطن لدى البدو افتراضي؛ الوطن هو شيخ القبيلة أينما حلّ حلّت القبيلة، وطبقت قوانين شيخ القبيلة بسبب طبيعة عيش الصحراء حيث الترحال والانتجاع هو القانون الطبيعي الحتمي. ولا نقول أن حقوق الإنسان تحققت في ثقافات الماضي فقد تحققت باستشراف المستقبل، إنما إيجابيات الماضي هي استشراف من بشر سبقوا أقرانهم في مثل المجتمع النهري. تظهر الطبيعة نتيجة لتطور الماضي، بينما الثقافة تظهر نتيجة استشراف المستقبل. مثلاً حقوق القبيلة التي تنكر حقوق الفرد لحساب حقوق القبيلة الجمعية لا يمكن مناقشتها في توازٍ مع حقوق الإنسان المرتبطة بحقوق الفرد وتشوفه للحرية والتي تناصر حقوق المرأة وعدم تشغيل الأطفال وتكرس الحقوق المدنية والهوية الطبيعية والثقافية.
فرويد (1856 – 1939) زعم انتمائه إلى داروين (1809 – 1882) أكثر من انتمائه إلى جان جاك روسو والثورة الفرنسية اللذين كرسا الدولة الحديثة، فإلى أي دولة كان ينتمي فرويد؟ بصيغة أخرى، نحن في زمن فرويد كنا خارجين من أجواء العالم القديم والعصر الوسيط وفي نفس الوقت مقبلين على عالم حديث. وكان يحلو لكثر التعلّق بثقافة تنهار، ومنهم فرويد الذي ارتبط وجدانه بثقافة اليهود وثقافة الإغريق الأسطورية رغم إيمانه بداروين مما يحتم علينا التعرف على نظام المجتمع آنذاك. المجتمع البدوي لا يقوم على مفهوم دولة اجتماعية وإنما على نظام تنسك فردي، لنفهم ذلك نرجع إلى منطقتنا والمركز الحضاري الزراعي الأول، مصر.
ظهر اليهود ناقمين ومن ثم ناقدين للمجتمع المصري ومؤسسين لنظام التنسك المبني على الاقتداء بشيوخهم وما أكثرهم لدى اليهود. صوّر المجتمع المصري لنا نموذج الدولة الحديثة قبل الآوان؛ بحيث نرى ما حدث بعد انهيار الحضارة المصرية القديمة مجرد انتكاسة بدوية. وفي دولة مصر القديمة نجد صيغة مسجلة لحقوق الإنسان مماثلة لحقوق الإنسان اليوم. فالفلاح الفصيح طالب بحقوقه من فرعونه ممثلة في العدل والمساواة والحرية وحقه في الحياة وفي العلاج وفي التعليم. اشتكى من إهمال الموظفين لواجباتهم، واضطراب الأمن، وضعف الملكية وانتشار السرقات، وتفشي الغش والخداع، وانحراف القضاء وارتشائه.
كان المجتمع المصري القديم يعيش وفق دولة سكانها مواطنين قبل أن تجتاحهم هجرات شعوب بدوية كالجراد دفعهم نحوها القحط والجفاف، بدءاً من الهكسوس الذين فتحوا أعين شعوب جنوب غرب آسيا على مصر ودلوهم على بوابتها غزة، لتنتكس مصر ويجهد ناسها جمعياً ذهنياً بسبب منافحتهم ثقافات بدوية تراكمت ودفنت ثقافتها الزراعية التي أنهكها طول زمن حضارتها فتهاوت مجهدة.
هذا المفهوم الذي يرى أن الغزو البدوي مجرد جملة اعتراضية يحاول البشر تجاوزها بالعودة إلى مجتمع الدولة وترك التقوى شأناً خاصاً بصاحبها يدفعنا إلى دراسة الفرق بين مجتمع مصر النهري وجماعات بدوية ترى في الجراد نصيراً لها. تحليل ذلك أن الصحراء بلا جراد وإنما تعبر الجراد فوق رؤوسهم قاصدة الخضرة فتفنيها كمقدمة فدائية، فإذ ضعف شعب الزراعة بهجوم الجراد هجم البدو، فما هو شر للمجتمع النهرى هو خير لجماعة البدو.
دولة البدو مجرد انتماءٍ تنسكي لرجل تقي، وكما ذكرت سابقاً هم لا يعرفون شيئاً اسمه "تاريخ" وإنما يعرفون شيئاً اسمه "سنة" يتنسكون بها. وطبقاً لهذا فإن فرويد اليهودي إنما يتعامل مع أفراد آثمين تضخم لديهم الضمير فصاروا يكبتون، وتضخمت لدى سلطنهم التقوى فصاروا يقمعون ويقهرون. العقل البدوي التائه في أرض ربه والذي حيّر عقل فرويد وهو يحاول فهم آليات تعقله للأمور، لم يفهم كيف التمس البدو عوناً في الجراد يعبر فوق رؤوسهم يتساقط بعضه فيأكلونه شيّاً ويلحظونه يغير على خضرة المجتمع النهرى فيحيلها يبابا فيفرحون بجند الجراد للرب الذي سبق لأجدادهم أن أكلوه قضماً.
فسّر اليهود عمل فرويد على أنه إلحاد، لكنه من قبل نظرة حداثية كان عاملاً ريادياً لإنهاء مرحلة ثقافية تضمنت ما يسمى المرحلة التاريخية بمجرد إضفائه مسحة علمية وإن تضمنت كثيراً من الزيف، لننتقل إلى مرحلة ما بعد التاريخ -بحسب ما يرى بعضهم-. المرحلة التاريخية بدأت منذ عشرة آلاف عام بالثورة الزراعية والتي شملت أربعة مراكز هي مصر والصين والهند وما بين النهرين متضمنة ظهور الأديان وحتى الثورة الصناعية والتي شملت أربعة مراكز أخرى هي بريطانيا وفرنسا وأمريكا وألمانيا. كل المرحلة التاريخية تمثل العالم القديم والعصر الوسيط، ومنذ ظهور الثورة الصناعية ومعاول الحداثة بما في ذلك معول فرويد نفسه تهدم ثقافات العالم القديم والعصر الوسيط من خلال:
1) إعادة فهم قصور ثقافة المرحلة التاريخية.
2) دمج ثقافات المرحلة: الثقافة الإغريقية واللاتينية والأديان.
3) أزاحت سطوة ثقافات العالم القديم والعصر الوسيط ثقافة الحضارة الزراعية في مراكزها الأربعة: مصر والصين والهند وما بين النهرين، وهذا في حد ذاته خلق مرجعية واحدة ثقافية، بينما توارت ثقافات الحضارة الزراعية رغم أن الثقافة الفرعونية ساهمت في إبداع الفلسفة الإغريقة التي بدورها أبدعت المنطق الصوري والأفلاطونية المحدثة التي ساهمت في ظهور الأديان.
إن اعتماد مرجعية فرويد على دمج ثقافة وثنية مع ثقافة توحيدية يعني أنه يعي شمولية وتماهي ثقافة هذه المرحلة التاريخية، في ظني أن مرحلة العالم القديم نهاية بالعصر الوسيط تنقسم قسمين: قسم أقدم شمل المراكز الثقافية الزراعية الأربع وهذه فقدت الارتباط الوجداني وصرنا نسترجعها من خلال التثقيف، وقسم تالٍ نجد فيه ثقافة فرويد اليهودية الذي ما زال سارياً فى الوجدان والذي صبغ تفكيره وتعهد بإعادة التعبير عنه في ضوء العلم الصاعد. اللافت أننا نجد لفرويد خصمين: بني ثقافته اليهودية يتهمونه بالإلحاد، وحداثيون يتهمونه بالتخلف والزيف! مما يشير إلى طبيعة موقفنا اليوم بين ثقافة تأبى الانقراض وحداثة تأبى إلا الانبثاق.
هل الجدل القائم هو نقاش حول توسيع مجال علم النفس والطب النفسي ليشمل ميداناً كان يختص سابقاً بعلاجه كلا من الدين والمجتمع؟
إن نقد فرويد أدّى إلى توسيع مجال البحث ليسحب البساط قليلاً من المصلحين الدينيين والاجتماعيين مما يحفظ لفرويد نبل هدفه للخروج من عقل العالم القديم والعصر الوسيط إلى عقل بدأ ينبثق بإهاب إرهاصات علم حداثيّ. ربما هذا ما يفسر الاتجاه العام لوضع حركة ضد الطب النفسي- العقلي كمرحلة تاريخية توطئة لدمج مفاهيمه ضمن مفاهيم الطب النفسي– العقلي التقليدية من خلال الاعتراف بحركات حريات النساء والشذوذ. وهل يساعد في إفشاء حركة ضد الطب النفسي- العقلي ظهور حركات كانت تمثل وصمة عار كاللواط والسحاق وثنائية الجنس؟
بهذا، فإننا أمام ليس فقط مجرد هدم فرويد وإنما بحاجة لتوسيع مجال فن طب النفس – العقل لتشمل ميادين كانت قبلاً تنبذ وتأثم دينياً وأخلاقياً وتعتبر ميداناً للقمع الاجتماعي والديني. فالشذوذ مثل اللواط والسحاق لم تخترعه الثقافة الحداثية، إنما وجد في ثقافة البداوة، حتى جاء اسم "اللواط" من ممارسة قوم لوط له، وجاء ذكر السحاق ومن يمارسنه شعرا ًبدوياً.
ففي حين يزداد استفادة علم النفس والطب النفسي -العقلي بالعلوم، يزداد قبول المجتمع لتنوع أفراده وخروج ما كان قبلاً منبوذاً ليجد له مكاناً في عموم المجتمع أو يحاول، وبذا يقلل من مسؤولية وسلطة كان الطب النفسي- العقلي يحتفظ بها. لقد تغيّرت نماذج السواء والمرض النفسي، وأصبح اتساع ميدان فن العلاج ممكناً لمن هو مع الطب النفسي التقليدي ومع من هو ضده تمهيداً لظهور فن علاج جديد يضم الكل بمرجعية ثقافية حداثية تلغي ثقافة العالم القديم والعصر الوسيط. ضد الطب النفسي- العقلي يمكن النظر إليه كنضال ينتصر لمن صرنا ننظر إليهم، كمضهدين ومقموعين ومهمشين ومنبوذين؛ بحجج انهارت مع انهيار عقل العالم القديم والعصر الوسيط مما دمج الحركات البشرية الحداثية في فعل مشترك شمل التوجه الجمعي والتوجه الفردي معاً في إطار اقتصادي -اجتماعي- فني بمسار توجهه الحرية التي تنير أمامنا الطريق.
لكننا من حيث أردنا السير فى طريق الحرية، بوغتنا باستلاء الدولة على سلطة كانت قبلاً في يد الثقافة القبلية البدوية. من هنا وضع ازاس Szasz مصطلح "الدولة العلاجية" عام 1963، حيث استولت الدولة على حق علاج رعاياها بالتدخل الطبي الزائف والذي كان في حقيقته قمع وقهر بحجة العلاج والتربية، سالبة حق الأسرة ومؤسسات المجتمع والدين بل وحق الفرد في أن يرى لنفسه ويختار.
والدولة في الحقيقة إنما تحتال مستغلة سطوتها على المواطنين منذ أن كانوا صغاراً، فتبدأ بالتحكم في سلوك الأطفال وتلقين الصبية وتوجيه الشباب، وتشيع في وسائل إعلامها زعم حرصها على تنقية المجتمع من المعتقدات الباطلة والتعصب والسلوك المنحرف بل حتى من القلق والاكتئاب والتدخين! وبتوسيع هذا المفهوم لم تعد يافطة "التربية والتأهيل والإصلاح" كافية لتوضع فوق باب السجن، بل صارت تصلح لوضعها فوق باب المجتمع ككل حيث صار من حق الدولة أن تتولى عن رعاياها كيف يشعرون وكيف يفكرون وكيف يتصرفون لتصبح أباً وأماً تأديبية وفاشية. وفي ظل هذا الفهم، وفي أجواء متخلفة لثقافة الغرب زمن العصر الوسيط كان اتهام الفرد المطالب بحريته بتعرضه لله والهرطقة اتهاماً جاهزاً تماماً كما هو الحال اليوم إن طالب بحريته في ظل سيادة الدولة أتهم بالجنون.
أنا ضد العقل القبلي الجمعي البدوي ومع العقل الفردي التلقائي المبادىء والمسؤول بتحفظ وحيد هو أن الحرية ليست غاية وإنما مسار نهتدي به، وفي ضوء هذا الفهم أرى أن زمن العقل القبلي الجمعي البدوي القديم لا تعنيه حرية الفرد إطلاقاً، بل يفضل نوعاً من العبودية تحت اسم الانتماء للقبيلة التي ينظر إليها اليوم باعتبارها قهراً وقمعاً، ونطلب إعادة النظر في تكييف جديد للصرعى والمجانين ليس كأنبياء ومستوري العقل.
إن استمرار القهر والعبودية في مرحلة الحداثة يطرح أصالة صفة الحيوانية في بني البشر، حيث استغلال البشر للبشر كامن في البنية النفسية للإنسان. فهل فقدنا الطبيعة ولم نصل إلى ثقافة ملائمة بسبب رفض الفرد التخلي عن تجاربه الشخصية في ضوء الحرية الحداثية (socialization versus individual autonomy) .
واقرأ أيضاً:
ثقافات الشعوب لها أعمار أنثروبولوجية1 / ثلاثة ساهموا في الحداثة! زولا، أورويل، فوكو2 / مصر تهمس لي تخشى انهيارها!