أمام عناوين مثل( 18 مليار جنيه مخدرات سنوياً!)، (الإدمان يطارد الشباب)، (المرضى: مصحات الاستشفاء تحولت إلى سجون يعود بعدها الكثيرون للإدمان)،...... وغيرها، يجب أن نتوقف برهة، نتوقف عن ندب حظنا وعن وعظ أنفسنا وأولادنا، لنا أن نتأمل ما نفعله ونفحصه جيداً، ولسوف نجد أن معظم السياسات تركز على مشكلة تعاطي وإدمان المخدرات كأمر جلل مستقل دون روابطه وجذوره الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية. إن المشكلة الأساسية بالمفهوم الاجتماعي ـ هي أن المجتمع المصري صار يولد عدداً لا حصر له من "الأحداث" و"الحوادث" الاجتماعية و صار أيضاً مجتمعاً "يقوده الحدث".
ولعل أهم تلك "الإصابات الاجتماعية" (الإدمان) بكل ما يشكله من توحش وخطر وضخامة لا يستهان بها، لارتباطه بكوارث أخرى مثل (العنف، الجريمة، العشوائيات، الانحطاط، التدني في الذوق العام، الانحلال، حوادث المرور، البطالة، الإحباط، الفراغ، التوتر الاجتماعي الشديد، انقلاب الموازين والقيم، والفساد القيمي الاقتصادي والنفسي).
علينا أن نفحص وندقق جيداً في جدوى وفعالية ذلك المجهود الضخم الذي تبذله مؤسسات مختلفة أهمها صندوق مكافحة وعلاج الإدمان، أن نفحص وندقق في مدى ذلك وعمق تأثيره على أرض الواقع، ولماذا تزيد مشكلة إدمان المخدرات مع ازدياد حجم التصدي لها، ومع الإصرار الإعلامي على تناولها، ربما بطرق غير ناجحة حتى الآن، (فكاهية أحياناً، وأحياناً أخري تخويفية ساذجة؟!).....
أعتقد أن ثمة انفصالاً بين الأجهزة المختلفة تلك المَعنية بالمشكلة، (صندوق الإدمان، وزارة الشباب، وزارة الصحة، وزارة الداخلية، وزارة الشئون الاجتماعية،والجمعيات الأهلية). أتصور جهازاً صلباً واحداً يضم، يخطط وينظم العلاقة بين المجتمع ككل، وبين المشكلة بكل تفرعاتها. بعدئذٍ ومن خلال تمازج متناغم بين تخصصات مختلفة يمكننا الاستغناء عن النموذج الطبي الخالص الذي يعتمد فقط على إدخال المدمن إلى المستشفى، سجنه داخل المصحة، حقنه وإعطائه بدائل
كيميائية لما أدمن عليه، عقابه ومعاملته أحياناً كالمجرم والمنبوذ والمطارد، مما أدّىـ مؤخراً ـ إلى استخدام أساليب عقابية من قبل بعض الممرضين الذين من المفروض أن يكونوا معالجين، وتم ذلك دون إشراف أو رقابة مما أدَي إلى إغلاق بعض أقسام الإدمان أو تحويلها من مكانها، أو إلى طرد المدمنين إلى الشارع وهم في منتصف المرحلة العلاجية كما حدث مؤخراً في (الخانكة والعباسية)، وهي أقسام معالجة إدمان خاصة يدفع فيها المريض أجر علاجه أو يعالج فيها على نفقة الدولة.
لنا أيضاً، أن نستغني عن النموذج الصحي، بمعني أن (المدمن مريض وليس مجرماً أو مجنوناً؟!)، نطببه ندلـله ونغذيه ببدائل كيميائية دون تأهيل، أو بتأهيل صوري غير محكم وغير مستمر. أن نستبدل النموذج القانوني الذي يحاسب المدمن دون هوادة. ويودعه سجوناً تنتشر فيها المخدرات وموبقات أخرى تدفعه إلى وحل التفتت الإنساني فتتفاقم المشكلة. أتصور أن نؤطر كل الاتجاهات في نموذج اجتماعي صحي، وهنا سنتمكن من رؤية مشكلة إدمان المخدرات والتعامل معها على أنها إحدى مشكلات المجتمع الحساسة والحادة دون عزلها، ودون محاولة حلَها بمفردها، أن نضعها في مكانها الصحيح، نري روابطها المتصلة وأذرعها الملتفة كأرجل الإخطبوط فنقطعها لنصل إلى الرأس ثم نتعامل معه جذرياً.
أن نزن مجهوداتنا بميزان الذهب الحساس، ككل وبكل دقة لا كاتجاهات مختلفة، ومن عين الدور الاجتماعي المجتمعي الشاملة، بدفع كل النشاطات المختلفة نحو (الإنسان لا الإدمان) وليكن ذلك شعارنا، بمعني أن نركز على العلاقات الإنسانية: الأم الحنون التي تتحول إلى مفسدة للإبن دون أن تدري، الأب الغائب نفسياً وجسدياً، القدرة على الحب والتواصل، التمكن من إقامة حوار حقيقي مع الآخر غير خاوٍ وغير مُمل، التمكن من العمل والإنتاج، الثقة بالنفس، والإحساس بالمسئولية...
وهنا سنركز على خمس مجموعات محددة:
1- غير المستخدم للمخدرات بكافة أنواعها،المُعّرض للخطر في مجتمع يتفشى فيه إدمان المخدرات.
2- الذي يجرب من باب التقليد أو الجهل.
3- الذي يتعاطى من باب الترويح والترفيه.
4- الذي يسيئ استعمال المخدرات ومتورط في المسألة.
5- المدمن الذي خََفَ وعيه وتوارى حتى صار معاقاً والذي ألحق
بنفسه وبغيره أضراراً جسيمة بحق، والذي تعوَد حتى فشل تماماً في ترك المخدر. يمكننا هنا التعامل مع تلك المجموعات، ومع كمّ المشكلات من خلال ثلاثة أنظمة: أولية، ثانوية، وثالثة وقائية، بمعنى ضرورة تصنيف المستهدفين إلى مستخدمين وغير مستخدمين للمخدرات، الذين لم تعرض لهم الشرطة ولم يُعرضوا على القضاء.
في كل الأحوال يجب توفير بدائل حقيقية للإدمان {ثقافة بديلة غير هزيلة ـ فرص عمل حقيقية ـ إنهاء تربية الخمس دقائق ومجتمع التيك أواي ( أكل وتعليم وقراءة)ـ محاولة إعادة الُلحمة الأسرية المفقودة ـ البحث عن بدائل للنظام التجريمي العقابي البوليسي دون التفريط في حقوق الناس، فبدلاً من السجون التقليدية بكل سوءاتها عقاباً لمرتكبي الجرائم من المدمنين، تكون هناك مجتمعات علاجية تأهيلية مغلقة تسمح بإجازات (على غرار تجربة سنغافورة في هذا المجال) حتى لا نخلق بيئة مصطنعة لا تفيد إلا في وقت الإقامة فيها.
علينا أيضاً البحث عن بدائل داخل النظام القانوني فيما يتعلق بالضبط والمحاكمة وتنفيذ الأحكام (الحفظ والبراءة في قضايا المخدرات تزيد عن 75% والإدانة 24%، تنفيذ الإعدام في 14 من بين 97 محكوماً عليهم بالإعدام في 40 سنةـ دراسة توثيقية عن المخدرات ـ المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائيةـ الأهرام 30/10/2003.)}
كما نحتاج إلى آليات للمكافحة والعلاج تعتمد على الحفز والاستجابة ارتكازاً على النمط السلوكي الحياتي للفرد وعلى الأسباب الرئيسية لإدمان المخدرات. دون خجل، ودون مواربة، إذا صرحنا على أننا قادرون على منع أي شخص من استخدام المخدرات فإن ذلك لن يكون إلا محض هراء، لأن الوقاية بمعناها الدقيق مستحيلة التطبيق، وليكن منتهى حلمنا وثمرة جهدنا هو أن نُعلم الناس (بذكاء) ودون مباشرة فجة، أخطار إدمان المخدرات. أن نوفر لهم آليات تعزز شخصيتهم وتمكنهم من تحقيق حياة طبيعية، أن نقضي قدر الإمكان ـ على كل العناصر الحياتية التي تمهد الطريق ـ دون هوادة ـ وبسحر خاص إلى إدمان المخدرات. هكذا... وبدون انتفاضة ذعر (خَضّة) أو (فزعة) نُداهم بها الناس في صورة برامج، مؤتمرات، ندوات، إعلام متعدد الوسائط، دون محتوي أحياناً، وبصورة أبوية سلطوية أحياناً. لنا أن ندرك أنه من ضرب المستحيل والخيال أن نحاول تعليم الناس كلهم وأن نوعي الشباب جميعهم أخطار المخدرات ومساوئ إدمانها......
كل ما سبق، كان تصوراً إسترتيجياً محدداً، فماذا عن التطبيق: الخطوة الأولي هي أننا لابد وأن نختبر حجم مشكلة تعاطي وإدمان المخدرات في عموم مصر كلها (ونحن لا ننكر إطلاقاً أن ذلك مهمة شاقة للغاية، فكيف لنا قياس نسبة المتعاطين والمدمنين في مصر؟!
سنحاول أن نحصر تلك الأعداد في مصر كلها، ثم في قطاع الشباب فقط، ثم هؤلاء قيد العلاج والتأهيل (يحتاج هذا الأمر إلى دأب ونظام إحصائي يتميز بالصبر والدقة والمثابرة)، بعدئذٍ يتم حصر هؤلاء الذين أُودعوا أقسام الشرطة وأُفرج عنهم، وهؤلاء الذين حكم عليهم وأُودعوا السجون، بمعنى تقييم شامل ـ يكون متاحاً لكل الباحثين والمُعالجين ـ لنسبة الإصابة بإدمان المخدرات، يرسم لنا خريطة للأنماط الاجتماعية الطبقية التعليمية الثقافية والمادية لمدمني المخدرات في مصر، شاملة عادات تعاطيهم، العرض والطلب، البدائل الكيميائية والمخلّقة، ماذا يفضلون وماذا يرفضون، أي أن نرسم شكلاً لهؤلاء المعرضين للخطر، وهؤلاء الأكثر هشاشة.
أن نصنع قماشة اجتماعية سكانية (ديموجرافية)، فإذا أخذنا مدرسة ثانوية كمثال ـ فيها 100 طالب، 50 جّربوا مخدراً ما،30 منهم تعاطوا على سبيل الترويح الاجتماعي، من هؤلاء الـ 30 خمسة أصبحوا في حالة قريبة من الإدمان، واثنان من الخمسة سيضطربون جداً ويتحولوا إلى مدمنين حقيقيين. هنا سنركز البحث على الخمسة، بل أساساً على الاثنين، علينا هنا في هذا المثال أن نعود مرة أخرى إلى المائة، ونبحث بجدية:
لماذا لم يجرب خمسين منهم المخدرات؟! ولماذا توقف عشرون منهم عند حدّ التجريب؟! لماذا لم يصل الخمسة والعشرين الذين استخدموا المخدر كترويح اجتماعي إلى حدّ الإدمان؟! لنا أن نفحص أنماط الشخصية والسلوك لدي كل هؤلاء، ثم نقارنها ونري لماذا وكيف اختلفت، وما هو دور التعزيز الشخصي، وهكذا،.......
ليس المهم هنا تحديد من في دائرة الخطر، ولا من يعرف أخطار المخدرات، لكن لنا أن نعرف رأيهم وموقفهم (يا عم يعني..... العمر واحد والرب واحد، لو الواحد فاق في الظروف دي يموت، وأنا لا عايز أفوق ولا عايز أموت).
يجب أن نوعي الناس ونعلمهم بشكل منطقي ينفذ إلى قلب الإدراك الذهني والحسي، تعليم سلوكي إدراكي من اللحم الحي، من الشارع، بلغته، لا من فوقه ولا من وراءه، لا بعيداً عنه ولا ملتصقاً به، ولا أن نسوق مصطلحات وعبارات من المراجع والكتب فقط.
علينا نحدد لمن سنتكلم، ومن سَنوعي ومن سنستهدف، أن نكون جاهزين بالخدمات المجتمعية الأهلية والحكومية البعيدة عن الروتين، وبعدما نرسم خريطتنا للمدمنين، للمتعافين، وللذين في دائرة الخطر، والبعيدين عنها، أن نسبر غور تلك الدائرة ونغوص في عمقها، أن نركز على المجموعات الهشة، هؤلاء الذين يعانون من البطالة ومن الصعب توظيفهم، أن تكون هناك برامج للفئة التائهة الضالة بلا معنى، علينا أن نركز كيف نساعد الشباب بالقروض الصغيرة للبدء في عمل شريف.
لنا أن نتعلم من كل أخطائنا السابقة والقادمة المفترضة، ألا نترك الأمر للفرصة، بل للاتجاه المحدد، مسلحين بالمعرفة، بتوعية غير دعائية، غير ترهيبية، غير فكاهية، داخل المدارس والمعاهد والجامعات، أن ندخل ما يمكن الاصطلاح عليه بالتعليم الوجداني (فالوجدان الجاهل والملوث يخلق مدمناً عابثاً ومجرماً خطراً بسهولة)، علينا بالتأهيل الحقيقي، الذي يفتش عن مواطن الضعف ويعالجها، يقويها، ويعزز مواطن القوة ويسمو بها، لا حاجة بنا إلى محاضرات وأفلام فيديو وملصقات بها شياطين حمراء الذنب والعينين.
أن نركز كل قوانا ونشحذ أذهاننا نحو هؤلاء القابعين في دائرة الهشاشة، ربما حركتهم نسمة، وربما أغرقتهم لُجّة وربما أنهضتهم كلمة، وربما أماتتهم جرعة صغيرة من مخدر مخلوط عجيب غريب نزل السوق حديثاً على غرار ركب النمل.
اقرأ أيضاً :
نفسية المصريين الفساد القيمي / المصريون والعفاريت(2) / خيانة المثقفين ... سيكولوجية خاصة