سواء كان انتهاجنا في الطب النفسي للنموذج الطبي النفسي الاجتماعي BioPsychoSocial Model تمثلا لواقعنا الإنساني أو كان اختيارا فإن طبيعة ما نتعامل معه تشخيصيا وعلاجيا من مشاعر وأفكار الإنسان وتفاعل مشاعر الفرد وأفكاره مع المجموع لابد تفرض علينا التفاعل مع المجتمع بينما انتمائنا للطب يفرض علينا الاهتمام بعلوم الأحياء وتخصصنا ضمن العلوم الطبية وهو طب النفس يجعل بؤرة اهتمامنا هي النفس والسلوك وهو ما يجعل مهنتنا طبنفساجتماعية بطبيعتها، ويجعل التزامنا أمام المجتمع هو الإحسان علما وبحثا ومناجزة في وصف وفهم والتنبؤ بالعمليات العقلية والسلوك البشري، وكذا تعديل السلوك، ولا سيما في حالات المرض العقلي، إضافة إلى التزامنا الطبي المشترك مع غيرنا من الأطباء وهو مساعدة الفرد بعلاجه وتخفيف ألمه الجسدي و/أو العاطفي.
ذلك وغيره جعلنا مسؤولين اجتماعيا مقارنة بغيرنا من زملاء مهنة الطب، فهناك امتيازات يعطيها المجتمع للعاملين في المجال النفسي الطبي وهناك توقعات عريضة ينتظرها منهم بناء على تصور أن لديهم القدرة السحرية على فهم وتحليل وتوجيه المشاعر والأفكار والسلوك البشري كله، فهل هي امتيازات وتوقعات بدون مسئولية،.. أو هل يعني هذا أن لنا الحق أو علينا ربما مسئولية للتأثير في الواقع السياسي؟ (Scheurich, 2000)، الحقيقة أن النظرة إلى ما يسمى الطب النفسي السياسي لم تكن تسر كثيرا حتى عهد قريب.
للأسباب السابقة بالتأكيد كثيرا ما يكون متوقعا من المختصين النفسانيين أن يقدموا حلولا لمشكلات مجتمعاتهم، دون كثير من التدقيق غالبا في كون المشكلة أو حلها يقع فعلا ضمن مجال تخصصه المهني، حتى أن التأثير السحري المتصور للأطباء النفسيين على الحياة والمجتمع جعل من المغري ليس فقط لمعدى برامج الفضائيات في عصرنا هذا وإنما لمختلف جماعات المصالح السياسية أو الأنظمة الاستبدادية تاريخيا وحاليا احتضانهم واستغلالهم من أجل تنفيذ أهدافهم في السيطرة على الواقع.
وأستطيع القول مطمئنا على الأقل في مجتمعاتنا أن الامتيازات الممنوحة واقعيا أقل كثيرا من توقعات الناس مثلما هي أقل من الامتيازات التي يتخيلونها وهي بعيدة جدا عن الواقع، فبينما يفترض أن اهتماماتنا يجب أن تتعدى المعتاد في النموذج الطبي إلى مجالات أوسع من تلك التي يهتم بها غيرنا من الأطباء كالجانب الروحي والاجتماعي والأسري... نجد أن إعداد الطبيب النفساني في بلادنا هو إعداد طبي فقط لا يختلف عن إعداد الطبيب في أي تخصص، باختصار لا يعد الطبيب النفسي بالشكل الخاص (اللهم إلا تميزه واجتهاده الشخصي) الذي يجعله جديرا بالامتيازات فضلا عن التوقعات، (اللهم إلا تميزه واجتهاده الشخصي)،... وبينما هناك امتيازات وتوقعات فإن الحقيقة الواقعه أنه لا سلطة لنا أكثر من غيرنا لتوجيه المجتمع أو سياساته.
أعود إلى تعبير الطب النفسي السياسي والذي يحمل معنى يختلف باختلاف السامع لكن الشائع هو المعاني السلبية لإساءة استخدام الطب النفسي من قبل السلطات القمعية على مستوى العالم بداية بروسيا والصين ومرورا بكوريا والأرجنتين (Summers, 1992). سواء شمل ذلك الاستغلال الحرب النفسية على الأعداء أو انتهاك حقوق الإنسان داخليا أو حتى المشاركة في ابتكار أساليب التعذيب كما شاع عن الناجين من معتقلي جوانتي مالو. وفي الويكيبيديا يعرف الطب النفسي السياسي بأنه "الاستغلال السياسي للطب النفسي بسوء استخدامه في تشخيص الأمراض النفسية، والاحتجاز بزعم العلاج، لأغراض عرقلة حقوق الإنسان الأساسية لبعض الفئات والأفراد في المجتمع".
ورغم ذلك ورغم عدم وضوح معالم ما يمكن أن نسميه بالطب النفسي السياسي فإن هناك من الأطباء والباحثين النفسانيين من يطمح إلى تغيير تلك الصورة ويرون أنه يمكن للطب النفسي السياسي القيام بدور ضروري في المجتمع عموما من خلال قدرته على فهم الطبيعة والسلوك الإنساني في تفاعلاتهما المعقدة، مثل دراسة تفاعلات الأحداث والعمليات السياسية مع الصحة النفسية، ومثل دراسة كيف يستخدم السياسيون علم النفس للتأثير في الناس، وكيف يستطيع الإعلام التدخل والتأثير في ذلك إلى غير ذلك ما يمكن أن تسفر عنه جهود الباحثين في هذا المجال وما أقدم له في هذا المقال هو مثال على مساهمة واعية على جانب كبير من الأهمية في مجال الطب النفسي السياسي في منظوره الجديد، قام بها دافيد أووِن ودافيدسون يتسائلون فيه عن اضطراب شخصية مكتسب؟ متلازمة هيوبريس أو متلازمة الغطرسة يصيب الزعماء الكبار بشروط معينة وفي ظروف معينة فتكون عواقبه على البشرية كما رأينا على يدي كثيرين.
متلازمة الغطرسة أو متلازمة هيوبريس Hubris Syndrome
أووِن ودافيدسون قدما (Owen & Davidson, 2009) مساهمة رائدة وهامة في المنظور الجديد لدور الطب النفسي السياسي عندما وصفا متلازمة الغطرسة بناء على ملاحظة سلوكيات كل من جورج بوش وتوني بلير، وتتطور هذه المتلازمة في فترة من امتلاك السلطة والقوة، وخاصة تلك التي يتم ربطها بنجاحات وطنية مبهرة تجعل القواعد والقوانين والأخلاق والاتفاقيات غير قابلة للتطبيق على أصحابها الذين يعتقدون ويعاملون على أنهم فوق كل تلك القضايا. (Jakovljevi, M., 2012)
وأما ما تعنيه كلمة هيوبريس وفقا لمنطق الأساطير اليونانية القديمة فهو غطرسة الحكام والفاتحين الذين أساءوا استغلال سلطتهم وقوتهم لإرضاء غرورهم وتحقيق أطماعهم وطموحاتهم الخاصة ومصالحهم الأنانية، ويربط منطق الأساطير أيضًا بين الزعيم المتغطرس ووجود عدو يستدعيه الزعيم بشتى الصور، ورغم ارتباط نجاحه بالقضاء التام على العدو إلا أن الثمن دائما ما يكون باهظا وهذا ما يستدعي الاهتمام.
ولكي تنطبق معايير تشخيص تلك الشخصية على الزعيم يفترض أن يظهر الشخص ثلاثة أو أكثر من 14 سلوكا معينا على أن يكون أحدها على الأقل من السلوكيات الخمسة المميزة:
1- الخلط بين الذات والأمة أو المؤسسة
2- يستخدم نحن الملكية في المحادثات
3- يميل إلى القلق والتصرفات المتهورة
4- يسمح لاعتبارات كالقيم العليا ومكارم الأخلاق -كما يراها- بأن تلغي كل الاعتبارات الأخرى كالكلفة والعواقب فضلا عن كون القرارات عملية.
5- يظهر قناعة راسخة بأن أفعاله ستكون مبررة أمام التاريخ أو عدالة السماء.
٠ السلوكيات التسعة الأخرى:
1- يرى العالم مكانا لتمجيد الذات من خلال استخدام القوة
2- لديه ميل لاتخاذ إجراءات تهدف في المقام الأول إلى تعزيز صورته الشخصية
3- يظهر القلق المفرط بشأن المظهر والأداء
4- يظهر الحماسة "الدينية أو الوطنية" والتمجيد في الكلام
5- يظهر الإفراط في الثقة بالنفس
6- لديه ازدراء للآخرين بشكل واضح
7- يظهر استعداده للمساءلة فقط أمام محكمة عليا (التاريخ أو الله)
8- يفقد الاتصال مع الواقع.
9- يظهر العجز و/أو التجاهل لألف باء الأساسيات اللازمة لوضع السياسات.
(Owen & Davidson, 2009)
ولعل جليا على الأقل للأطباء النفسانيين أن متلازمة الغطرسة أو هيوبريس كاضطراب شخصية مقترح تبقى في أغلب الجوانب على مقربة من اضطراب الشخصية النرجسية (7 من 14 السلوكيات المميزة لها هي من بين معايير اضطراب الشخصية النرجسية)، واضطراب الشخصية المعادي للمجتمع واضطراب الشخصية الهستيري (Jakovljevi, M., 2012). أي أنها شخصية أقرب إلى المجموعة الانفعالية الاندفاعية والمسرحية أيضا من اضطرابات الشخصية. ولكن المفتاح لتشخيص متلازمة الغطرسة هو تملك القوة الكبيرة لفترة معينة من الزمن تمهيدا لتطوير المتلازمة والتي يمكن أن تهدأ مرة واحدة حين يتم فقدان السلطة، لكن الظروف التي تسمح بتطوير متلازمة الغطرسة كثيرا ما تستمر حتى تقع الكوارث الأممية وربما الكونية مستقبلا.
وكما يقول ياكوفليفيتش (Jakovljevi, M., 2012) فإن الطب النفسي الآن لديه فرصة تاريخية لتشكيل مستقبل الرعاية الصحية النفسية، والطب والسياسة والمجتمع. إذ يفتح وصف متلازمة الغطرسة مناقشة مفيدة عن العلاقات بين الطب النفسي والسياسة ونطاقها ودور الطب النفسي السياسي، بما في ذلك المسؤولية عن السلوك السياسي الاجتماعي الإيجابي، والمنفعة العامة وأمن مجتمعاتنا المدنية.... أين يا ترى مجتمعاتنا العربية مما سبق؟
المراجع الأجنبية:
Scheurich N. Commentary: Psychiatry and values: Mental health as Trojan horse. Psychiatric Times 2000;17:6.
Summers C. Militarism, human welfare, and the APA ethical principles of psychologists. Ethics Behav 1992; 2:287–310.
Owen D & Davidson J: An acquired personality disorder? A study of US Presidents an UK Prime MInisters over the last 100 years. Brain 2009; 132:1396-1406.
Miro Jakovljevi (2012): Hubris Syndrome and a new perspective on political psychiatry: need to protect prosocial behavior, public benefit and safety of our civilization Psychiatria Danubina, 2011; Vol. 23, No. 2, pp 136–138
واقرأ أيضًا:
متلازمة الغطرسة.. والسلطة / صناعة الدكتاتور / الزعيم الملهم / التقييم النفسي لمرشحي الرئاسة