المشكلة في دوائر اجتماعية مختلفة
الفصل العاشر
والآن، نعود لنستكمل الحديث عن تأكيد الذات بأن:
نعبر عما نريد:
أحيانا ما نطلب معاملة لا نستحقها، ونسمح للآخرين أن يفترضوا أننا لا نهتم بحقوقنا. فنحن ندعوهم للأخذ منا بدون أن يردوا لنا المعروف، وأن يتركوا لنا دائما ما لا يفضلون عمله من أعمال، وأن يستغلونا للوصول لرغباتهم، بالطبع لا يجعل صمتنا الآخرين يسيئون لنا، لكننا نحن الداعين لذلك عن طريق إعطائهم فرصة الهروب من العقاب على ذلك.
نبدد طاقاتنا ونصيب أنفسنا بالمرض:
من أجل الإبقاء على هدوئنا نقوم باستهلاك كم كبير من الطاقة الشعورية كان من الأجدر أن نستخدمها لإخبار الآخرين بما نريد. ونحمل أنفسنا سلفا العبء بالإكثار من الندم، ونحن نتساءل: لماذا لا نطلب؟ وفي النهاية نستاء ممن لم يعطونا ما نريد ونغضب من أنفسنا لأننا لم نتكلم عما نريد!. وهذا الغضب عندما يكبت ويوجه لداخلنا يُعرضنا لخطر الاكتئاب والأمراض الخطيرة.
قد نضيع كثيراً مما نستحقه:
بصفة جزئية لا يستجيب الآخرون لمطالبنا؛ لأنهم ببساطة لا يعلمون عنها شئياً، أو لأنهم لم يُدفعوا لعمل ذلك باستماعهم لنا ونحن نعبر عنها، أو لذلك نعيش حياتنا ونحن نعاني من البؤس أكثر من اللازم. وفي الحقيقة يؤدي صمتنا إلى نتيجة معاكسة لما توقعنا، والواقع أننا نحصل على الكثير مما نستحق من الآخرين عن طريق إعلامهم بما نريد ببساطة. وها هي خطوات محددة ستساعدك على البدء في تغيير سلوكك:
شيء جميل جدا من أجلك: أعترف بأن عدم التعبير عما تريد خطأ محبط للذات. تقبل حقيقة أنك أخطأت في حق نفسك بصمتك عن المطالبة بحقك، عندما ترى ذلك على أنه خطأ، وأنك ستستطيع التوقف عن هذه العادة فعندها ستبدأ في التعبير عما تريد.
اتخذ القرار بأنك لن تعود أبداً للتصرف بهذا الشكل: قل لنفسك: من الآن فصاعداً سأخبر الآخرين بما أريد منهم، وقم بكتابة ذلك، وحدد له تاريخا وأضفه إلى قائمة قراراتك المتزايدة المعلقة على باب ثلاجتك أو تحت بلورة مكتبك!. وتذكر قول لافونتين: "الجبل لا يحتاج إلى جبل، لكن الإنسان يحتاج إلى إنسان" .
استعن بمساعدة الآخرين: قل لهم أنك تعاني من مشكلة خاصة بالتعبير عن نفسك، (يُحتمل أن يكونوا على علم مسبق بذلك، ويحتمل سلفا أنهم يُعَانُون من نفس المشكلة). يقول المثل اليوناني: "اليد تغسل الأخرى، والاثنتان تغسلان الوجه"؛ لذا ضع نفسك في موضع الضعف، وبهذه الطريقة قد تحفزهم ليصبحوا عازمين على مساعدتك. يقول جون هويس: "التعاون قانون الطبيعة ".
قد يكون صمتك سببا في إيذاء علاقتك معهم في الماضي؛ فقد تحتاج للغة اعتذار عند إخبارك لهم؛ فقد تقول: "أنا آسف، كنت أميل إلى عدم إخباركم بما أريد، وسواء عرفتم أم لم تعرفوا، فقد جعلتكم بعيدين كل البعد عن معرفة ذلك، وقمت بتقويض قدراتكم على معرفة ما أريد، وأنا أحاول ألا أفعل ذلك مجددا!"، يقول المثل العربي: "لا يعجز القوم إذا تعاونوا".
لا تضمن لك هذه الإجراءات الثلاثة البدء بتلقائية في التعبير عما تريد، فهذه العادة تختفي بصعوبة، وأساس هذه المشكلة ثلاثة افتراضات تنبع من تمرنك على التصرف بلطف مما يؤدي إلى تضليلك طوال الوقت، وتحتاج استبدالها بثلاثة منظورات بديلة.
ثلاثة منظورات مهمة:
1 - يتطلب المنظور الأول التفريق بين حب الذات والأنانية:
علمنا آباؤنا أن نكون محبين للغير، وألا نكون أنانيين؛ حيث نجعل الآخرين في المرتبة الأولى دائما ونحن بعد ذلك!. لذلك فكلما شرعنا في عمل شيء لأنفسنا، حتى بعد إجهادنا لأنفسنا من أجل الآخرين نسمع أصواتاً تأتي من داخلنا تقول لنا: إننا لا نتصرف بطريقة لطيفة، فقد افترضنا أن حب الذات والأنانية عبارة عن شيء واحد. وهما ليسا كذلك؛ لذا انتبه لما يجعلهما مختلفين!:
الأنانية: هي أن نكون منشغلين تماما بأنفسنا لدرجة عدم الاكتراث بحقوق واحتياجات الآخرين، لدرجة أننا نفشل في إدراك أن العلاقات السليمة تقام على العطاء بالإضافة للأخذ، وهذا الأخذ يتم عن طريق العطاء.
نعرف أن المراهقين والأطفال يمرون بمرحلة عدم الثقة للوصول لمرحلة التوازن الذي تتطلبه العلاقات السليمة فيميلون للأنانية حتى يصلوا للنضوج؛ وعندئذ تصبح أنانيتهم عبئا يسبب لهم عدم الإحساس بشعور جيد تجاه أنفسهم، ويحدث ذلك بدون إدراكهم فالأنانية هي الأسلوب الذي أراد آباؤنا أن نتجنبه؛ لأنه ليس لطيفا ولا أنيقا.
وعلى النقيض من ذلك حب الذات، وهو شيء مفيد ويبني تقييم الإنسان لذاته ويعني حب الذات عدم إصرارنا على الاهتمام دائما بالآخرين، وجعلهم في المرتبة الأولى، ويعني عدم خضوعنا للآخرين، وحسب التعريف يرى البالغون أنفسهم على أنهم اجتماعيون بطبيعتهم، وأنهم المسئولون عن الاعتماد المتبادل بين الأشخاص، وعن المصلحة العامة، وعن مبدأ المحبة؛ ولذلك فهم يحبون أنفسهم، وكذلك الآخرين.
يدعونا حب الذات لتوازن دقيق بين حب الآخرين، وفي نفس الوقت، وبنفس الطريقة، وبنفس المقدار الذي نحب به أنفسنا. وهذا يعني أنه في أي لحظة معينة إذا كنا لا نستطيع خدمة أنفسنا والآخرين معا، فعلينا أن نختار من نخدم أولاً.
في بعض الأحيان سنختار الآخرين لأن احتياجاتهم تفوق احتياجاتنا، أو لأنه الوقت المناسب لنؤثرهم على أنفسنا، أو المكان المناسب لذلك، أو لأنه دورهم في أخذ اهتمامنا، وفي بعض الأوقات ستكون احتياجاتنا أكبر من احتياجاتهم، أو سيكون دورنا قد جاء؛ ولذلك سنضع أنفسنا في المرتبة الأولى ونخبر الآخرين بما نريد منهم، وفي ذلك يقول الشاعر القروي:
لا ريب في أن الحياة ثمينة
لكن نفسك من حياتك أثمن
أما عن الإيثار فقد قيل: "بالإيثار على نفسك تملك الرقاب".
من المهم ملاحظة أن الاهتمام بمتطلبات النفس أمر متوارث في حب الذات وشيء طبيعي ولا يمكن تجنبه، وذلك سواء أكنا أنانيين أو قد وصلنا لعمق وتوازن حقيقي في حبنا للذات، وبالطبع لا يمكننا أن نتصرف على خلاف ما نعتقد أنه صواب. يقول سيروس: "من كانت منفعته لنفسه فقط؛ ينبغي اعتباره شريراً".
وحتى عندما نضحي بشيء ما، مما نملكه في سبيل شخص ما، وذلك في تجاوز واضح لاهتمامنا بمتطلبات أنفسنا، فهذا التصرف لا يكون معناه أننا غير مؤكدين لذاتنا، ولكن سلوك العطاء هذا من المهم سلفا لمعرفة أننا بعيدين عن الأنانية، كما أن مثل هذا التصرف يمكننا من الوصول إلى كمال شخصيتنا. يقول المثل الروسي: "يكون المرء طيباً إذا فضل الآخرين"، ويقول بيرون: "أحسن وسيلة للتمتع بالسعادة هي أن تشرك فيها غيرك". إذا كنت تنوي إخبار الآخرين بما تريد فلست بحاجة إلى أن تصبح أنانيا، كما يمكنك متابعة اهتمامك بطرق تعكس حبك للآخرين ولنفسك، أليس هذا بالفعل ما تريده من علاقاتك؟
يقول المنظور الثاني: إنك بحاجة لتكون حاضراً حضوراً تاماً للأشخاص المهمين بالنسبة لك:
إذا كنت قد نشأت لتكون شخصا لطيفا، فربما تعلمت أن تظهر في أحسن صورة، وأن تبدو هادئا وقت الآلام والمصاعب، وألا تسمح أبداً لأي شخص أن يراك وأنت قلق، أو وأنت تبكي، قد تعتقد أنها مجازفة ضخمة أو أنه من المستحيل عليك الحضور بشكل تام لمن تهتم بهم وأنت تعاني من مشاكل أو آلام أو مصاعب. ليس الأمر كذلك؛ فالحضور التام ليس هو السبيل الوحيد لكمالك الشخصي.
إننا نمنح حضورنا التام للأشخاص الذين يشكلون لنا أهمية خاصة عندما نكون قادرين على جعل أنفسنا في وضع ضعيف بالنسبة لهم. وهذا الوضع الضعيف يخبرهم بأننا نهتم ونثق بهم ونقدر ما يقدموه لنا، ولسوء الحظ لا يسمح معظمنا (معظم الوقت) لأنفسهم بالظهور بحالة ضعف كاملة تجعل الآخرين يشعرون بنا بشكل تام؛ فنحن نقوم بحماية أنفسنا وكبت مشاعرنا، والتردد في إخبار الآخرين بما نريد؛ وكنتيجة لذلك فإننا نقدم لهم جزءا واحدا فقط من شخصيتنا ونجعل أنفسنا حاضرين حضورا جزئيا، وبالتالي لا نشعر بالتقارب حتى مع العائلة أو الأصدقاء، كما نجد أنفسنا ونجدهم متغيبين عاطفيا.
لكل ما سبق فقد نفقد فرصة الإثراء التي يمكن عن طريقها أن يضيف الآخرون لحياتنا، وبالتالي يشارك هذا العيب في شعورنا بالنقص. ولتصبح حاضرا حضورا تاما عليك أن تكشف أشياء للآخرين أكثر من التي توصلها لهم ببساطة عن طريق المظهر والحقائق والأرقام، أو عن طريق طبع لطيف متكيف اجتماعيا، وهذا يعني أن ندعهم يعرفون كثيراً من أفكارنا ومشاعرنا ورغباتنا، حتى هذه الرغبات التي تشعرنا بالضيق، وعلى مستوى أعمق فهذا يعني التحدث بصراحة عن عيوبنا ومخاوفنا، وذلك يحدث فقط عندما يعرف الآخرون ما نخاف وما نحتاج؛ فيصبحوا قادرين على تفهمنا ومعرفة شخصيتنا الواقعية.
في أواخر التسعينات أتى إليَّ رجل من رجال الأعمال يدمن ابنه –المراهق– المخدرات وهذا الابن يتاجر فيها أيضا، كان الأب غاضبا، ولكنه كان يشعر بالحزن الشديد لما يحدث للولد، وبسبب فرق العمر واختلاف الطباع أصبح هناك صعوبة في التواصل بينهما، ولقد كان الأب في محاولات دائمة لاستبقاء صورته المثالية والمشرقة في نظر ولده. واعترف الأب أنه قلق بخصوص سمعته في وسط عالم رجال الأعمال، لقد أخبرني كيف كان صعبا عليه الاعتراف بإدمان ابنه للمخدرات، حتى بينه وبين نفسه؛ وذلك خجلاً لما يفعل ولده، لقد تكلم الرجل معي عن خجله ومخاوفه وعن الشيء الأساسي الذي يشكل أكبر قيمة عنده.
وفي النهاية كان قادراً على الذهاب لابنه حيث قال له بسببك كنت خائفا بشدة من ظهوري بشكل الأب الفاشل!، وقد شكَّل شعوري بعدم الأمان حاجزا بيننا، ولقد سئمت من ذلك، ولكني أحبك وأخشى أن تدمر حياتك، وأريدك أن تبدأ في تلقي العلاج على الفور، "وكانت هذه هي المرة الأولى التي يكون فيها الأب حاضراً حضوراً تاماً مع ابنه على مدار سنين؛ فأدى ذلك إلى محادثة أوصلت لمصالحتهما، ولشفاء بطيء ولكنه مؤكد للولد".
ولا أقصد بالحضور التام مع الآخرين أن تضطر لإخبارهم عن كل شيء عن نفسك!، ففي كل الأوقات يحتاجون فقط لمعرفة هذه الأشياء التي تناسب علاقتك معهم، وتختص بصورة حقيقية عنك، وبالذات لمن هم قريبون منك. هم ليسوا بحاجة لمعرفة كل التفاصيل الفظيعة عن الجانب المظلم في حياتك، أو كل الأوهام البشعة التي جالت في خاطرك، أو أي شيء قمت بعمله وأصابك بالخجل!.
الحضور التام يتطلب أمانة مناسبة:
تؤثر طريقة تحدثنا مع الآخرين على مقدار حضورنا بالنسبة لهم. فإذا قلنا أشياء معينة بطرق معينة فإن حديثنا سيضع الحاجز أمام الاتصال بعمق معهم، وإذا استخدمنا عبارات مختلفة فستجعلنا أكثر صراحة ووضوحاً؛ فلابد وأن نعرف أن الحضور التام ليس في البداية خطة أو أسلوب أو طريقة أداء، ولكنه وسيلة للاشتراك في علاقة، وبأسلوب علمي فهو شكل من أشكال الصراحة نصنعه في كل أنواع المواقف اليومية عن طريق صدقنا المناسب مع الآخرين، وذلك عند إخبارهم عما نشعر به، وعما نرغب في الحصول عليه منهم بصراحة ووضوح.
إنه التقارب المبني على الثقة والذي نقدمه لمن نتعامل معهم بصورة مستمرة من خلال الصدق في أداء الأشياء التي نقوم بها، فهو أساس للعلاقة السليمة مع الآخرين، ومختلف عن أسلوب حماية النفس بالتكتم الشديد الفج، وهو هام بالنسبة لحريتنا في إخبار الآخرين بما نريد منهم، وبالطبع فالحضور التام وضع يمكننا تحقيقه بسهولة كبيرة إذا ما تقبلنا أنفسنا، وامتلكنا إحساساً واقعياً بقيمة أنفسنا، وكان لدينا قدراً كافياً من تأكيدنا لذاتنا.
تقبل وامنح (قبولاً تاماً غير مشروط):
إنجازك الشخصي وطبيعة علاقاتك تعتمد على التزامك بذلك الحضور نحو القريبين منك في التعاملات المختلفة، وإن هذا الحضور المطلوب منك يحررك لكي تقول للآخرين ما تريد منهم بصراحة ووضوح.
يُعرّف المنظور الثالث بأنه: العدوان في مقابل تأكيد الذات على أنهما أسلوبان اجتماعيان مختلفان، الأول سلبي والآخر إيجابي: لقد فشلنا كأشخاص مهذبين في التمييز بين هذين الأسلوبين، واعتبرنا أنهما أسلوبين سلبيين!، قد تساعدنا رؤية الفرق بينهما على التحرر لإخبار الآخرين بما نريد. أنظر كيف يختلف كل شكلين من الأشكال التعبيرية التالية:
العدوان هو السيطرة على الأشخاص، وإخفاء قوتهم المشروعة. أما تأكيد الذات فهو التعبير عن رغباتك مع إبقاء قوة الآخرين على حالها.
العدوان هو أن تؤكد فقط على رغباتك وقيمك. يقول برنارد شو : الظلم الذي نَستَفيد منه يُسمى حظاً، والظلم الذي يستفيد منه سوانا يُسمى فضيحة!. أما تأكيد الذات فهو تأكيد كل من قيمك وقيم الآخرين.
العدوان هو الأنانية. أما تأكيد الذات فهو يُعبِّر عن حب ذات محمود.
نؤكد إرادتنا عندما نطلب من الآخرين احترام شيء مناسب، أما فرض احتياجاتنا عليهم فيجعلهم يفقدون اهتمامهم بالموضوع، أو يجعلهم يشعرون أن الآخرين بحاجة إليهم، وبالتالي يشعرون بالرضا بتجاوبهم معنا، وهناك شيء جميل قد يحدث عندما نخبر الآخرين بما نريد منهم؛ فعندما نفعل ذلك نقوم حقيقة بتكريمهم وتقوية الرابطة بيننا وبينهم، وببساطة فرؤيتنا في فرض إرادتنا دون الإضرار بمصالح الآخرين -وذلك كتعبير عن حبنا لذاتنا، ذلك الحب الذي يملك القدرة على تقويتنا وتقوية علاقاتنا- فذلك النوع من الفرض الصحيح لإرادتنا يساعدنا على التحرر من قيودنا، وبالتالي نتمكن من إخبار الآخرين بما نريد منهم.
إن فهم هذه المنظورات الثلاثة مهم، ولكنه ليس كافياً، فحريتك في التعبير عن رغباتك للآخرين ستأتي فقط عندما تقرر الاحتذاء بتلك المنظورات.
هل أنت راغب في حب نفسك؟!، وهل تكون حاضرا حضورا تاما لمن تهتم بهم؟، وهل تؤكد ذاتك بطريقة مهذبة (بدون عدوانية)؟.
إذا أجبت" بنعم" على هذه الأسئلة فأنت على استعداد للبدء في تطوير نسق سلوكي متزن لتأكيد ذاتك.
ويتبع >>>>>>>>>>> خطوات نحو أسلوب تأكيد الذات