الغَيّ: الضلال والخيبة.
التعبير عن الرأي سلوك غريب في مجتمعاتنا وتراثنا عموماً، والأقوال (أمثل وأشعار) كثيرة ومتنوعة، فالتخويف من إبداء الرأي عادة متوارثة وسلوك تعلمته الأجيال من الأجيال، ومنذ ما قبل الدولة الإسلامية وترسّخ بعدها، بذريعة أو بأخرى، وبما لا يحصى من فتاوى المقربين للسلطان.
وبما أنه سلوك دخيل على النفس والتفاعل الاجتماعي بين الناس، فأن الديمقراطية المزعومة حاولت أن تجد له مكاناً وآليات، لكن الذي حصل هو انفجار المكبوتات والترسبات السلبية القابعة في دياجير اللاوعي المقهور، فوجدتنا أمام زوابع تفاعلية ذات مديات إعصارية وزوبعية أصابت كل موجودٍ بمقتل.
وبدى التعبير عن الرأي نوع من العدوان على الآخر الذي لا يعجبه الرأي، ولهذا تحقق التشظي والصراعات والانشطارات المتنامية في المكان الواحد والجمع الواحد، وما عاد هناك تعبير معاصر وحضاري عن الرأي، وإنما الكل أخذ يعبّر عن الغيّ أو الضلال والجهل، والتصرفات الانعكاسية البدائية الخارجة عن سلطة العقل والحكمة والروية، والحلم والإدراك الواعي للمصالح الوطنية والحضارية والإنسانية.
أي أن ما يسمى التعبير عن الرأي تحول إلى عمى إجتماعي وعقائدي وفكري، ووسيلة لتصفية الحسابات، وتدمير الإرادات، والخروج من الذات وسحق جوهرها، وتدمير هويتها وكيانها وما يشير إليها، فوجدتنا في مأزق مروّع ومصير يلد التداعيات، وفقاً لمتوالية هندسية تدميرية الطباع والتوجهات.
وفي هذا المأزق أو الورطة الديمقراطية، أغفل العالم الديمقراطي (عن قصد أو غير قصد)، فهم العقلية الفاعلة في المنطقة، وراح يتعامل مع هذا السلوك وفقاً للمعايير الفاعلة في مجتمعاته، وأهمل آليات السلوك السلبي المكبوسة في الأعماق، والتي فجّرتها دعوة الديمقراطية بأساليب مدوية ومتأججة ومشبعة بوقود الويلات.
إن التعبير عن الرأي حق إنساني مكفول، وفي القرآن أعطى رب العالمين الحق حتى لإبليس للتعبير عن رأيه في آدم، وما قتله وآذاه وإنما قال له إنك لمن المنظرين، بينما البشر الذي من المفروض يعرف ما جاء في كتاب ربه المبين، يقتل أخاه من نفس الدين لاختلاف في الرأي والتأويل والتصور، ويكفره ويقتلعه اقتلاعاً، ويحسب ذلك من طقوس ومراسيم الدين والتقرب إلى رب العالمين.
فليس من السهل الوصول إلى حالة التعبير عن الرأي دون الوقوع عرضة لمخاطر الذين يحسبون أن الحقيقة المطلقة في ما يرونه ويعتقدونه، وأن أي شيء آخر يكون عدواناً عليهم، وصاحب أي رأي إنما هو عدوّ رجيم.
وهذا يعني أن الديمقراطية في مأزق خطير، وأنها فاشلة، ما دامت العقول والنفوس والأفكار لا تعرفها ولا تريدها ولا تؤمن بما جاءت به، فالسلوك القائم يشير إلى أن المتمنطقين بالديمقراطية، لا يمتون بصلة لها بأفعالهم، وتواصلاتهم، مما حدى بهم إلى تدمير الدول والمجتمعات، والسقوط في أحضان التبعية والإتكال على الآخرين، الذين يسخرونهم لتحقيق مصالحهم.
فالديمقراطية الصحيحة بحاجة إلى بشر يحترم الرأي الآخر ويقرّ بحقوق الإنسان، لا أن يكون هو صاحب الحكم والحَكم!!
فهل عندنا حرية رأي أم نحن في غيّ مستطير؟!!
واقرأ أيضاً:
الإرهاب والذباب!! / انبعاج وارتجاج!! / كيف نقرأ التأريخ؟!! / المضادات البشرية؟!!