انتشرت في الآونة الأخيرة أديان جديدة بأسماء حركية براقة مثل "دين الديمقراطية (المستوردة "، و"دين حقوق الإنسان (المكتوبة)"، ودين "العلم المؤسسي (باهظ التكلفة)"، و"دين الإعلام" (الموجَّه) وكذلك استعملت أسماء الأديان المعروفة في غير موضعها لغير ما نزلت له، وبرجوعي مصادفة إلى أوراقي، وأنا أواصل اجتهادي، وجدت بعدًا آخر في ديننا يستأهل الوقفة والنظر، فظهر هذا المقال:
إننا نفتقر إلى إحياء منهج للمعرفة هو الأصل، وهو الذي يميز ثقافتنا الحقيقية، في الشارع والمسجد والكنيسة والأسواق عند من يعزق الأرض ويرمي الخرسانة، وليس بالضرورة في المدارس الخالية من الطلبة والمدرسين جميعًا، أو في الإعلام السطحي، أو في منتديات ومؤسسات الثقافة، أو حتى في مراكز الأبحاث الرقمية المغتربة أغلبها.
أنا لست في موقع يسمح لي بالحديث عن الأديان الأخرى، لهذا سوف أقصر هذه المقدمة على الحديث عن بعض ما وصلني من إسلامي، على سبيل المثال لا الحصر، علمًا بأنني أعتقد أن أي دين لم يتشوه يمكن أن يسري عليه ما استلهمتُه من ديني، الذي أحمد الله على الاهتداء إليه، ولا أزعم لنفسي فضل اعتناقه.
مقدمة: مدخل إلى المعرفة
مهما بلغ حسن تصورنا لعلاقتنا بالدين والعلم، فنحن لا نواكب الأحدث فالأحدث من المباحث والنظريات، التي تتناول كلا من "الوعي الشخصي، والوعي البينشخصي، والوعي الكوني، والوعي المطلق إلى الغيب اليقين"، ولا التى تتناول تركيب المخ البشري وكيف يعيد بناء نفسه باستمرار، ولا أحد حتى المختصين يتابع مباحث "الإدراك الأشمل والأعمق" التي صححت اختزال نشاط ما نسميه عقلاً ونضعه أعلى من قدراته، رغم ثبوت قصوره ولا أقول عجزه، وبالتالي توقفت معرفتنا عند مرحلة تجاوزتها المناهج الأمينة التي تتيح لنا أن نقترب ولو قليلا من عمق وعي إيمان أغلب ناس شعبنا، لنتعرف على دوره في المعرفة، حتى لا نقصره على مجرد "تطبيق الشريعة"، أو نخنقه في الفتاوى الهامشية المختلف حولها، أو نفسره بعلم انتهى عمره الافتراضي.
وإليكم بعض ما عثرت عليه في أوراقي:
(1) الإسلام الحقيقي ليس تعصبًا، إنه يمثل جـَّماعا ختاميًا لوحي متكرر يمثل خلاصة مسيرة الإنسان في علاقته بالكون إلى الله سبحانه، فهو يحتوي ما سبقه بقدر قد يسمح له أن يمثل في أصوله وُلاَفاً لمفهوم الإيمان عبر التاريخ المعروف للإنسان.
(2) الإسلام ليس معتقدًا ثابتًا (أيديولوجيًا) بل هو "إدراك يتجدد"، مع كل عبادة، وكل تسبيح: كل ثانية، في كل خلية.
(3) الإسلام ليس طمأنينة ساكنة، والإعلاء من ترادف الإسلام مع "النفس المطمئنة" هو أمر يقلل من الالتفات إلى دور الإسلام في حركيته وقدراته التطورية التصعيدية، وألاحظ أن كثرة ممن يرددون هذه الآية الكريمة لا يلتفتون بقدر كاف للآيات الواردة
بعدها، والتي تكاد تشترط على النفس المطمئنة لدخول الجنة أن تدخل "في" عباد الرحمن (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)، ما أروع لفظ "في" هنا وعلاقته بالوعي الجمعي فالكوني فالمطلق إلى وجه الحق تعالى.
(4) الإسلام "موقف" قبل أن يكون شريعة أو أيديولوجيا، وهو يشترط حمل مسئولية الحياة كلها لكل الناس، وهذا يتواكب مع حمل أمانة الوعي المتضمنة امتحانات الاختيار وممارسة الحرية وحتمية الجهاد المستمر، والإبداع المتجدد.
(5) الإسلام منهج معرفي يستعمل "الإدراك" أكثر بكثير من وظيفة التفكير (الذي يترادف أحيانًا مع كلمة "العقل") والإدراك له علاقة وثيقة بإبصار وبصيرة القلوب التي في الصدور، وشعار أن الإسلام "دين العقل" ينبغي أن يتطور ليكون "الإسلام دين كل
العقول التي في الجمجمة والجسد (والقلوب التي في الصدور!)"
(6) الإسلام ليس فقط ما يدعو إليه الأصوليون وبالذات في مجال السياسة، ولا هو ما يهاجمه السَّكـْلـَريـُّون (العلمانيون) فيبعدونه خوفًا من رجاله، حتى هّمشوه إلى نشاط سري فردي يمارس في الظل "بعض الوقت".
(7) الإسلام دعوة للتعلمّ بالتقوى، وهي طريقة فينومينولوجية إدراكية عملية، وليست درْوشة سلبية، وهو يدعو للقراءة المعرفية الشاملة على كل المستويات، القراءة (ليست مجرد فك الخط) التي تتجاوز السجن التفكيري، والعقل الظاهر، إلى كل
قنوات المعرفة، وعقول الإدراك والتطور.
(8) الإسلام مبني على توحيد مطلق ينفي كل شرك، مع التذكرة بأن التوحيد المعرفي والسلوكي والوجودي، يتضمن رفض الشرك بكل صوره، بما في ذلك رفض الوصاية على كلام الله من خارجه، شكلا أو محتوى، علمًا أو فتاوى قديمة معجمية، ناهيك
عن الشرك بكل الآلهة المصنوعة من مال وسلطة وبنين وبنات وجوائز...إلخ.
وبعد
أكتفي بهذا القدر الآن، لأترك مساحة لسؤالين اثنين مؤقتًا:
السؤال الأول: أين موقع هذا الرأي بين الوسائل المعرفية العصرية؟ سواء فيما يتعلق بما يسمى العلم، أو فلسفة العلم، أو فيما يتعلق بالإيمان وعلاقتنا بربنا، مع الأخذ في الاعتبار كل قنوات المعرفية وفي نفس الوقت رفض ما شاع عن ما يسمى "التفسير العلمي للقرآن، أو للدين"، حتى لو زعم أهل ذلك المنهج أنهم يروّجون للإسلام بما يتصورونه علما، وهم لا يفعلون إلا أنهم يختزلونه ويقزمونه؟
السؤال الثاني: أين يا ترى تقع مسئولية من يستعمل كلمة الإسلام ليل نهار هذه الأيام، دون أن يخطر بباله ما خطر ببال واحد مسلم عادي مثلي، يرجو لقاء ربه ويطلب رحمته، ليساهم في إنقاذ أمته، بدءًا بوطنه، مسئولا عن كل الناس من كل ملة ودين، عبر العالم؟
"وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ."
الأثنين 28-4-2014
نقلا عن موقع أ.د يحيى الرخاوي
اقرأ أيضا:
الدين المشوّه والحاجة إلى ثورة تربوية فقهية / صحوة التيار الديني وانحسار التيار الأخلاقي / عن الأمّيـة والثقافة الإعلامية الكلامية الاستقطابية