سلف القول بأن من أعقد إشكالياتنا الفكرية المعاصرة استجلابنا للتصورات والمفاهيم والأفكار من خزانة الآخر والتورط بتحيزاته؛ التي يتكئ أكثرها على ثنائية حادة في "جدلية صراعية" و"نظرات اختزالية"؛ يستعدي بعضها بعضا وفق أطر غير توافقية، وقد حددنا فيما سبق ماهية الدين، وكثفنا الحديث عن النظرات الإسلامية المحورية تجاه العلم، مما يجعلنا مطالبين بتحديد ماهية العلم، وتحديد انعكاسات ذلك على الفكر العلمي والممارسات العلمية، مع التركيز على ما له صلة مباشرة بقضيتنا التي نعالجها "فصل الدين عن العلم".
هل العلم هو (ما خضع للحس والتجربة) كما هو في التعريف الشهير الذي تتبناه اليونسكو، باعتبارها المؤسسة الدولية التي ُتعنى بالشأن العلمي والثقافي، وهل يعني تبني اليونسكو لذلك التعريف التأكيد على صحة ما يعتقده البعض من وجود "مفاهيم عالمية" أو "فكر عالمي" أو "أدب عالمي" وما إلى ذلك من القائمة التي تنتهي آخرها بـ "عالمي". والحقيقة أنه لا يوجد شيء يمكن أن نسميه بالعالمي، لأسباب كثيرة ليس هذا مجال بسطها، من أهمها أنه لا يمكن للثقافات المختلفة أن تتفق على معايير "العالمية" في تلك المجالات، ولو عدنا إلى تعريف اليونسكو "العالمي" لوجدنا أنه ينبثق من الإطار العام للفلسفة الوضعية Positivism ؛ والتي تتكئ على ثلاثة مزاعم واهية، فهي تزعم بأن:
(1) المعرفة لا تحصل إلا عن طريق التجربة التي نقوم بها من خلال إجراءات محكمة وصارمة Empiricism ، ليس في العلوم البحتة فحسب، بل في العلوم الاجتماعية والإنسانية،
(2) الحقائق منفصلة عنا كباحثين مما يمكننا من الوصول إلى اكتشاف الحقائق بكل موضوعية Objectivism،
(3) الباحث يمكنه بل يتوجب عليه أن يعطل "جهازه القيمي" أثناء البحث لئلا يقع في التحيزات التي تضعف من موضوعيته Value-free .
ليست "مزاعم" الفلسفة الوضعية وانعكاساتها الخطيرة هي الإشكالية الوحيدة في تورطنا في تبني مثل ذلك التعريف "العالمي" للعلم، بل ثمة مصدر آخر لإشكاليات من نوع آخر، حيث يتصور البعض بأنه يوجد مساران فلسفيان لتعريف العلم، فلدينا المسار الأول الذي يرتبط بقيم "الحداثة" Modernism ، أما المسار الثاني فيتعلق بقيم "ما بعد الحداثة" Postmodernism ، والمشهد الثقافي العربي في هذا الوقت يشير إلى غلبة قيم الحداثة في هذا الجانب، تلك القيم التي تكرس النظرة التقديسية للعلم وأنه هو "المخلص" للبشرية من كافة المشاكل والأزمات، مع غلبة التفكير "الكمي الخطي" في التحليل والتشخيص والتفسير والتنبؤ للظواهر المختلفة؛
غير أن شرائح نخبوية بدأت بعملية "ابتلاع" لقيم ما بعد الحداثة، وهي قيم تقف على النقيض من القيم الحداثية، حيث تكرس القيم ما بعد الحداثية لمبدأ "النسبية المطلقة"، حيث إن لكل قراءته ونظرته، بل إنها تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فهي تؤسس لنظرات تشككية للعلم قد تصل إلى تخوم "الفلسفة العدمية" والتي تؤكد استحالة وصول البشر إلى علم، والمعاناة الكبرى التي نعاني منها فيما يتصل بالعلم ومسائله تنبثق أساساً من غياب الإطار المعرفي (الإبستمولوجي) العربي الإسلامي، الأمر الذي ورط العقل العربي والمسلم في أتون تلك الإشكاليات الحقيقية النابعة من مزاعم الفلسفة الوضعية والقيم الحداثية أو ما بعد الحداثية، وليس من الإشكالية المتوهمة حول علاقة العلم بالدين!
وقد ترتب على تسرب مثل ذلك التعريف إلينا نتائج خطيرة، حيث أننا حملنا –بغير وعي– تحيزات الآخر، فصرنا نجاريهم في تصنيف الحقول المعرفية؛ فنجعل هذا الحقل من الحقول العلمية ونخرج تلك الحقول من نطاق العلوم، وإن لم نسمها بالضرورة حقولا "ميتافيزيقية" كما تفعل الفلسفة الوضعية، لأننا في الأغلب نستورد الأفكار دون جذورها الفلسفية، وهنالك مؤشرات تؤكد صحة التحليل السابق، فنحن نقول –مثلا- على المستوى الرسمي والشعبي: "قسم علمي" و"قسم أدبي" للتخصصات في المرحلة الثانوية، وكأن العلوم الشرعية أو الأدبية ليست بعلوم، حيث قصرنا "العلمية" المزعومة على العلوم البحتة كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء!
إذن وبعد هذه الجولة في بعض الإشكاليات الجديرة بالتطارح، يحق لنا أن نتساءل: إذن ما هو العلم؟ ليس هنالك اتفاق حول تعريف العلم، نعم هذا صحيح، ولكن ذلك لا يعني أننا خلو من مفاهيم متماسكة حول العلم، وهذه المفاهيم كلها تدور حول معان جوهرية تتكثف حول (حصول اعتقاد جازم مطابق للواقع يصل به الإنسان إلى معلوم بواسطة دليل مقنع)، ولعلنا نورد بعضا من تلك المعاني بحسب بعض المقولات المعرفية العميقة والمتقدمة في إطار ثقافتنا العربية الإسلامية، كمقولة أن العلم هو "اعتقاد الشيء على ما هو به, مع سكون النفس إليه, إذا وقع عن ضرورة أو دليل" (المازري)؛
والعلم هو "وجدان الأشياء بحقائقها" (الكندي)، و"معرفة المعلوم على ما هو به" (الباقلاني)، و"الاعتقاد المقتضي سكون النفس" (الرازي)، كما يمكننا القول بأننا نستطيع أن نمايز بين سمات متعددة للعلم، فمثلا يمكننا التفريق بين مستويات اليقين في العلم، فلدينا العلم اليقيني وهو –كما عند الغزالي في المنقذ ص 71 - الذي "ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم"، ويرتبط بذلك مبحث خاص بتفاوت العلوم وترتيبها من حيث شرفها ومنهجها وحجتها، وهو أمر لا يسعنا تقصيه في هذا المقام الذي يقتضي الاختصار؛
فإذا كان هذا هو العلم أو شيء من هذا، فلنا أن نورد سؤالاً محورياً: ما معنى القول بـ "فصل العلم عن الدين" أو "فصل الدين عن العلم"؟ هل يعني ذلك أن العلم لا شأن له بالدين، أي انه لا يكترث بإطاره العقدي والقيمي والأخلاقي الذي يفترض أن يوجه التفكير ويضبط السلوك ويرشد الممارسة، أم أنه يعني أن الدين يضيّق على العلم بأكثر مما ينبغي ولا يثق به، مما يجعل العلم غير قادر على أن يجرب أو يستكشف كافة الأدلة الممكنة والبراهين والقرائن المحتملة، أم أنه يعني أن العلم يصبح أكثر تحررا وانطلاقاً ومن ثم أكثر إبداعية حين "يفكر العلم" ويستكشف ويشخص ويفكك ويفهم الواقع وهو بعيد عن قيود الدين، مما يتيح للعلم أن يبني تصورات لواقع الأشياء والظواهر كما هي عليه، أم أن الفصل يعني وجود تشاحن أو تنافر أو تناقض أو تضاد حتمي بين الدين والعلم من حيث الحقائق؛ ماهيتها وكيفية الوصول إليها؛ على نحو يدفعنا إلى الإقرار بوجوب إعطاء فرصة للعلم لأن يجرب ويتحدى "القطعيات الدينية"، وكأننا نقول دعونا ننظر؟!
وهنا نورد لابد من إيراد بعض الأمثلة لكي تتضح الأفكار الجوهرية التي نود إيصالها، هل القائلون بضرورة الفصل أو حتى "الفصل التام" بين الدين والعلم يقولون لنا، لا تقيدوا العالم ودعوه وشأنه يجرب ويختبر ويتحدى الثوابت، فالعالم الذي يسمع بفرضية داروين"النشوء والارتقاء" يمكنه أن يتحقق من تلك الفرضية باستخدام المنهجية العلمية متلبساً بـ "الموضوعية"، حتى لو كانت هذه الفرضية باطلة من الأساس وبصريح القرآن الكريم؟ هل يمكن لأحد منا أن يقول ذلك؟ لا أظن؟!
إذن ما الذي يعنيه الفصل بين الدين والعلم؟
ومال الذي يعنيه القول بإمكانية إتاحة الفرصة للعلم لأن يجرب تلك الفرضية ويختبرها؟ أما أننا لا نقول بذلك؟ نحن لن نقول شيئاً محدداً هنا... بل نروم جواباً أو توصيفاً من الأخوة القائلين بضرورة الفصل بين الدين والعلم؟
والحقيقة أنني لا أرى طرحا متماسكا ولا أجد أي مسوغات منهجية مقنعة تبرر القول بجدلية العلاقة بين الدين –الإسلام– والعلم، فليس ثمة ما يدعو لذلك، مما يجعلني أقرر بأن الدافع الحقيقي -وربما القابع في اللاشعور لدى بعض المطالبين بفصل الدين عن العلم– جاء بسبب الممارسات الرديئة لبعض المتدينين، تلك التي حجرت "واسع العلوم" وضيقته وسدت آفاقه، هذا هو ما أجده، وليس شيئا سواه، وربما كان السبب المحوري لدى البعض الآخر هو التلبس بأكثر مما ينبغي بتحيزات الآخر والتي تكتنز في هذا السياق بالنظرة الضيقة للدين والتي تحمل طابع العدائية الأصلية بين الدين والعلم، بحسب رؤيتهم الكلية للدين وما أنتجته من ممارسات هي الأخرى رديئة، فهل يمتلك الأخوة القائلون بالفصل بين الدين والعلم ما يجعلنا نعيد حساباتنا؟ أم أنهم سيمتلكون الشجاعة الكافية لمراجعة حساباتهم؟ لا أدري، غير أنني أؤمن بالعلم الذي يقوم على مبدأ لا يهتز ولا يتبدل: (قل هاتوا برهانكم). صدق الله العظيم.
واقرأ أيضًا:
المتى نشخِّص الثقافة؟/ القابلية للانصياع.. والفتاوى الدينية!/ حوار مع السيد العلامة: محمد حسين فضل الله/ وعينا متوعك!!/ المراكز البحثية والباحثون الحقيقيون!/ ما وراء (التشخيص الثقافي)!/ الثقافة العربية المعاصرة.. (ثقافة قلقة)!/ أسئلة حول (الثقافة القلقة)!/ سمات عَشْر للثقافة القلقة!/ حول مكاشفات فضل الله/ مستقبلنا يخاطبنا يجب أن تكونوا عقلانيين ومتسامحين