الإحساس بالعدم أو الانعدام، قد يكون تاما شاملا، أو جزئيا مختصرا، لكنه شعور يتملك بعض البشر، ويجعلهم يتوهمون بأنهم أموات أو غير موجودين، ويتحركون بلا هدف أو غاية، ويمكن لهؤلاء أن يتحولوا إلى روبوتات بشرية للقيام بأفظع ما يمكن القيام به من الآثام والخطايا والجرائم بحق الإنسانية.
العدمية وهم وخيم يربض في أعماق النفس ويخرجها من كينونتها الحياتية ويقرنها بالموت والغياب والهلاك.
ويبدو أنه تعبير عن الموت النفسي الحقيقي الذي يكون وسطا ووسيلة للموت البدني، فلا بد للنفس أن تموت أولا ليموت البدن!!
والعدميون وفقا لهذا المعنى، أموات يتحركون وسط الأحياء ومؤهلون للانقضاض على أبدانهم والآخرين من حولهم.
وهذه العدمية هي الوسط الفاعل في سلوكيات تدمير الذات والموضوع، وما يتحقق من تفاعلات انتحارية بين البشر وعبر العصور، وما يختلف فيها اليوم، توفر وسائل وأدوات كفيلة بإظهارها وزيادة تأثيرها التدميري الفتاك.
فالعدمي لا يعنيه إن ألغمته بأطنان من المتفجرات أو حولته إلى قنبلة متحركة موقوتة، لأنه غير موجود، ولا يمت بصلة للحياة وفي غيبوبة أوهامه العدمية. ولكي يصل البشر إلى هذه الحالة لا بد له ان يمر بمراحل تؤهله للإنعدام في أوعية النفس الأمارة بالسوء، والتي تحاول جذب ما يساهم بتعزيز الغياب والانقطاع التام عن الحياة ومفرداتها اليومية.
وفي العديد من الكتب الدينية ما يسوّغ الإمعان بالعدمية، ولهذا يجد بعض المدّعين بالدين والمتاجرين به، فرصتهم للاستثمار بهؤلاء وتوفير النصوص المؤوّلة، والأدلة والأمثلة المسوِّغة والمؤكدة للعدمية، وما يترتب عليها من سلوكيات، ويبدو أن هناك معسكرات ذات برامج مرسومة تقوم بالإعداد والترويج والضخ بما يساهم في تنمية مشاعر وأوهام العدمية، والتحول إلى موجودات متحركة ومملوكة من قبل الذين يريدون فعل ما يشاؤون بالمغرر بهم.
والأديان كافة فيها ما يروّج لبضاعة العدمية، فهناك في كل كتاب ديني نصوص كثيرة تدعو لذلك، وتمحو الحياة ومفرداتها وتفرغها من قيمتها ومعانيها، وتؤكد على أن الحياة الحقيقية إنما هي بعد الدنيا الفانية، التي على البشر أن لا ينتمي إليها ويسعى لغيرها المتصورة الغيبية الموعودة، والتي يكمن فيها جوهر الحياة السرمدية.
وبتفاعل النصوص العدمية الدينية مع النفوس العدمية، تتحقق صناعة كبيرة ذات إنتاجية عالية ومتنامية وفقا لمعطيات زمنها وقدرات الحركة فيه. والزمن الحالي مشحون بأقضى القدرات التي عرفتها البشرية، وبوسائل مطلقة لتوليد وتنمية الموجودات العدمية، وإعدادها لغايات وبرامج مرتبة وفقا لسياقات امتلاكية وافتراسية شرسة.
ولا يمكن الجزم بأن الدين لا يمت بصلة للنفس العدمية، وإنما قد يكون أحد أهم بواعثها ومرتكزاتها، لأنها حالما تجد ما يَدعو لهواها ومبتغاها، فإنها تزداد إمعانا بالتعبير عن عدميتها، وتسعى بقدرات مرعبة لإزالة ما يتأكد حولها من الموجودات المتحركة التي تمارس الحياة. ذلك أن النفس العدمية عدوة الحياة، وترفض الانتماء إليها أو الاتصاف بها، رغم أن صاحبها يتحرك ويتواصل بيولوجيا مع محيطه، لكنه يخلو من أية قدرة حسية أو شعورية أو إدراكية للتفاعل مع ما حوله. فكل ما يعيه أنه صفر هائم بصفر، وما عليه إلا أن يحقق إرادة التصفير والتدمير والغياب في غياهب الذهاب إلى حيث لا يدري إلى أين المصير.
لكن هذه النفس تكون ذات نزعات انتحارية مرعبة بسبب تحقق الانتحار النفسي فيها وتأكده في سلوكها، وما عليها إلا أن تستخدم البدن الذي هي فيه للتعبير عن جوهرها العدمي ومنطلقاتها الإمحاقية.
ومصيبة النفس العدمية، أنها ذات امتدادات ومجال تأثيري يتناسب مع درجة عدميتها، فقد يكون المجال مستوعبا لمكان شاسع وآخرين من حولها، ومن أخطر ما تتسبب فيه هذه النفس، عندما تكون في حشد من البشر المتنعمين بالحياة والمشاركين بنبضاتها. لأن صخب الحياة يزيد من طاقاتها العدمية، وإرادتها الإفنائية الشرسة مما يترتب على ذلك الإقدام على أعمال لا تخطر على بال، غايتها إعدام كل موجود حول النفس العدمية.
أو السعي لتصفير الذات والموضوع، ذلك أن العدمية اضطراب إدراكي خطير وتكمن خطورته في اتساع مجاله التدميري واشتماليته على فضاءات واسعة من حوله. ومن المرعب أن تتوفر الأدوات والوسائل الفتاكة للتعبير عن نوازع النفوس العدمية، بسهولة غير مسبوقة في تأريخ البشرية، ومنها توفر الأسلحة الأوتوماتيكية وأجهزة التفجير والتلغيم، وتحويل العدمي إلى قنبلة هائلة موقوتة يمكن تفجيرها عن بعد.
فالنفس العدمية تعدم ما حولها، ولا يعنيها ذاتها وبدن صاحبها، لأنها لا تمت بصلة لكل ما يدور حولها، وما تقدم عليه من أفعال شريرة وفظيعة لا تعنيها، لأنها تقدم عليها وكأنها لا تمت بأية علاقة إليها. ولا تستيقظ هذه النفس من عدميتها، إلا بانفجار بدنها وتحوله إلى جثة هامدة أو أشلاء متناثرة.
فواقع الأحوال في بعض المجتمعات يساهم بقوة وشدة للوصول إلى رعاية النفس العدمية وتقوية دورها وفاعليتها، وتأثيرها في ما يجري من تداعيات وويلات، حتى أصبحت سلاحا شرسا وقوة ذات طاقات تدميرية فائقة ومباغتة.
ومن الغريب أنها سادت وطغت وصارت صوتا وعنوانا وتوصيفا مرتبطا بالذات والسلوك المتراكم في تلك المجتمعات، مما تسبب بتفاعلات معوقة للتقدم والتواصل والرقاء، ودفع باتجاهات تدحرجية وتداعيات إتلافية وتفاعلات خسرانية.
وفي الواقع البشري الجديد، الذي تشارك في صناعته وسائل التواصل بأنواعها وقدراتها وتقنياتها، أصبحت الحياة في محنة شديدة ومضطرب أليم، خصوصا عندما أصبح للدين دور كبير في تسخير هذه النفوس للتحول إلى متفجرات، وآلات لقتل الآخرين وإزاحة كل موجود حي ومادي من فوق التراب، ولا بد في هذه المحنة من إشاعة النصوص الدينية التي تشير إلى قيمة الحياة وحرمة الإنسان وحقوقه وواجباته، وعليه أن يعمّر الأرض لا أن يخربها ويسفك فيها الدماء.
وعلى جميع المهتمين بالعلوم الدينية العمل الجاد والمجتهد لإظهار النصوص التفاؤلية الإيجابية، التي ربما تساهم في تحرير النفوس من عدميتها ونوازعها التدميرية وتفاعلاتها الإمحاقية الشرسة، السقرية الطباع والملامح، وتبني مصدات وموانع تدرأ أخطارها ونواكبها. ومن واجب المجتمع أن يكون واعيا ومتبصرا بالنفوس العدمية المتبرقعة بالدين، أو التي تحسبه قناعا لإخفاء ما عندها وفيها من الدوافع العدمية.
ومن الواضح أن أهم العلامات هي العزلة وقلة الكلام والإحجام عن مفردات الحياة وغاياتها ونبذ الطموحات، والانغماس بالغابرات وانحراف الفهم الديني، لضعف أو غياب أدوات الفهم الصائب وأهمها اللغة. فالعدميون أميون لغويا، لكنهم يتوهمون بأنهم يعرفون، ويتشدقون بالدين، ويلتقطونه بآليات إدراكهم الانحرافية الوهمية التي تغذي دوافع الدمار الشامل.
نعم لابد من يقظة جماعية اجتماعية عائلية وطنية مدرسية، وفي جميع أرجاء وقطاعات الحياة العامة للتنبه لعلامات وأعراض السلوك العدمي، ومحاولة التدخل قبل استفحال الأمر وحصول الويلات في زمن شديد. فالحياة رحلة ثورية متجددة ذات طاقات موجية، وتيارات تفاعلية متعاظمة تسعى لصناعة الشلالات الإنسانية المتأججة بالمعارف والعلوم والأفكار، وهي ليست مستنقعا متعفنا أو غديرا ينتظر الجفاف وقتل ما فيه من المخلوقات، الحياة حاضنة أحلام وطموحات وأمنيات وأنوار سلام ومحبة ورقاء، والنفس العدمية تناهض الموت والحياة معا!!
واقرأ أيضاً:
دَيْزيّاتْ!! (2) / التجهيل الوطني!! / التعفن الفكري!!