عن الأمّيـة والثقافة الإعلامية الكلامية الاستقطابية

 كنت –ومازلت –أخجل من إبداء رأيي المضاد للسائد، وأنا أدافع عن الأمّية باعتبار أن الأميين قد تكون لهم فرصة أكبر في التفكير التلقائي والتساؤل بعيدا عن قهر الكلمة الجاهزة المطبوعة، ثم عايشت مؤخرا تمادي إغارة وسائل الإعلام المسموعة والمرئية على وعْي الملايين الأميين فزاد فزعي حين تصورت عجز الأمية السليمة عن صد هذه الإغارة الجديدة على الفطرة البشرية السوية.
 
 اعترضت يوما ما (الأهرام: 11/11/1979) على ثقافة وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، واتهمتها أنها لا تصل إلى العقل من خلال مسالك حوار خلاّقة، تحفز التفكير وتثير التساؤلات، ولكنها تُغَلَّف في كلمات إخبارية أغلبها يقينية، بحيث تنهي كل حديث، أو نقاش، بنصيحة مسطحة، أو جملة فخر خفية، أو تعبير مديح ساذج، وذلك في محاولة إغراء سامعها أو رائيها بأن الأمور المعضلة قد حلت جميعها والحمد لله، بفضل هذا الضيف الكريم في بعض الحالات، أو بفضل ألمعية المذيع أو مقدمة البرنامج في أغلب الحالات، والمتوقع أن ترتسم ابتسامة عريضة على وجه المنتفع المشاهد تترجم عما تم حشره -سابق التجهيز -في مخه، وخلاص، ثم تطورت المسألة وظهر بإلحاح ما يسمى "التوك شو" الذي ينهي اللقاءات ليس فقط ببث يقين مسطح وإنما باستقطابات مشلَّة، فيختزل التفكير السليم للأمي وغير الأمي إلى "إما...أو".
 
 تصورُ أيضا في شطحاتي القديمة أن عبقرية الإعلام قد وصلت إلى تكنولوجيا استعمال نظرية "الأواني المستطرقة" في نقل المعلومات إلى وعاء العقل البشري، وهذه النظرية تقول إن السوائل تنتقل من الإناء الأعلى إلى الإناء الأسفل حتى تتساوى الأسطح، ولعل خضوع المشاهد لهذا الإيحاء الضمني هو الذي يجعله يفضل مشاهدة التليفزيون في "الوضع راقدا" أو مستلقيا، حتى يسهل عملية انتقال المعلومات بالجاذبية السلبية!! وهكذا ينقلب العقل البشري من كيان معقد رائع مواجهه متحدٍ خلاّق.. إلى إناء فارغ متلق مستسلم، وبذلك لا تعود المسألة حوارا مع كلمات كاتب سطر ما كتب، ولا تحديا لرأي منشور، ولا بحثا في نقاش حي عن قضيةٍ "متحركة، ولا حيرة أمام الهوة بين الكلمة والفعل، ولا تساؤلات ذكية مُفِيقة، بل إجابة وأجوبة تثير المزيد من التسليم المطاوِعي، فالقنوات الإعلامية تعطينا الأجوبة الجاهزة على الناحيتين في الدنيا والآخرة على حد سواء وكل ما عدا ذلك فهو ممنوع من البث.
 
 وإني لأشفق أشد الإشفاق على القائمين على الإعلام، حيث أكاد أتصور الواحد منهم وهو محدد الخطوات مكرر الكلمات، خوفا من مسئولية التلقائية ومغامرة التفكير، حيث السيوف المسلطة تحيط به من كل جانب من أول الرئاسة المباشرة حتى الرئاسة الأعلى، ومن أقصى تشنج الردود السلفية الجاهزة إلى أقصى صياح الكوادر "الثورية" الثابتة، ورحمة الله على فضيلة الدهشة ونبض التفكير، فكيف نطلب منهم أن يثيروا فينا شرف التساؤل، أو أن يحافظوا فينا على فضيلة التقشف النفسي وهو وقود الحضارة ومُخْصبها؟! إن المحروم من الشيء لا يستطيع أن يدافع عنه فضلا عن أن يعطيه.
 
 لقد أصبحت أكثر تصديقا للتعبير الذي ابتدعته ليصف الإعلام من ثلاثة عقود حين أسميت ساعات الإرسال باسم "مبيدات الوقت الإعلامية"، وكان ذلك على اعتبار أن "قتل الوقت" أصبح واجبا قوميا حتى لا ندع فرصة للفراغ يتحرك فيها التفكير والإدراك والوجدان لما خلقهم الله من أجله، وكأن كل ما هو على وسائل الإعلام أن تقوم به هو تقريب المسائل إلى أقرب واحد صحيح، بحيث تحافظ علينا حتى لا نتذبذب في بحث جاد، أو نضيع في تساؤل غامض، حتى ولو كان هو الدليل على روعة تكريم الله سبحانه للبشر.
 
 أنا لست يائسا بحال لأني لا أملك ترف اليأس، بل لعل كل ذلك هو الباعث إلى الأمل بلا حدود، لأن استمراره مستحيل، ذلك لأنه يعني انقراض نوعنا كافة، هي مسئولية مضاعفة وتزداد صعوبة كلما زادت عدد المحطات والفضائيات عامة وخاصة، إن مهمتنا جميعا، وإعلام الدولة في المقدمة، شديدة الصعوبة، فسياسة السوق وتسطيح الوعي، تجرنا بعيدا عن جوهر حمل أمانة الكلمة والصورة فالمعنى، ولكنها مهمة لا بديل عنها، وقد اكتشفت أنها ممكنة من واقع خبرة العلاج الجمعي في قسمنا بقصر العيني لمدة أكثر من أربعة عقود حتى الآن، خبرة العلاج الجمعي مع عينات متعاقبة من الشعب المصري الفقير (ثلثهم أميون فعلا وأكثر من نصفهم أميون بمعنى البعد عن التأثر بأكوام الورق المطبوع المليء بسواد الكلمات)، هذه الخبرة –العلاج الجمعي -ليست مقصورة على المرضى، وقد يسمح لي هذا الموقع الكريم أن أعرض بعض عينات منها توضح ما أقصد بالأمية الفعلية، والأمية الثقافية، والأمية الإبداعية، وحضور كل ذلك عند الأسوياء قبل المرضى
  نقلا عن موقع أ.د يحيى الرخاوي 
 الثلاثاء: 29-4-2014
 
 اقرأ أيضا:
 الأديان الجديدة في مواجهة الإيمان المعرفي / صحوة‏ ‏التيار ‏الديني ‏وانحسار‏ ‏التيار الأخلاقي / ..وسوسة تآمرية مفيدة حول فيروس سي