مصر فصلت جيولوجيا عن شمال قارة أفريقيا بهاوية دلتا النيل التي لم تكتمل جغرافيتها حتى اليوم، بل وإلى الأبد لن تكتمل بسبب إنشاء السد العالي الذي افتتح عام1971؛ فما زالت بحيرات الدلتا تمثل منخفضات لم ولن تمتلئ مثلث أو مخروط قارة أفريقيا، بنيته الجيولوجية الأساسية نواة صخرية وترسبات حجرية، شأن كل القارات؛ ولو نظرنا جيولوجيا إلى الوراء مئات الألوف أو ملايين السنين لوجدنا مثلث القارة مقضوما (كما لو قضمه فأر كوني جيولوجي) في ركنه الشمالي الشرقي.
القضمة من السعة أكبر من أن تسمى خليجا، لدينا في شمال غرب أفريقيا خليج سرت لكن هنا الحال مختلفا؛ فخليج سرت لا يستقبل مياه نهر ما بينما قضمة شمال شرق القارة تستقبل مياه نهر سيسمى لاحقا نهر النيل هذه المياه تتدفق إلى هاوية القضمة الهائلة محملة بكميات لا حدود لحجمها عبر ألوف السنين، من الرمال والطمي والحصى الصغير للتبعثر في عمق البحر الأبيض المتوسط؛ وتعلو رويدا رويدا بقاع البحر لتشكل الدلتا التي وحتى اليوم لم تصل إلى مستوى أكثر حجارة القارة انخفاضا وهي جهة راقودة (الإسكندرية) وكان محتملا لها الاستمرار في التبعثر إلى مالا نهاية إذا انعدم وجود حاجز يسد من جهة الشرق صادا للرمال والطمي والحصى المتدفق مقابل حاجز القارة الغربي الحجري في راقودة، هذا الحاجز وجد في شكل سد سيناء الحجري وهو جزء من جانب قارة آسيا الغربي الصخري؛ الممتد على استقامته شمالا إلى كنعان هذا الحاجز الآسيوي يتمم زاوية مثلث أفريقيا المقضوم.
النهر هو الذي غير منطقة الركن المقضوم، وعبر ملايين السنين تولى تعبئة القضمة مستكملا مثلث القارة؛ لكن الشاهد على الأصل المقضوم مازال قائما فشمال غرب أفريقيا الحجري يبدأ بجبال أطلس من المغرب حتى ليبيا حيث تغطي الأرض بسماح حجري، تستطيع السير فوقه شرقا مستشعرا الحجر مباشرة تحت قدميك حتى تصل إلى الإسكندرية؛ ثم بعد ذلك ستجد أن قدميك تطئان تربة لينة مكونة من الطين والرمل حتى بور سعيد هذه المسافة من الإسكندرية إلى بور سعيد ترسم الضلع الشمالي من مثلث القضمة الجيولوجية وتستطيع رسم الضلعين الآخرين إذا مددت خطأ من الإسكندرية إلى القاهرة وآخر من بور سعيد إلى القاهرة هضبة منف -المقطم- تمثل الجانب الحجري لشمال شرق قارة أفريقيا؛
فالصخر والحجر يلفان من نقطة الإسكندرية إلى ما يسمى اليوم غرب محافظة البحيرة عبر خط الطمي- الرمل بالصحراء الغربية لنصل إلى هضبة منف الغربية والتي بنى فوقها الفراعنة صروح حضارتهم؛ ثم نلف مع هضبة المقطم لندور شرقا ونعبر إلى سيناء وآسيا زمن بناء الفراعنة لصروحهم، كانت الدلتا مازالت منخفضة مفعمة بالمستنقعات لا يؤنسها سوى نقيق الضفادع؛ حتى نهر النيل عدم من يحد شكيمته فانطلق معربدا وسط المستنقعات مصرفا مياهه إلى البحر من خلال سبعة أفرع الشيء الدال هنا أن حضارة الفراعنة أفعمت جنوب الوادي بالمراكز السكنية والحضارية من منف إلى جنادل أسوان الصخرية، بينما اقتصر منها الأمر في الدلتا على مركز وحيد هو صان الحجر في حدودها الشرقية -محافظة الشرقية اليوم-؛
وربما كان مركزا عسكريا لمراقبة البدو القادمين من جهة آسيا عبر غزة وسيناء شرقا المصري القديم أمن واطمأن لحجارة الصحراء الغربية، امتدادا حتى سيوة الأمازيغية وجنوبا حتى ممالك كرما وناباتا ومرو النوبية؛ في حين خاف من مياه النهر بسبب فيضانه الذي لا آمان له فرغم أن الماء سبب الحياة إلا أنه أيضا سبب الهلاك، ولذا أوكلوا إليه كأوزريس أمر محاسبة الموتى؛ ولخوفهم من الفيضان اقتصر بنائهم في السهل الفيضي على عشش القش والبوص والطين المؤقتة بجوار غيطانهم وحظائر حيواناتهم في حين عمدوا إلى بناء راسخ بالحجر فوق الحجر والذي لا يناله أذى الفيضان وفي إطار هذا الفهم نعي كيف تردد مهندسي الإسكندر الأكبر، في اختيار موقع تشييد مدينته؛ حتى اهتدوا إلى موقع "راقودة" الحجري بعيدا عن طمي الدلتا وهنا يلزمنا تقرير أن مصر هي السهل الفيضي للنهر، أي هي طبقات ورقائق الطمي التي استمر النهر يأتي بها عاما بعد عام يرسبها فيملأ بها فجوات الأرض لتصير صفحة سمحاء؛ بينما تظهر غربا حجارة الأسكندرية فصاعدا تجاه شمال أفريقيا وتأتي شرقا حجارة سيناء كإطار ضام زام للسهل الفيضي يضاف إلى ضم وزم بالهضبة الحجرية الشرقية والهضبة الحجرية الغربية على طول الوادي.
قال جمال حمدان أن مصر من صنع أيدي ناسها عبر تاريخها، أيضا هي من صنع جيولوجيتها وجغرافيتها؛ كما هي من صنع نهرها الثورة الزراعية بدأت فوق الكوكب منذ عشرة آلاف عام، لتنقل البشر من صفر الزراعة إلى ثقافة جديدة؛ قبلها كانت صحراء أفريقيا الكبرى قد جفت بعد أن كانت سفانا خضراء مزدحمة بالبشر والحيوان والنبات مع التصحر صار ناسها بدوا وزحفوا نحو الأطراف، وامتلأت الواحات ومنطقة العوينات وتوشكى بهم يعيشون بداوة الصحراء جمعا للطعام ورعيا للحيوان ملتمسين بقعا من الرطوبة ضنينة؛
يتطلعون إلى السماء يمسحون صفحتها طوال الليل يدرسون أجرامها وكلما تقدم شجعان رعاتها غربا كلما عادوا ببشائر رطوبة وخضرة وجدوها هناك على مرمى البصر، في سهل فيضي عجيب يجري فيه ماء لا ينقطع تتقاذف فيه الأسماك وفوق حشائشه تتقافذ الحيوانات؛ أنه نهر سيسمى لاحقا نهر النيل موسما بعد موسم يتشجع البدو فيقتربون رويدا رويدا من السهل الفيضي، يعيشون فوق خضرته ويصطادون السمك والحيوان؛ ويكتوون بنار فيضانه يجرفهم جرفا فيغرقون موسما بعد الموسم ليهرعوا فيعتلون الضفتين شرقا وغربا ثم ما يلبثون يعودون قضوا في هذا الهوان قل نحو خمسة آلاف عام، لكن أذكيائهم أصروا على النجاح؛ من خلال دراسة السماء بالمراقبة ليلة بعد ليلة ودراسة الأرض بمراقبة النهر نهارا بعد نهار وعاما بعد عام رغم المعاناة نحو خمسة آلاف عام والبدو المصريين القدماء بين كر وفر أمام الفيضان، يزرعون ولا يحصدون وإنما يضحون بالقمح والشعير للفيضان؛ الذي يباغتهم فيتلف زراعاتهم ويغرقهم هم أنفسهم ويأتيهم بالتماسيح تلتهم أبنائهم.
وبدلا من التغني بالسهل الفيضي وما يضيفه الماء الجديد القادم من الجنوب بطبقة طازجة من الغرين؛ صارت الناس تكره الجديد وتخاف تصطاد الأسماك القادمة من الجنوب لاصطحابها التماسيح المتوحشة "هيلات" -الخوف الهائل- التماسيح والثعابين ومجرد الغرق تكونت لدى المصريين عبر آلاف السنين، وليس فقط مئات السنين التي لا تكفي لطبع الشخصية المصرية ببصمات ثابتة؛ تتحول مع الزمن إلى تيمات نفسية ثابتة علم الأنثروبولوجيا يرينا كيف تتكون السمات النفسية لمجتمع ما عبر معاناة ثقافية لآلاف السنين، ولذا أبرر اليوم مقولتنا التي برزت متمسكة بنضال عبر تاريخ ممتد سبعة آلاف عام؛
اليوم صرت أفهم كيف توارثنا جينات ثقافية حميمة عانينا آلاف السنين لندخلها ضمن سلة جيناتنا فتظهر اليوم لدى أكسل فرد فينا ربما لا يعرف سوى القعود القرفصاء في ريفنا الثورة الزراعية ذات العشرة آلاف عام كان نصفها الأول جحيما الثورة الزراعية شأن كل الثورات بدأت بكوارث حاقت بالبشر عبر العالم القديم من مصر حتى الصين، والناس السذج تفرح بالزرع والماء والسمك والماشية فإذا بها تفزع صارخة هاربة تولول؛ وتدوس بأقدامها بنيها وقد أقبل الفيضان يجرف بلا رحمة ولا شفقة البشر والشجر والحجر عدوا تحول بعد أن كان سلسا وهنا تدفق وعي الشر وظهر الشيطان عاريا في وعي الناس.
وظهر التناقض يأكل أكباد الناس قبل عقولهم؛ وظهر تقلبهم على جمر الخطر كما تقلبوا قبلا على كف الرحمة حدث هذا باكرا جدا وقضوا نحوا من خمسة آلاف عام من عمر الثورة الزراعية العشرة آلاف عام في كمد، وظلوا يعانون إلى ما قبل عصر الأسرات حين بالكاد اكتشفوا ظاهرة نجم الشعري اليمانية وتكهنوا بمقدم الفيضان؛ من حينها فقط بدأت العبقرية المصرية تفكر في مشروعها الحضاري مستخدمة ما توصلت إليه من ثقافة عظيمة الفائدة فما عليها سوى استغلال قدرتها على التنبؤ بموعد قدوم ماء النهر الآن ستسوي سهل الفيض بوضع طين مرتفع في الفجوات وستمسح السهل الفيضي وتقسم وتوزع الغيطان ليتجمع الناس، ويقر الجميع خلف كهنته بعون إيزيس وزوجها أوزير وابنهما حورس وفضلهم في تقسيم العام إلى ثلاث فصول فصل فيضان نترك الآلهة تفيض علينا فيه بالماء وفصل لبذر البذور وفصل لحصد القمح والشعير؛
تماما كما نحن اليوم نشمر عن سواعدنا ولساننا يلهج باسم الله لقد انبهر الناس قديما بمعجزة الخلق من خلال الولادة فوعوا أنه حتى النبات يلد وأن الأرض تلد، ومع وجود الحس لدى البشر والحيوان فقد تماهوا متعاطفين مع وجع الولادة لدى نسائهم وماشيتهم ووعوا تدلي الثمر فوق الشجر نوعا من تدلي الأثداء لرضاعة النسل وإطعام البشر كرما من الآلهة؛ فمجدوا إيزيس رمزا حتى أنهم حين كانت الطبيعة تهدأ كانت الكهنة تفسر لهم ذلك أن إيزيس مشغولة عنهم بالحمل والولادة وسنظل طوال زمن الدولة القديمة رهن هذا الوعي الخرافي السحري، والذي توطد ورسخ وكرسته كهنة آمون وكلما أنتج ثمارا عدت إيجابيا ازداد تمسك الكهنة ومن ورائهم الناس بسحرهم الخرافي؛ الشمس شمسهم والنيل نهرهم وهكذا شكلوا كونهم الأرضي حتى صرحوا أن جنتهم تقع وسط بساتين هذا الكون الأرضي وحتى تعجبوا لاحقا حين خرجوا مرغمين إلى الفرات فإذا به يجري عجبا من الشمال إلى الجنوب متحديا ناموس كونهم حيث يجري نهرهم من الجنوب إلى الشمال.
الثقافة والحضارة المصريتين صنيعة الدولة القديمة من خلال أربع أسرات أشهر فراعينها خوفو وخفرع ومنقرع، وأقدم هنا فقط نشاطين ضمن آلاف أنشطة صنعت تلك الثقافة وتلك الحضارة؛ أي اكتشاف نجم الشعري اليمانية واكتشاف مسح الأراضي واستخدام ذلك للرصد الفلكي ناس مصر عاشوا في الزمن السحيق عرايا يتطلعون إلى السماء يجترون تجاربهم وخبراتهم التي جمعوها عبر خمسة آلاف عام من أماكن وبيئات جغرافية عدة، فهم شعب تكون مع الزمن من بدو نبتة شرق العوينات وتوشكى -ورثة سفانا الصحراء الكبرى- وزنوج جبال القمر بين أوغندة والكونجو -ورثة شعوب خط الاستواء- وبدو الغرب الليبو المشواش -ورثة شعوب البحر-.
ترويض نهر النيل كان أمل الناس بعد ظهور الثورة الزراعية منذ عشرة آلاف عام، وقضى الناس مدة خمسة آلاف عام يرون أمام أعينهم النهر ينقلب زمن الفيضان وحشا كاسرا لا يدرون كيف يسيطرون عليه؛ حتى ظهرت بوادر وعي ناس بدو عاديين يعيشون في الصحراء حول النهر وسهله الفيضي ظهر وعي جديد سيندمج في ثقافة الإنسان عن علاقة الماء بعموم الإخصاب إذ يتم تخصيب الأرض بماء المطر أو ماء النيل أو ماء الذكر لأنثى الحيوان والإنسان، ومقدم الماء مع الفيضان هو ما تم قذفه من قبل أوزير مخصبا إيزيس؛
ليظهر حورس قويا فحلا يزود عن أبيه ويطيع أمه وهكذا في غياب العلم سحرت الخرافة وعي المصريين القدماء لقد فرح ناس مصر قديما بالشمس مصدر دفء الحياة ناس مصر أحبوا الشمس وقدسوا ما تعطيهم من دفء الحياة، وقد أخبرني طبيب شعبي أمي أنه يعرف صحة الشخص بتلمس حرارة موضع جلسته؛ فالحياة لديه هي حرارة مستمدة من الشمس وكم من مريض شفي إذا قعد في الشمس وكم شاهد المصري في الزمن السحيق القردة تتسارع لحظة شروق الشمس ووصول الدفء، إلى اعتلاء قمم التلال والصخور ترقص وتسجد فرحا بدفء أشعة الشمس وفهم الناس ذلك السلوك من القردة أنها تعبد الشمس؛ ومن فاق القردة في التقليد هم البشر الذين رأوا أنفسهم أحق من القردة بالتعبد للشمس فهل أعانهم رع أم أعانتهم ثقافتهم المتراكمة؟!
عبر آلاف السنين وبدو نبتة شرق العوينات وتوشكى يلاحظون وجود علاقة بين ظهور نجم شديد اللمعان وهطول المطر، الذي صار قضية حياة وموت ذاك الزمان حيث حل الجفاف والتصحر؛ وحدد بدو نبتة مشرق نجم سيروس (= شديد اللمعان) وهو نجم الشعري اليمانية برص أحجار باتجاه شروقه صيفا انتظارا للمطر منذ عام 4800 قبل الميلاد بدو نبتة لاحظوا علاقة بين ظهور النجم وبين فقط بدء سقوط المطر، لكن حول ذاك الزمن السحيق لاحظ بدو آخرون عاشوا أقرب إلى السهل الفيضي للنهر علاقة أخرى تربط ظهور هذا النجم وبدء مقدم ماء النهر أو الفيضان؛
لقد اكتشف المصريون القدماء قبل توجههم لتشييد أي بناء حضاري، نجم الشعري اليمانية أو سيروس = -أسطع النجوم- (Sirius) وسموه نجم إيزيس أو نجم النيل؛ حدث ذلك نحو 5000 قبل الميلاد هذا الكشف إنما كان كشفا للانقلاب الشمسي الصيفي يوم 21 يونيو حيث تكون الشمس في أعلى ارتفاع لها ظهرا فوق الأفق، والذي كان وقتها آنذاك يصادف 25 يونيو بينما الآن يصادف يوم 21 يونيو بسبب ما حدث من تغير في انحدار النجم في الفلك السماوي؛
لقد لاحظ المصري كيف أن هذا النجم يشرق قبيل شروق الشمس أو بمعنى أكثر علمية يظهر النجم بسبب تأثير الانقلاب الشمسي وارتفاعها في الأفق ومن ثم يضعف سطوعها ووهجها (glare) والذي كان يخفي ضوء نجم سيروس وفرحة الناس بمقدوم الماء الجديد مع الفيضان، شاهدته قبل عام 1970 وتفعيل السد العالي يوم كنت ببلدتي القوصية بالصعيد عند عمتي مع دخول ابنها هائجا وقد امتلأ حجره بالفجل يلقي به في حجر أمه وهو يصيح فرحا "المية جت.. المية جت.. لحقت دول" مبشرا بالفيضان مازال اليوم لدينا في الريف ما نسميه طاقة المندرة لإدخال نور الشمس لإضاءة المكان، ثم لسبب ما تعودنا سد الطاقة لتصير بمثابة رف نضع فيه اللمبة الجاز؛
هذه الطاقة كانت قديما في الزمن السحيق كوة الكوخ = خرق في جدار أو حائط الكوخ الفكرة بسيطة وهدفها تقليل وهج الشمس خاصة في الصعيد ومنها نفهم لم يحترم الصعيدي شبابيك الشيش وفي السواحل تحترم شبابيك الزجاج، ونفهم لم في مثل أوربا يفشون الزجاج في المنازل؛ كل ذلك لزيادة نفاذ أشعة الشمس من خلال الزجاج جلبا للنور والدفء المبدأ تقليل أشعة الشمس أو النجم المستقبلة لتحسين رسم صورة لها في المخ ومن ثم تحسين الحكم والتحكم، وهو مبدأ استخدم في رصد نجم الشعري اليمانية؛ وسوف يستخدم لاحقا في بناء الهرم الأكبر بتحديد الشمال برصد النجوم من خلال شق بسيط في طرف عصا جريد.
قبل مينا -موحد القطرين- نحو عام 4950 قبل الميلاد راقب الناس المصريون وسط معاناة أهوال الفيضان وهم راقدون فوق رمال الهضبتين الشرقية والغربية، كيف يحدث صيفا أن يسبق شروق الشمس نجم شديد السطوع واللمعان؛ بداية كانت مجرد ملاحظة عابرة وربما تبادلوها مع بدو نبتة سكان شرق العوينات وتوشكى لكن مع إخبار العجائز بها للشباب صارت هدفا قوميا -بلغة اليوم- خاصة حين أصر بعض العجائز أن النجم حين يظهر قبيل شروق الشمس يليه الفيضان وتتعجب من بساطة أدوات الرصد آن ذاك، فلكي يتأكدوا استفادوا من عمل الفلاح حين يبني عشته من طين وقش؛
وكيف مع كثرتها تتعدد اتجاهات كوة الكوخ ومن ثم تتعدد اتجاهات دخول أشعة الشمس وحتى اليوم بصم في وعينا مصطلحي "بحري" و"قبلي" مسرى البرودة ومسرى الحرارة ومصطلحي "شرقي" و"غربي" حيث تدخل الشمس صباحا ومساءا وصار سهلا على الفلاح بناء عشته أو بيته بزاوية محددة تتيح له حسب موقع المكان جغرافيا شمالا أو جنوبا شرقا أو غربا حجب الشمس أكثر أو يسمح بدخولها أكثر ويسمح بدخول برودة أكثر أو أقل الكهنة الفضولية لاحظت كيف توجد أكواخ تنفذ داخلها أشعة الشمس وأخرى لا، ثم يتبين أن السبب يكمن في اتجاه كوة الكوخ؛
كما أنه يمكن فتح كوة مكان أخرى وهكذا أمكن صنع أول مرصد بدائي رصد الكاهن النجوم من داخل ما يشبه عشة الفلاح وظل يجرب ليترك فجوة في جدار العشة تنفذ فقط أشعة النجم المكتشف حديثا، وتمت المحافظة عليه إلى العام المقبل فإذا بالمراقب داخل العشة وربما كان ينام داخلها يباغت بنور يملأ المكان؛ ليتم إثبات صحة الفرضية وكم كانت فرحة الناس لاكتشاف علاقة فلكية تنظم حياتهم وتمكنهم من الاستعانة الكاملة بالنهر من خلال ترويضه وتفادي أضراره ومن ثم حسن الاستفادة منه هذا أصل فكرة مختبر إيزيس الفلكي أو معبد إيزيس في "دندرة"، وهو بناء من حجر ذو جدران وأعمدة؛
وفي أعماق المبنى وضعوا تمثالا لإيزيس في جبهتها ثبتت جوهرة وفقت بحيث تقابل ثقب في الجدار المقابل ويتناوب الكهنة النوم داخل المبنى للمراقبة، وإذا بالكاهن المناوب ذات ليلة صيفا يباغت قبيل شروق الشمس بنور يملأ المكان مشعا بالانعكاس عن جبهة إيزيس أو عن الجوهرة؛ فيهرع إلى الناس صائحا "جلالتها تشع نورها داخل المعبد في أول يوم للعام الجديد حيث يمتزج نورها بنور أبيها في الأفق" وحينها كانت الناس تهرع تصعد الهضبتين شرقا وغربا فرحة بمقدم الماء مع الفيضان وفي نفس الوقت نجاة بالنفس خشية الغرق، وتقنية المبنى ذات الثقب بسيطة للغاية ولا تتطلب إظهار جهلنا حين نبالغ اليوم ونحن نلهج بعبقرية أجدادنا؛ إذ نروج لسياحة تعامد أشعة الشمس على وجه تمثال رمسيس الثاني داخل معبده مرتين في السنة مرة في 22 فبراير يوم مولده وفي 22 أكتوبر يوم تتويجه فرعونا حيث يسطع المكان بنور الشمس.
لا أحد أبرع من الفلاح المصري في مسح أراضي الغيطان وقياسها لاستحقاق البيع والشراء والميراث، بل وفي استبدال قطعة أرض بأخرى أو بأكثر من قطعة؛ حتى أنني صرت أشك في نسبة نظرية ما شاع أنها لفيثاغورث من أن مربع الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين حيث أنه قد زار مصر وتعلم الكثير من أرض مصر السهل الفيضي البراح كصفحة ورق الأمر الذي لا يوجد مثله في أرض اليونان الجبلية الصخرية التي بالكاد تتقافز فوقها الماعز.
وأداة الفلاح المصري مجرد خيط يشده بين شخصين أو بين وتدين فيحصل على خط أفقي مستقيم يحقق الكثير من الأغراض، وإذا علق بطرف الخيط ثقلا ما ورفع الخيط أعلى في الهواء حصل على مقياس رأسي مستقيم يسمى "شاقول"؛ وبذا صار متاحا تحديد خط الأفق وخطا آخر عمودي عليه يمثل الخط الصاعد إلى السماء والآن نحن في نحو 3000 عام قبل الميلاد وقد أتقنا استعمال الشاقول، وعلمنا جيدا أن استقامة البناء تتحقق بموازاة مع الخط الرأسي الذي يحققه رفع الشاقول عاليا؛ أو كما نشاهد اليوم البناء وقد ثبته بين طوب البناء وهو يعلو بالجدار فيضمن وضع كل ثقل البناء على مركز الأرض محققا ثباته حتى جاء خوفو وأراد بناء هرمه الأكبر، وقرر مهندسيه توجيه أضلاع قاعدة الهرم الأربع للجهات الأربع الأصلية فكيف؛
هم يعرفون مشرق الشمس من الشرق ومغربها في الغرب ومن ثم فالشمال والجنوب مجرد خط عمودي على خط الشرق- الغرب لكن من يضمن الدقة وأن لا ينحرف خط الشرق- الغرب جهة الشمال أو الجنوب أو ينحرف خط الشمال – الجنوب إلى جهة الشرق أو الغرب فقد يكون في اتجاه منف - بغداد أو منف - أثينا، فلا بد من وسيلة قياس دقيق موثوقة لتحديد أحد الخطين ومن ثم رسم الآخر عمودي فوقه؛ الراصد يقف في منف ماسكا الشاقول ويرسم خطا فوق جدار ممثلا لخيط الشاقول لكن لإثبات الاتجاه الصحيح يلزمنا ربط قياسنا بجرم سماوي حقيقي مثل الشمس.
هل تصلح الشمس كأداة متاحة للرصد إذ لو قسنا مسار مشرقها ثم قسنا مسار مغربها لحصلنا على خط الشمال – الجنوب بقسمة الزاوية بين المسارين، لكن وهج الشمس يمنع من النظر إليها مباشرة؛ وهم من فسروا صعوبة بل استحالة التحديق في الشمس إنها صفة ألوهية يوما ما كنت أقف فوق رصيف محطة طنطا للسكة الحديد أبغى ركوب قطار، وكان الوقت ظهرا والشمس في كبد السماء وفي وسط الزحام لاحظت رجلا خمنت وقتها أنه فصاميا يستمتع بوقته؛ بالنظر إلى الشمس من خلال أصابعه يفرجها تارة ويضيقها أخرى وهو في الحقيقة كان يطبق نظرية يلعب بها الأطفال لتجنب وهج الشمس الطفل حين ينظر للشمس من خلال أصابعه يقلل من كمية الأشعة النافذة إلى عينيه فيقل الوهج.
والأهم يضمن عدم تشتت الضوء وهو ما اهتدى إليه المصري القديم لرصد النجوم من خلال ثقب ما لقد تناول جريدة فثقب طرفها العريض بشقها بسكينة، واتخذها أداة يرصد بها أجرام السماء ضامنا عدم تشتت الضوء المنبعث منها؛ وسماها "بأي" صوت قريب من "ناي" الذي كان يصنعه من البوص والطفل يلعب أمام الشمس بنظرها من خلال أصابعه يفرجها ويغلقها فإذا بالأشعة الملونة تتلاعب كما لو كان ينظر في مخروط لعبة لعبت بها يوما في طفولتي، واستخدام الأصابع يظهر الشمس كأشعة وهي ليست كذلك لكن في الزمن السحيق رسم المصري خطوطا تشع من قرص الشمس؛
والشمس يصعب رصدها لسرعة تحركها إذ لا تثبت نسبيا إلا في الانقلابين الصيفي – 21 يونيو - والشتوي – 21 ديسمبر - كما تتدخل الغيوم عبر الأفق وتعوق تتبعها بدقة فهل يمكن رصد ضوء نجم بالسماء ليلا يكون أكثر ثباتا كما اعتدنا في زمننا الحالي رصد النجم القطبي، لكن غيابه وقت بناء الهرم حيث تتم دورته في الفلك مع دوران الأرض حول محورها كل 26000 عام دفعهم إلى النظر في السماء ليلا لاختيار ضوء جرم سماوي خلاف الشمس وكان المتاح فقط أمام المصريين القدماء آنذاك نجمين ظلوا سنينا يدرسونهما، ولاحظوا ظهورهما على خط واحد في زمن معين راسمين في السماء خطا مستقيما تجاه الشمال؛ فحرصا على تتبع هذا اليوم والذي تصادف وجوده في عام 2467 قبل الميلاد، ومن ثم يرى بعض العلماء أنه تاريخ وضع أساس الهرم الأكبر وهما ماعبرت عنهما في الرسم المرفق بنجم أول ونجم ثان.
فكيف استعمل المصريون فقط خيط الشاقول وجريدتين، لتحقيق تطابق قياساتهم مع القياس الطبيعي لمحور كوكب الأرض؛ والذي يشير بالضرورة في نصف الكرة الشمالي إلى الشمال ونجحوا وقد -أثمر نجاح رصد نجم الشعري اليمانية بمصداقية تامة إنكباب المصري على رصد النجوم، وعند بناء الهرم الأكبر كان المطلوب توافق أضلاعه مع الجهات الأصلية: شمال جنوب شرق غرب فكيف نجحوا في ذلك؟!
لقد بدؤوا بتحديد الشمال الحقيقي المتفق مع محور كوكب الأرض الشاقول عند تركه حرا في الهواء يستقر بثقله مشيرا إلى مركز الأرض ومن ثم فالخيط المشدود في نصف الكرة الشمالي يصبح موازيا لمسار الشمال –الجنوب وكانت المشكلة كيف نحرك هذا الخط ليشير مباشرة إلى الشمال– الجنوب؟
تم ذلك بربط اتجاه الخيط المشدود مع رصد نجمين في السماء هما في الرسم المرفق (نجم أول ونجم ثان)، وقد لحظوا عبر ربما مئات السنين تواجدهما في السماء على خط واحد في موعد محدد في العام شوكة الرصد الجريد في ظني ربما تطورت بدلا من النظر خلال الأصابع إلى النظر من خلال ثقب أفيد للرصد، عصا الجريد شائعة جدا في ثقافتنا الريفية وأشهرها لدى عصا الشيخ دياب سيدنا في الكتاب وكان يضربنا بعصا جريد محمصة في الفرن لتصير أصلب وأمتن لقد كان أجدادنا يمارسون مزج عقل الطفل بعقل البالغ -كما يوصى علم النفس اليوم-.
كما كانوا يمارسون التفكير الجانبي منشأ الإبداع داخل دائرة رجل يرقب خلال ثقب الجريدة شروق النجم ويوجد رجل ثان ممسكا بشاقول وعصا جريد يقف في محيط نفس الدائرة المرسومة فوق جدار يحدد من خلال ثقب جريدته نفس الشروق ويثبت كل القياسات فوق الجدار على محيط الدائرة ثم يكرر ذلك مع غروب النجم ومن منتصف المسافة بين مسار الشروق ومسار الغروب يمد خط مستقم يمر بمركز الدائرة الذي يمثل ثقل الشاقول هذا المستقيم يمثل اتجاه الشمال الطبيعي.
تفسير الرسم فوق الجدار: يجعل ثقل الشاقول مركز الدائرة ويبدأ رسم خط الشرق بدء من هذا المركز ويمد على استقامته ليمر بمحيط الدائرة في نقطة ويكرر نفس الشيء مع خط الغرب فنحصل على مثلث متساوي الساقين ويصبح اتجاه الشمال خط يمر من مركز الدائرة إلى منتصف ضلع المثلث الثالث الرصد يتم عبر ثقبين لشوكتين لضمان استقامة خط المسار،
والشاقول يحدد مركز الأرض حيث يرسم فوق الجدار ويقف رجل بيده شوكة ينظر خلالها وعلى مسافة منه يقف آخر بيده شوكة وشاقول؛ وتوجه الشوكتين بحيث يمر ضوء النجم خلالهما في ذات الوقت الذي يحدد الشاقول مركز الأرض فوق الجدار وتؤخذ قراءتين عند الشروق وعند الغروب وتقسم الزاوية بينهما لنحصل على اتجاه الشمال.
كانوا رجالا في حين نكصنا نحن قرودا!!
واقرأ أيضاً:
ثقافات الشعوب لها أعمار أنثروبولوجية1 / ثلاثة ساهموا في الحداثة! زولا، أورويل، فوكو2 / ثقافات الشعوب لها أعمار أنثروبولوجية2