الفصل الثاني عشر
كنت أجلس مرة مع مريض كان مديره يقوده إلى الجنون، ففي كل مرة يكون هناك تغطية إعلامية لعملهم أو منح جائزة، يظهر رئيسه فجأة في المقدمة لينال المديح!، وتُسلط عليه الأضواء!، علما بأنه لم يكن له صلة بالموضوع!!، فكان المريض يجد سلوك رئيسه مغضبا.
وفي كل أسبوع كان يخبرني هذا المريض برواية أخرى عن مديره!، قلت له ذات يوم: يبدو أن رئيسك هذا نموذج للثبات، وأنا لا أفهم لماذا يغضبك سلوكه بهذا الشكل؟ وأنت قد قبلت العمل معه منذ سبع سنوات؟!!، ولكن لماذا تفاجأ به كل مرة؟، لماذا تتوقع منه أن يتصرف بطريقة مغايرة بعد هذه السنوات الطوال؟، فهو يتصرف على سجيته، واقترحت على المريض أن يغير توقعاته لتتلاءم مع الواقع!؛ أليس هذا الاقتراح اقتراحاً صائباً؟!.
وعلى الجانب الآخر، كلما اتجهت إلى الاهتمام بكسب رضاء نفسك عن أدائك، وبدأت بالتوقف عن الاعتماد على الآخرين في كل التصرفات التي تقوم بها، دون مراعاة لواجباتك تجاه نفسك ومن أنت مسئول عنه كلما زادت قدرتك على أن تكون مواطنا صالحا يعرف ما له وما عليه.
العائلة والتلميح للطفل بأهمية اكتساب إعجاب الغير
قبل البدء في هذا الموضوع لابد من التأكيد على أن الأطفال بدون شك في حاجة إلى قبول وحب والديهم أو الأشخاص المهمين في حياتهم، لكن ذلك يجب ألا يتعدى الحدود المعقولة، كما أنه لا يجب عقاب الطفل على كل شيء يقوله أو يفكر فيه أو يحس به أو يعمله، من الممكن البدء في تعليم الطفل الاعتماد على النفس من المهد، وما دمنا سوف نتعرض لتربية الأطفال فيجب أن لا يخلط القارئ بين الحاجة إلى الإعجاب والحاجة إلى الحب عند قراءة هذا الفصل.
لكي نخلص أطفالنا من الحاجة إلى كسب إعجاب الناس عندما ينضجون علينا أن نعطي الأطفال الكثير من الإعجاب والاستحسان في البداية. ومع ذلك فإنه على الوالدين أن يكونوا على يقظة تامة في معاملتهم مع أطفالهم، ومن الأشياء التي يجب التنبيه عليها هو خشية وقوع الطفل في مشكلة الحاجة المفرطة لإعجاب الغير عندما يكبر، فإذا لاحظت أن طفلك لا يستطيع أن يفكر أو يعمل أي شيء قبل استئذانك فلربما غرست فيه البذور الأولى لطلب الإعجاب والمديح من الغير منذ الطفولة، وذلك عند قيامه بأي عمل يجب عليه القيام به، والمقصود هنا بحاجة الطفل لنيل إعجاب الغير هو كون الطفل غير قادر على عمل أي شيء دون أخذ رأي أحد والديه في ذلك، ولو كان شيئاً بسيطاً معتاداً!، وليس المقصود الحاجة الطبيعية لدى الطفل لتقبل وحب واهتمام والديه.
في الكثير من الأحيان يشجع الطفل من قبل المحيطين به على أن يعتمد على الآخرين بدلا من أن يثق برأيه الخاص، ولو حتى في أشياء بسيطة جداً، ولذلك يجد الطفل أن تصرفاته مقيدة تماما!!، من المألوف أن تسمع من الأطفال (ماذا آكل؟ متى؟ ما هو المقدار الذي أستطيع أكله؟ كيف ألعـــب مع؟ متى؟ أين؟ وتسمع من الكبار... إنها غرفتك يجب أن تكون على هذه الطريقة.... علق ملابسك.... رتب فراشك، ضع ألعابك في الصندوق الخاص بك، وهكذا) هنا بعض الأمثلة التي تدعم رغبة الطفل على نيل موافقة الآخرين على شكل محادثة بين الطفل وأمه:
تستطيع أن تلبس أي شيء تريده.
أتحبين هذا الطقم يا أمي؟
لا، المخطط والمربع لا يتناسبان معا، اذهب واستبدل القميص لكي يكونا متناسقين.
وبعد أسبوع
ماذا أخبرتك، البس ما تحب، لماذا تسألني دائما؟!
لماذا حقا؟ وعندما يختار طقما يحب الطفل لبسه، وهذا الطقم مقبول الشكل!،
تقول الأم عندئذ: هذا الطقم قديم لا تلبسه!! أخلعه وألبس الطقم الجديد الذي اشتراه لك والدك!!
هنا تقوم الأم بإلغاء شخصية طفلها تماما، وتحرمه من حقه في الاختيار!!.
في البقالة، البائع يسأل الطفلة، هل تريدين قطعة من الحلوى؟ الطفلة تنظر لأمها (البائع سألني هل أريد قطعة من الحلوى؟) لقد تعودت على التأكد من كل شيء عن طريق والديها... حتى إذا كانت تريد أو لا تريد، في اللعب والأكل والنوم والبدء في صداقة جديدة أو حتى التفكير في الواقع قلما تجد الوالدين يؤكدان على اعتماد الطفل على نفسه، والمشكلة تنبع من أن الوالدين يعتقدان أنهما يمتلكان الطفل، وبدلا من مساعدة الطفل لكي يفكر بنفسه، ويحل مشاكله بنفسه، ويطور ثقته بنفسه يصر الوالدان على معاملة الطفل كشيء يمتلكانه ملكية خاصة بهما.
تحدث خليل جبران عن الأطفال الذين يعاملون كممتلكات فقال: "أطفالك قد أتوا من خلالك وليس منك، وعلى الرغم من أنهم معك، فإنهم ليسوا ملكاً خاصاً بك".
النتيجة لهذه الطريقة المتسلطة والتي يُعامل بها بعض الأطفال هي أن يكون الطفل تابعا، وأمه وأبوه هما الحكم في كل شيء، يفكون الشجار فيما بينه وبين الغير، يلجأ إليهما عندما يتصرف صديقه تصرفاً لا يحبه، وباختصار الأم أو الأب هما الشخص الذي يفكر ويشعر ويتصرف حرفيا نيابة عن الطفل!!، وفي النهاية يتعلم الطفل أن لا يثق في قدرته على تخطي الصعوبات التي تواجهه، فأمه وأبوه سيقومان بذلك، وأيضا هو لا يعتمد على نفسه في اتخاذ قرار من الممكن أن يكون لديه القدرة على اتخاذه.
الآباء والأمهات لا يريدون أن يمس أولادهم مكروه، لذا فهم يبالغون في حمايتهم من الخطر، فإذا كانت الأم قلقة، أو لدى الأب بعض المخاوف المرضية؛ فإنهما يحيطان طفلهما بسياج من المخاوف التي لا فكاك منها، وتزداد العزلة الاجتماعية للأسرة ككل، والنتيجة –في أغلب الأحيان– تأتي على عكس رغبة الوالدين عندما يكبر الطفل، حيث أنه فاقد للخبرة السلوكية والإقدام المبني على الاحتكاك بالآخرين؛ وبالتالي تقل قدرته في الاعتماد على النفس، وبالذات عند مواجهة الشدائد.
أذكر صديقاً لي في مرحلة المراهقة كان يكبرني بعدد من الأعوام، وكان صديقي هذا هو محور حياة والديه، فهو الولد الأخير في أسرته من بين ثلاثة أخوان ذكور، وبينه وبين الصغير من هؤلاء الأخوة الذكور المتزوجين جميعاً عشرة أعوام، ووالده ضابط كبير سابق بالجيش، ووالدته سيدة فاضلة على درجة كبيرة من التقى والورع، وكان والدا صديقي هذا يخافان عليه بشدة، ويتدخلان في كل شئون صديقي هذا؛ حتى في اختياره لزيه وأصدقائه، وكان والده رحمه الله رجلاً طيب القلب ولكنه عالي الصوت، سريع الانفعال، وكان صديقي هذا كثير المراوغة رغم طيبة قلبه، وكثيرا ما يكذب على والديه لاسترضائهما، وليتجنب انفعالات والده وصوته الجهوري إذا غضب!.
وأذكر أن الأيام مرت سريعة وتزوج صديقي هذا من من فتاة أُعجب بها، ولكنها لم تكن محل إعجاب والديه، وكثيراً ما انحاز صديقي هذا إلى صف زوجته ولو كانت هي البادئة بالخطأ، فصديقي يعلم تمام العلم أن زوجته ستصب جام غضبها عليه إذا أنصف والديه عليها، وذلك رغم أن زوجته هي البادئة بالخطأ في معظم الأحيان، واستحوذت هذه الزوجة على عقل صاحبي هذا حتى أبعدته عن كل أصدقائه -وأنا واحد منهم- وكذلك عن أمه التي انفصلت عن ابنها رغماً عنها بعد أن كانت محور حياته وبالذات بعد وفاة أبيه رحمه الله، وعاشت الأم بعيدا عن ابنها بشقة للعائلة في القاهرة، بينما عاش الابن وزوجته بالإسكندرية.
وبالطبع هناك تكملة لهذه القصة في حياتنا الدنيا وفي الآخرة؛ ولكنني و بأمانة لم أجهد نفسي لمعرفة تطوراتها، فبعد أن استحوذت هذه الزوجة على حياة صديقي، ووجدته يؤثرها على والدته التقية الطيبة آثرت السلامة وانسحبت من صداقة عاق والدته.
ولكنني الآن وبعد مضي أكثر من عشرين عاما وعندما أتذكر تلك الأحداث أتصور أن هذا الابن كان يمكنه اتخاذ القرارات الحياتية الخاصة به بصورة أفضل لو ترك له والداه، رحمهما الله، مساحة من الحرية لاتخاذ القرارات البسيطة في حياته وهو صغير!!، وأن يعبر هذا الابن عن نفسه دون أن يَغضَب والداه بما يقول، وأن لا يضطراه أبداً للكذب مهما كان الأمر الذي فعله ذنباً كبيراً ومحرجاً!!.
عزيزي الأب، عزيزتي الأم؛
إذا كان من دواعي سعادتكما في هذه الحياة أن يكون لدى أبنائكم من قوة الشخصية القدر الكافي لتحقيق حسن الاختيار بين البدائل المختلفة للاختيارات المتاحة أمامهم فعليكما أن تعطوهم قدرا من حرية التعبير والتصرف وهم صغار حتى يُحسنوا الاختيار والتصرف وهم كبار.
من المهم أيضا أن يتحمل الأبناء المسئولية عما يتخذوه من قرارات بسيطة وهم صغار، وذلك حتى يتعلموا حُسن اتخاذ القرار، لما يستتبع ذلك من جسام المسئوليات التي ستقع على عاتقهم إذا هم أساءوا الاختيار، فمثلا إذا أصر الطفل على ارتداء ملابس غير لائقة رغم نصح الأهل والوالدين بعدم لبس تلك الملابس!!، فسوف ينتقده الناس والزملاء نقداً لاذعاً، يدفعه بعد ذلك إلى استماع نصيحة والديه فيما يلبسه.
وإذا نصح الوالدان مراهقاً بالاهتمام باستذكار دروسه قرب أيام الامتحانات ولم يستجب ورسب في مادة اللغة الإنجليزية، وهو الذكي الألمعي؛ فستكون مذاكرة اللغة الإنجليزية في قيظ الصيف دافعاً له في ألا يستكبر بعد ذلك على نصيحة والديه بالمذاكرة و الاجتهاد من بداية العام الدراسي!!.
أيها الوالدان لا تحرموا أبناءكم من بعض الحرية والاستقلالية والجرأة في اتخاذ بعض القرارات الخاصة بهم والتعبير عن أنفسهم بصراحة ووضوح بأدب ولباقة وفي حدود المسموح به من الدين والأخلاق المتعارف عليها؛ وذلك لتفرحوا بهم كبارا رجالاً ونساءً.
المدرسة والتلميح للطفل على ضرورة نيل الثناء والمديح من الغير
عندما تغادر المنزل إلى المدرسة، ستجد ما يعزز حاجتك لاستحسان الغير، تلك العادة التي بدأتها عندما كنت بين أهلك، عليك أن تستأذن قبل القيام بعمل أي شيء، لا تعتمد على أحكامك الشخصية، أستأذن المدرس للذهاب إلى دورة المياه، ولا تتحرك من مكانك إذا رفض أن يأذن لك، أجلس على مقعد معين ولو كنت غير مستريح فيه، لا تترك مقعدك بطريقة توحي للآخرين بأنها غير مؤدبة!!، إن كل شيء مرتبط بتحكم الآخرين في المدرسة، وبدلا من أن تتعلم الطريقة الصحيحة للتفكير، تتعلم عدم التفكير والنمطية، والحجة في ذلك مَثَل يقتل الإبداع والابتكار ألا وهو: "من سار على الدرب وصل"، فنحن نحاول أن نجعل من أبنائنا نسخا مكررة منا!!، حتى وإن كنا مخزنا من العيوب والعِبر!!، فنبدأ بالتسلط على أبنائنا ونصدر لهم سلاسل لا تنتهي من الأوامر والنواهي:
سطر دفترك بطريقة خاصة ولا تكتب على الهامش، أدرس الفصل الأول والثاني هذه الليلة، تمرن على الكتابة الصحيحة لهذه الكلمات، أهتم بصحة هجاء الكلمات، أرسم بهذه الطريقة، أقرأ هذا، قم بحل عدد كبير من المسائل الحسابية للتدريب على الامتحان، لقد علموك أن تطيع طاعة عمياء، وإذا كان لديك شك في مسألة ما فاسأل المدرس، ورأي المدرس ومن ورائه كتاب الوزارة أو كتاب أستاذ المادة (بالجامعة) قطعيٌ لا جدال فيه!!، وذلك رغم أن علوم البشر كلها تقوم على الظن، ومتغيرة!!، ولا يقين إلا الاعتقاد في وجود الله عز و جل "كل شيء ما خلا الله باطل".
لو نظرت إلى الفلسفة التي يجب أن تتبناها المدرسة، والتي تكتب تحت إشراف المتخصصين في التعليم، لوجدت أن من بين الأهداف التي تسعى المدرسة إلى تحقيقها ما يلي:
1- لابد من أن تراعي المدرسة النمو التربوي لكل طالب،
2- وأن تكون المناهج الدراسية مُعدَة لتلبية الحاجات الفردية لكل طالب،
3- كما يجب على المدرسة أن تجعل الطالب قادرا على الفهم الواعي لأبعاد شخصيته،
ولكن المدارس في أمتنا وبصورة عامة لا تجيد التعامل مع الطالب الذي يعرف قيمة التفكير والاستقلالية!!؛ ففي الكثير من المدارس والجامعات بمنطقتنا نجد أن السعي وراء كسب موافقة واستحسان الغير طريقة تؤدي إلى النجاح الأكيد؛ فإذا حُزت على رضا أعضاء هيئة التدريس، وتصرفت بالطريقة التي يريدونها فسوف تنجح، ولو أنه نجاح منوط بالحاجة إلى كسب استحسان الغير!، والقاعدة في البشر هي الاختلاف في الميول والنزعات والمفاهيم، وهذا الاختلاف هو الذي يؤدي إلى الإبداع و التطور، ورغم ذلك تجد الأساتذة في بلادنا قلما يشجعون طلابهم على الاختلاف معهم في الرأي، بل حتى لا يعطون طلابهم الفرصة في الاعتماد على النفس في تحصيل المعلومات المتعلقة بالمناهج الدراسية، فهذا شيء قلما ينال التشجيع بل قد يؤدي إلى رسوب الطالب لأنه غير مطيع!!.
وعندما يصل الطفل إلى المدرسة الأعلى يكون قد تعلم عادة "السعي لكسب موافقة الغير"، فإذا سأله المرشد ما هو التخصص الذي تريده في المستقبل يقول "لا أدري، أخبرني بما أحتاجه". وفي الثانوية قد يكون الطالب في حيرة شديدة في أي الاتجاهات يسلك، وسوف يشعر بالراحة عندما يتخذ له شخص آخر ذلك القرار!!.
واستطيع أن أقول أن هذه المشكلة هي إحدى أسباب انهيار وفشل التعليم في بلادنا، فكم من مرة أصادف طالب في المرحلة الثانوية وأسأله ما نوع الدراسة الجامعية التي ترغب في دراستها؟، والإجابة في 95% من هؤلاء الطلاب هي: "لا أدري"!!، وكانت الإجابة في النسبة الباقية هي: "وفقا للمجموع"، والسؤال هنا: هل يُعقل أن أمة متأخرة تريد نهضة وتلهث وراء ركب الحضارة، لا يعرف أفضل من بها من عقول (ألا وهم طلاب المرحلة الثانوية الذين سيلتحقون بالجامعة فيما بعد) ما هي الدراسة الجامعية التي يريدونها؟!، والتي سيترتب عليها مستقبلهم المهني والوظيفي!!، من المسئول عن هذه النكبة أو النكسة أو الفشل أو "قل ما شئت" في العملية التعليمية؟!، وإذا كانت المحصلة من العملية التعليمية، وبعد النفقات الباهظة التي تُنفق على هذا المنتج المُكلِف الثمين هي تخرج طالب من المرحلة الثانوية لا يعرف إلى أين يذهب؟! و ماذا يريد؟!؛ في الحقيقة إذا كانت هذه هي الثمرة والمحصلة للمدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، فلا داعي لها!!، ولنبحث عن نظام آخر للتعليم مثل نظام الكتاتيب مثلا!!، أو إنشاء مدارس للحرفيين من بعد الدراسة الابتدائية مباشرة، أو بعد الدراسة في الكُتَّاب مباشرة!!.
والبديل الآخر هو أن نصلح نظام التعليم الحالي المستورد من الغرب؛ بشرط أن يطبق المفاهيم الصحيحة لبناء شخصية متزنة مرنة متفهمة منتجة قادرة على تحمل المسئولية واتخاذ القرار؛ لذا لابد وأن نهتم ببناء شخصية الطالب، كاهتمامنا بتحصيله للمعلومات أو أكثر، وأن نهتم بكيفية وصول الطالب للمعلومة، وحصوله عليها، وليس بكمية المعلومات التي يحفظها الطالب (وقد لا يفهمها) كما هو الحال مع الطلاب في معظم بلدان الأمة!!!، فأصبح الكثير منهم ينطبق عليهم قوله سبحانه وتعالى: "كمثل الحمار يحمل أسفارا" الجمعة 5".
وفي هذا أعجبني قول أحد العلماء، وذلك عندما جاء إليه أحد طلابه مفتخرا بنفسه قائلاً: "لقد حفظت صحيح البخاري"، فرد أستاذه وكان جالسا بين طلابه: "لقد ازدادت نسخ صحيح البخاري نسخة!!"، وكأن الأستاذ يقول ليس المهم أن تحفظ كتب العلم!، ولكن المهم أن تتفهمها وتستفيد وتفيد الآخرين من روح نصوصها، وأن يُحسن الشخص التطبيق لتلك النصوص!، وأن تعينك كتب العلم على تطوير نفسك والآخرين، وأن تؤدي إلى ابتكار الجديد المفيد النافع فتتقدم الأمة، ويفيق أبناؤها من غفوتهم.
تعلم الحاجة لكسب رضاء واستحسان الآخرين من مصادر غير البيت والمدرسة
في كل يوم تتلقى العديد من التلميحات لكي تكون حريصا على نيل موافقة الغير ومعتمدا عليهم قبل الإقدام على أي شيء. أشهر الأغاني مثلا مليئة بالجمل التي تدعونا بألا نعتمد على أنفسنا وأن نتبع خطوات الغير. وتلك الأبيات الغنائية قد تكون ضارة أكثر مما يمكن تصوره. وعلي سبيل المثال:
قربك نار، بعدك نار، وأكتر من نار!!
أنت وبس اللي حبيبي!!
أخاصمك آه أسيبك لا!!
ولأننا نعيش بين أناس يشجعون على الاتكالية والاعتماد على الغير، فليس غريبا أن تجد نفسك تولي اهتماما كبيرا لآراء الغير فيك!. لقد تعودت على هذه الطريقة لفترة طويلة!.
وحتى لو افترضنا أن أهلك يدركون هذه المشكلة ويحاولون تجنبها لجعلك تعتمد أكثر على نفسك فستواجه من خلال علاقاتك الاجتماعية نوعا من التحدي لما يصر أهلك عليه، ولكنك لست ملزماً بالتخلي عن الاعتماد على نفسك مهما تكن الظروف.
تجنب التصرفات التي تحط من قيمة نفسك، وبالتالي يكون بإمكانك استئصال الاتكالية من عالمك تماما، والمقولة التالية تؤكد هذا المعنى "من الصعب على كل إنسان أن يقذف بالعادة من النافذة، ولكن على الإنسان تحديدها والتخلص منها خطوة خطوة".
التخلص من داء الحاجة لموافقة الغير ونيل استحسانهم
لو ألقيت نظرة سريعة على الطريقة التي يعيش بها الناس في هذا العالم لأدركت أنه من المستحيل أن يرضى عنك كل الناس، إذا استطعت أن تكسب رضا خمسين في المائة من الناس فأنت شخص محظوظ، ضع ذلك في اعتبارك وسوف تنظر لعدم استحسان الناس أو موافقتهم لك بمنظار جديد.
عندما لا يوافق شخص ما على ما تقول؛ فبدلا من أن تحس بأن هذا جرح لكبريائك، وأن تغير الموضوع لكي تحصل على الموافقة، تذكر أنك في هذا الظرف أمام أحد هؤلاء الخمسين في المائة من الناس الذين لا يتوافقون معك.
إن الوعي التام بأنك سوف تواجه حتما من لا يتفق معك على ما تقول كافي للتخلص من شعورك بخيبة الأمل، وذلك عندما لا يوافقك شخص ما على شيء فعلته أو قلته، فأنت عندما تتوقع ذلك سوف لا تحس بالألم، وسوف تتوقف تلقائيا عن اعتبار أن رفض فكرة أو شعور لك يعني رفض ذاتك.
إنك لن تستطيع التخلص من عدم موافقة الغير لك مهما بذلت من جهد
لكل فكرة من أفكارك فكرة أخرى يحملها شخص ما تعارض فكرتك تماما، إبراهام لنكولن (محرر العبيد حديثاً في الولايات المتحدة الأمريكية) تعرض لهذا الموضوع وقال في إحدى خطبه:
"لو قرأت أو أجبت على كل الانتقادات الموجهة لي فسوف أغلق هذا المكان أمام أي عمل كان، إنني أطبق أفضل الطرق التي أعرفها وأفضل الطرق التي أستطيع تطبيقها، وسوف أستمر في ذلك حتى النهاية، وآنذاك إذا اتضح أن ما عملته كان صحيحا، فلا قيمة لما قيل عني، وإن اتضح أن ما عملته كان خاطئاً فلن يتغير ذلك حتى لو أقسمت مئات المرات أنني كنت مصيبا"!!!
نماذج للتصرفات التي يقوم الباحثون عن كسب مدح كل الناس بها:
الحاجة إلى استحسان وموافقة الغير، كإنكار الذات، تبرز في عدد كبير من التصرفات التي تحط من قيمة الذات... من تلك النماذج ما يلي:
أن تغير الوضع أو الفكرة التي تعتقد أنها أصوب عندما تحس بأن شخصاً ما لن يوافقك على ذلك الوضع أو تلك الفكرة.
أن تتملق شخصاً ما لكي تكتسب حب ذلك الشخص.
أن تشعر بالكآبة والقلق عندما لا تحصل على موافقة شخص ما على ما تقول.
أن تشعر بإهانة عندما تلاحظ اشمئزاز شخص ما من بعض تصرفاتك.
أن يتهمك شخص ما بأنك متكبر؛ لأن هذا الاتهام يعني شعورك بأن هذا الشخص لم يعرك أي اهتمام.
أن تظهر موافقتك باستمرار وتهز رأسك لكل ما تسمع حتى لو لم تصدقه!.
أن تقوم بعمل ممل لشخص آخر، مع شعورك بالاستياء لأنك لم تستطع أن تقول "لا".
أن تضطر لشراء سلعة لا تريدها لأن البائع بطريقة خاصة استطاع حملك على شراء هذه السلعة أو الخوف من أن تستبدل سلعة وجدت أنها غير مناسبة بعد شرائها خوفا من أن يكرهك الشخص الذي باعها.
أن تأكل وجبة في مطعم مع أنها لم تُطبخ بالطريقة التي طلبتها؛ وذلك لأن النادل لن يرضى عنك إذا امتنعت عن أكلها وطلبت استبدالها.
أن تقول أشياء لا تعنيها خوفا من عدم محبة شخص آخر لك.
أن تنشر أخباراً غير سارة كي تسترعي انتباه الآخر لما تقول!!
أن تستأذن لكي تتكلم أو تشتري -أو تعمل أي شيء- من الناس الذين تعتقد أنهم مهمين في حياتك لأنك تخشى من أن تسيء إليهم.
الإكثار من الاعتذارات في مناسبات عديدة، ككثرة قول أنا أسف، والتي تعني الرغبة في عفو الآخرين عنك.
تصرفك بطرق غير ملائمة من أجل لفت انتباه الآخرين
أن تتأخر بطريقة غير عادية في كل المناسبات، وذلك للفت الانتباه حيث يضطر الجميع لملاحظة تأخرك المُتعمَّد أو بالأحرى ملاحظتك، وقد يكون الهدف من تأخرك الرغبة في أن تكون شخصاً مميزاً!!؛ ولهذا فأنت مدفوع في كلا الحالتين من قبل هؤلاء الذين أردت لفت انتباههم.
أن تجعل الآخرين يعتقدون بأنك على معرفة جيدة بموضوع لا تعرف عنه شيئاً.
أن تحاول كسب المديح بتهيئة الظروف لذلك في أي موقف من شخص أو أشخاص آخرين والشعور بالأسى عندما لا تتلقى ذلك المديح المُتوقع.
أن تشعر بتوجه سلبي نحو شخص تحترمه لأنه لم يوافقك على فكرة معينة، وأفضى بذلك لك.
والأمثلة كثيرة في ذلك، والتي توضح أن الحاجة لاستحسان وموافقة الغير تعد من الظواهر الاجتماعية المنتشرة في كل مكان، ولكنها تصبح مزعجة عندما يشعر الفرد بأنه في حاجة ماسة لاستحسان الآخرين، وهذا بالطبع يشبه نكران الفرد لذاته، واعتبار الأفراد الذين يُطلب منهم الاستحسان هم المسئولون عن الطريقة التي يشعر بها الفرد.
المكافأة الوهمية التي يحصل عليها الإنسان من جراء حاجته للاستحسان وموافقـــة كل الناس:
لكي نستطيع التخلص من هذه التصرفات علينا أن نتعرف على أسبابها أولا..... لذا سوف نذكر أهم تلك الأسباب وهي في الغالب مرضية، فإذا كنت من اللاهثين وراء كسب استحسان الغير لك فإنك ستحصل بالمقابل أو ستكون قادرا على أن: يتحمل الآخرون المسئولية عن الطريقة التي تشعر بها.
إذا كنت تحس بالضـــــآلة أو مكتئب.... إلخ لأن شخصاً ما لم يستلطفك، فإن ذلك الشخص وليس أنت يتحكم في الطريقة التي تشعر بها.
إذا جعلت الناس مسئولين عن الطريقة التي تشعر بها وامتنعوا عن إعطائك الاستحسان الذي تريد فإن أي تغيير في سلوكك يصبح مستحيلا ؛ حيث أن ما تشعر به الآن حدث كنتيجة لخطأ ارتكبه الغير، وباستطاعتهم عدم السماح لك بالتغير، لذلك فالحاجة إلى كسب استحسان الغير تحول بينك وبين التغير للأحسن.
طالما أن الآخرين هم المسئولون عن تغييرك فلا داعي للمغامرة ومحاولة التصرف بطرق أخرى. في الحقيقة سوف تكون عاجزا عن ممارسة أي شيء جديد إذا لم تتخلص من اللهث وراء دعم الغير لك!
مع مرور الوقت تزداد الصورة -التي ترى بها نفســـك- سوءاً، وبالتالي قد تبدأ في احتقار نفسك!
سوف تدعم الفكرة التي مفادها أن على الآخرين أن يعتنوا بك، وهذا قد يؤدي بك إلى التصرف بتصرفات طفلية لكي يدللك ويحميك الآخرون، وفي المقابل يستغلك الآخرون.
تلوم الغير على شعورك، وبالتالي تكون قادرا على تعليل عدم قيامك بما يترتب عليك مـــن مسئوليات.
تخدع نفسك بأنك محبوب من قبل هؤلاء الذين تعتقد أنهم أهم منك، لكن هذا الشعور بالراحة ممزوج بالإحساس بالسخط على نفسك.
ما دام الآخرون أهم منك فإن المظاهر الخارجية أكثر أهمية مما تحس به أنت شخصيا.
تخدع نفسك بملاحظة الناس لك، وهذا يعطيك شيئا تتباهى به على أصدقائك المصابين بنفـــس المشكلة.
قيامك بتلك التصرفات تربح رضاء أولئك الذين يشجعون حاجتك لنيل استحسان وموافقة الغير، إما للسخرية منك أو لاستغلالك.
هذه المردودات النفسية التي يحصل عليها طالب استحسان الغير مشابهة للتي يحصل عليها من يكره نفسه0في الحقيقة تفادي المسئولية وتفادي التغيير للأحسن أو عدم محاولة أشياء جديدة تعتبر الركائز الأساسية للتفكير الذي يقضي على الذات الإنسانية، ولكن بالنسبة لبعض الناس من الأسهل والمألوف والأكثر أمنا أن يتصرف الشخص تصرفات عصابية (مثل القلق والوسواس والوهم المرضي) والحاجة لموافقة الغير واستحسانهم لا تُستثنى من ذلك.
ويتبع >>>>>>>>>>> استحسان الغير يناله من لا يبحث عنه