ثقافتنا العربية المعاصرة متوعكة، ولا ريب، لا جدل كبير في هذا، بل ولا خلاف معتبراً أيضاً في أنها متوعكة وموعكة في الوقت ذاته، فهي مكمن الداء والدواء؛ ومن ثم فلا طاقة لنا بتجاوز عللنا وأسقامنا إلا بعلاج عللها وأسقامها، ولا حيلة لنا بالنهوض إلا عليها، ولا بالخيال المحلق إلا داخل جوفها، ومثل ذلك التوصيف قد يحيلنا إلى نوع من الإشكالية الدائرية التي لا يعرف (دجاجتها) من (بيضها)، فكيف يطبب العليل عليل مثله؟ فمن يُصلح الآخر؟ هل الثقافة هي التي تصلحنا أم نحن الذين نصلحها؟ أم أننا نتشارك في تطبيب ثنائي ديناميكي، يصلح فيه بعضنا البعض الآخر؛ مع ما يصحبه ذلك من تجارب وممارسات صحيحة وخاطئة!
عنوان المقال يكشف لنا دون مواربة أن ثمة فرقاً بين مصطلحي (التشخيص الثقافي) و (التشخيص الثقافي الحضاري)؛ ولتجلية ذلك الفرق بينهما نسوق مثالاً عملياًً حياتياً، وليكن مستوحى من البيئة التربوية التي نعايشها جميعاً وندرك واقعها جيداً... دعونا نتخيل حدوث مشكلة سلوكية خطيرة لطالب في إحدى مدارسنا...
تفاقمت المشكلة وتعقّدت، مما حدا بمدير المدرسة أن يستنجد بالمرشد الطلابي الذي يعرف كل صغيرة وكبيرة في المدرسة، وقد شهد له بالبراعة الفائقة في تشخيص مشكلات الطلاب وفي حلها أيضاً، فهو يسلك منهجاً محدداً دقيقاً في التحري وجمع المعلومات عن الطالب وسلوكه داخل المدرسة، حيث يبادر بسؤال الأساتذة عن مستواه العلمي ونمط شخصيته وتفكيره وسلوكه داخل الفصل وخارجه، كما يستفسر من زملاء الطالب عن أخلاقه وطريقة تعامله معهم، وله وقفة تحليلية إحصائية للجانب التحصيلي للطالب في مختلف المواد... يسأل المرشد نفسه أسئلة ذكية ويجيب عنها بتفصيل وتعمق كافيين؛
في ظل المعلومات المتوفرة له من داخل المدرسة... ينتهي بعد التأمل وتقليب النظر في المشكلة إلى نتيجة حول الكيفية المثلى للتعامل مع ذلك الطالب وإرشاده إلى الحل.
قد يشعر البعض بالاطمئنان إلى النتائج التي توصل إليها ذلك المرشد، إذا نظر إلى درجة الإحكام في المنهجية التي يسلكها في جمع المعلومات وتحليلها والخلوص إلى نتائج محددة، غير أن التحليل النقدي يجعلنا نعيد النظر في النتائج، ليس ذلك فحسب بل ويدفعنا إلى توجيه قدر من التشكيك في مستويات صحتها ودقتها من جهة، ومدى ملاءمتها لواقع الطالب من جهة ثانية، وما يدعونا إلى ذلك التشكيك المنهجي هو إغفال المرشد لما (وراء المدرسة)، إهماله لتفاعلات الطالب مع محيطه الأوسع، حيث العائلة والبيت والمسجد ووسائل الإعلام والشلة والنادي والإنترنت والمقهى والملعب والشارع... ثمة شبه كبير بين الحكم الذي يمكن أن ننتهي إليه في هذا المثال، والحكم الذي قد نصل إليه في ثنايا حديثنا عن التشخيص الثقافي مقابل التشخيص الثقافي الحضاري.
تتوجه جملة الجهود التشخيصية للثقافة العربية المعاصرة إلى ما يمكننا تسميته ب (التشخيص الثقافي) -وإن لم تتسم به- والذي يرتكز على ممارسة العمل التشخيصي داخل إطار الثقافة الواحدة، ولعل من أهم المزايا لهذا اللون من التشخيص أنه يهتم بشكل مكثف بالتفاصيل، وهذا يعني أن درجة التركيز أو (الرزلوشن) قد تكون عالية جداً، مما يمكّن المتفحّص أو المشخّص من رؤية ثاقبة لشرايين الثقافة الداخلية وما يعتمل في أعماقها من خلايا البناء وميكانزمات الدفاع والقوى والأجسام المهاجمة؛
وتفهم متعمق لطبيعة واتجاه التفاعل بين تلك الأطراف وما يسفر عنه ذلك التفاعل من التدافع أو الصراع المؤبد أو المؤقت، وما يخلّفه من نتائج في الفضاءات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية.
هذه القدرة التركيزية الفائقة للتشخيص الثقافي تمكّن المشخّص من التعرف على حجم الإنجازات والإخفاقات المتحققة في المجالات ذات الصلة المباشرة بالوضع الثقافي والوظيفة الثقافية، كما تساعد المشخّص على اكتشاف كثير من الأمراض التي تصيب المجتمع في تلك المجالات...
وثمة ميزة أخرى للتشخيص الثقافي -بحسب ما نشاهده من الممارسة الفعلية- تنبثق من نزعته التخصصية والتي تتيح لنا الإفادة من أكبر عدد ممكن من المتخصصين الذين تختلف مناهجهم في التشخيص، وتتباين أدواتهم التشخيصية، وتتعدد زوايا اهتماماتهم، وتتلون طرائق تعبيرهم عن رؤاهم وقناعاتهم تجاه تشخيص ثقافة مجتمعهم. وهؤلاء المشخّصون أصناف وفئات وألقاب...
فمنهم المفكر والمثقف والأديب والشاعر والفقيه والكاتب والنفساني وعالم الاجتماع والأنثروبولوجي وأستاذ الجامعة والفنان والسياسي المثقف والطبيب المثقف والمهندس المثقف وغيرهم كثير... فالشاعر -بالفصيح والعامي- يعبر عن تشخيصه للواقع للثقافي من خلال القصيدة التي يعزف بها على أوتار المشاعر الإنسانية عله بذلك أن يصل إلى برمجة التفكير ومن ثم تشكيل السلوك لدى مستمعيه ومحبيه على نحو ما يؤمن به...
والروائي يفعل تماماً كفعل الشاعر؛ من خلال حبكته القصصية وحبائله الفلسفية واتجاهاته الفكرية الممتزجة بنظرته الخاصة للخريطة الثقافية، والتي تجد غالباً سبلاً إلى وجدان قارئه وعقله، وهكذا يفعل الآخرون مع اختلافهم في المنطلقات والأدوات المنهجية والقوالب التعبيرية؛
والنكهة التشخيصية لكل صنف من أولئك المشخّصين تبدو جلية في تمايزها من خلال التدقيق في قائمة موضوعاتهم وسلم أولوياتهم، ودرجة الخطورة الممنوحة لكل موضوع، وتحديد الأطراف (المتورطة) في إيجاد المشكلة أو تفاقمها، والأطراف التي بوسعها أن تقدم حلاً شاملاً أو جزئياً للمشكلة، ونوعية العلاج ونحو ذلك من الأمور، فمثلاً لا يُتصور أن ينبري (خطيب) للتحذير من انتشار داء الرشوة في المجتمع من غير أن يكون ذلك منبثقاً من تشخيصه لأوضاع الناس في محيطه الاجتماعي وتقديره بأن الرشوة باتت داء اجتماعياً يجب التصدي له...
ولا نتوقع من النفساني أن يتحدث عن مشكلات نفسية لا وجود لها. وعلى الرغم من تلك المزايا للتشخيص الثقافي نبادر بالقول بأن لذلك التشخيص عيباً خطيراً يتجسد في ممارسة العمل التشخيصي لثقافتنا بمعزل عن الثقافات الأخرى، وهذا لا يعني خلو الذهن تماماً من بعض الانعكاسات لأثر التفاعل بين الثقافة العربية الإسلامية وغيرها من الثقافات، ولكن المقصود هنا هو أن ارتسام ذلك التفاعل في ذهن المشّخص يظل خافتاً وضمنياً، مما يجعله بعيداً عن الانتظام في إطار فكري يحكمه المنهج؛ ويضبط وظيفته ويؤطر حدوده.
وهذه الصبغة الانعزالية تفضي بالتشخيص الثقافي إلى ضعف الاستبصار الفكري والنقد الشمولي، وهنا يجب أن نستدعي المثال الذي أوردناه في مطلع المقال لنتبين أوجه الشبه بين المرشد الطلابي والمشخّص الثقافي، حيث يركزان وبشكل مكثف على ما يحدث داخل الرواق المدرسي والثقافي تباعاً، دون تفحص مستبصر للتفاعلات الحادثة خلف ذلك الرواق، الأمر الذي يحد من قدرتهما الوصفية على رسم تصور دقيق لما يحدث فعلاً، ويوهن قدرتهما الاستشرافية لما قد يقع مستقبلاً، إذن نحن بحاجة ماسة إلى أن يتحرك تشخيصنا في فضاء أرحب وبأدوات تحليلية أعمق...
والحديث السابق يجسد طرحاً مبدئياً ومبسطا للموضوع وله بقية بل بقايا واستحقاقات!
اقرأ أيضاً:
متى نشخِّص الثقافة؟/ القابلية للانصياع.. والفتاوى الدينية!/ وعينا متوعك!! / المراكز البحثية والباحثون الحقيقيون!