يعتقد المتطرف دينياً أنه ينتسب للسماء، ومن ثم يتحدث باسمها بيقين مطلق. هو لا يعرف الوسطية، ولذلك يأخذ حياة الآخرين معه إلى الحافة، مع أن الحياة نفسها حالة وسطية .. جملة اعتراضية بين طرفين هما النوم والموت.
هو شخص عجز عن التكيف فلجأ إلى التطرف ويريد من الآخرين أن يتبعوه، فإذا لم يجد من يرافقه أطلق عليه رصاصاته أو أفكاره المدببة.
ولأن إجابات الدكتور يحيى الرخاوي بحد ذاتها أسئلة .. حذفت علامات الاستفهام ورحتُ أسمعه وهو يلم بالموضوع بزفرة واحدة..
- من الخطورة أن نخلط بين «التطرف» و«التعصب». أنا شخصياً أدافع عن التطرف، لو كان موقفاً لإعلان الوضوح، انطلاقاً لحركة مسئولة في مواجهة نقيض على الطرف الآخر، لكن التعصب جمود وانفراد وأحكام فوقية تدمغ المخالف، لأنه مخالف.
- التطرف عادة ما يكون بالنسبة للمواقف والأهداف. أما التعصب فهو عادة ما يكون بالنسبة للوسائل والأشخاص. نبينا الكريم تطرف حين قال: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه ما فعلت، ولكنه لم يكن متعصباً حين قال: ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمنًً .. إذن من الشرف والفخر أن أتطرف للحق، ومن الجبن والعار أن أتعصب مكابراً جامداً، من الشرف أن أتطرف في توحّد اتجاهي إلى وجه الله أو يقيني بحتم الإيمان كضرورة بيولوجية، ومن العمى أن أتعصب لطقوس مذهب ديني بذاته أو تفسير بشري تاريخي، باعتباره الصواب الأوحد في كل زمان ومكان.
- المصيبة ليست في الأفكار المتطرفة القابلة للحركة، بل في المواقف المتشنجة المتجمدة .. أن تتطرف في تحيزك للحركة المتصاعدة ضد السكون الميت المستسلم، المصيبة أن أعتبر المادية كما وصفها ماركس وطبقها ستالين .. الطريق الوحيد الموصل، وعلى نفس القياس قد يكون من الكرامة أن أتطرف في دفاعي عن الحرية ضد ماسواها، ولكن من الغباء والتعصب الأعمى أن أرى الحرية في شكل ديمقراطي صوري كل مايفعله هو أن يتيح الفرصة لديكتاتورية مبرمجة بإعلام خبيث، حتى لو سميت شرعية تمارس التمييز وغلبة عقل القطيع والتمادي في استغلال انفعالات دينية بدائية.
- وسبق أن عبر أستاذنا العقاد عن روعة التطرف وجمال حركيته الباعثة للحياة حتى لو كان تطرفاً في التشاؤم، ولذلك دافع عن سوداوية المعري وشوبنهور بالمقارنة بالبلادة وعدم الاكتراث اللذين يسودان العصر الحاضر(أيام العقاد، فما بالك بالآن)
المبدع المتميز مثل العقاد والمعري وشوبنهاور هو علامة مضيئة تمثل التطرف الإيجابي الخلاق، أما من يمسك العصا من الوسط فلا هو مبدع ولا يحزنون. ليس متطرفاً ولا متعصباً، هو شئ ماسخ، لا حلٌو ولا مر. وهنا ينبغي أن نتعامل مع منطقة الوسط بحذر، نقبلها فقط حين تكون منطقة انطلاق، حتى في لعب الكرة فإن قيمتها تتوقف على صناعة الألعاب التي تتجه إلى المرمى حتماً، أما الاحتفاظ بالكرة في الوسط فلا يمكن أن يحقق أهدافاً، وأي مرمى هو في «طرف» الملعب هنا، أو هناك. أليس كذلك
- تسألني عن المتطرف ثورياً .. الثورة إبداع جماعي، والإبداع هو نوع إيجابي من التطرف كما قلت لك، لكن إذا تكرر نفس النص (Script) ممن يسمون الثوريون فإن ذلك يقلب تشكيل الثورة إلى جمود التشنج، وعلى هذا الأساس فإنه يمكن أن يوجد من يسمى «المتطرف الثوري»، بمعنى الإبداع الجماعي، أما إذا انقلب الإبداع إلى تكرار وتصلب وعناد فإن هذا الثوري ينقلب إلى شخص متشنج.
- من الذي قال أن الشخصية المصرية بنت التوسط والاعتدال، كل هذه إشاعات يبطلها الرصد الدقيق. هذه الشخصية التي عبدت الله ووحدته حتى قبل الأديان السماوية، هي التي بنت الأهرام رمزاً للحضارة وتناسقاً مع أفكار الكون، فالأهرامات ليست قبورا للطغاة كما يشاع، وإنما هي تناغم هندسي تشكيلي في تناسق مع رنين أفكار الدنيا والتاريخ، هذه الشخصية المصرية المبدعة لا يمكن أن تكون شخصية وسطية ماسخة، لا بحكم الجغرافيا ولا بحكم التاريخ.
الشخصية المصرية ليست ممثلة للتوسط والاعتدال ولا هي بنتُهما، أنا ضد ما يسمى الوسطية بالمعنى الشائع، الله جعل المسلمين أمة وسطاً حالة كونهم شهداء على الناس، والشهادة هي في جوهرها عمق الإدراك والوعي المتبادل. أما عن كيف أرى الغد، فإني مصاب بمحنة التفاؤل المزمن المسئول، حالة كوني أساهم في تحقيق رسائله ووعوده؟
- احتكار الحقيقة وقف على المتعصب المتجمد الأعمى، أما الذي يقف على طرف قضية، ليحدد مكانه ومعالمه ومسئوليته فهو مشروع مبدع لا أكثر ولا أقل.
- لا أميل إلى إصدار أحكام تتصف بالتعميم، فالسيطرة على الأتباع واردة حين يقوم ما يسمى المتطرف المتدين وغير المتدين، بحظر التفكير ورفض النقد ووأد الإبداع ويفرض كل ذلك على كل أتباعه، لكن هناك أسباب أخرى مثل احتماء القائد نفسه بما يفرضه على الآخرين، ليهرب من نفسه كإنسان لا يريد أن يخوض مخاطر التفكير وروعة النقد وإعادة النظر.
- العولمة كما تروجها أمريكا وكل القوى التابعة لها تبشر بأديان جديدة وإن كانت أخبث من أن تسميها أدياناً، وقد كتبتُ كثيراً لتعرية ما يسمى العيش تحت ظل العولمة، أو النظام العالمي الجديد .. الحادث الآن هو أن هناك ثقافات جديدة تغزو العالم كله وهي ليست إلا أديان زائفة مصنوعة، الدين المزيف الأشمل والأشهر هو «العوْلمة»، وله أنباؤه وحواريوه ومقدساته وترانيمه. كما أنه قد تفرع عن هذا الدين شيع وجماعات ومذاهب، منها ما يسمى «الديمقراطية» ومنها ما يسمى «حقوق الإنسان المكتوبة»، وهي تستعمِل أوراق وأبواق الإعلام و«مواثيق» الحقوق وقرارات المؤسسات العالمية، لتليين الطريق إلى استعباد الناس في سوق الرقيق المسمى بسياسة «السوق» وهي في النهاية: الدين الأخبث تخطيطاً والأخطر انتشاراً على حساب كل القيم الإنسانية وكل المستضعفين في الأرض.
نقلا عن موقع أ.د يحيي الرخاوي
اقرأ أيضا:
عن الأمّيـة والثقافة الإعلامية الكلامية الاستقطابية / ..وسوسة تآمرية مفيدة حول فيروس سي / ربما تكون عميلا لمصر