البيئة environment من المواضيع الحضارية التي تستحق النظر والاهتمام والتعبير الجاد والإجراءات الحثيثة، لأنها من أهم عناصر بناء المجتمعات المتحضرة، ولا يمكن للتقدم أن يتحقق في بيئة متأخرة. والبيئة الخارجية، هي تعبير صريح عما يكمن في داخل البشر من رؤى وتصورات وأحاسيس وتطلعات، وجمالها وتحسنها يتناسب مع ثقافة البشر الذي يعيش فيها ويتفاعل معها.
والبشر منذ بدء وجوده الأرضي، تفاعل مع محيطه الخارجي وأسس معالم بيئته التي تشير إليه، لأنها انعكاس لما فيه، وتعبير عن مدى وعيه لدوره الحضاري ووجوده المعاصر. فالبشر يصنع بيئته الاجتماعية والصحية، وغيرها من حالات المحيط الذي يعيش فيه.
والارتقاء بالبيئة الخارجية يعني تحقق الارتقاء بالبيئة الداخلية أو النفسية والعقلية والفكرية، ولا يمكن تحقيق بيئة نظيفة وصحية، إذا كانت بيئتنا الداخلية ملوثة بالجهل والقهر والظلم، والاستعباد والفقر والحرمان. فالبيئة مرآة ما فينا وتعبّر عن مفردات سلوكنا وعناصر أفكارنا ومنهج تفكيرنا. ولا يمكن تحسين الوضع البيئي لأي مجتمع بواسطة الوزارات والمؤسسات البيروقراطية، التي لا تصنع تطورا ولا تخلق مجتمعا متحضرا ومعاصرا، لأنها قد تكون زاخرة بالتخلف والنظرات السلبية والأحادية الضيقة.
ولأن الوضع البيئي يتغير عندما يتغير فهم الناس للبيئة، وحالما يحققون وعيا في الإدراك والسلوك السليم، ويصلون إلى القناعة بأن البيئة الصحية النظيفة الجميلة، ضرورية لوجودهم ولمستقبل أطفالهم ومجتمعهم. فغياب الوعي البيئي من أهم أسباب تدهور البيئة، والتي ساهمت في صناعتها ظروف متعددة، وصراعات قاسية غذتها بمفردات تدميرها، وتحقيق المآسي الصحية والطبيعية فيها.
والبيئة الصحية تعني هواءا نقيا وماءا صالحا للشرب، وتصريفا صحيا للفضلات والنفايات، وتشجير الأحياء والشوارع وتوفير المساحات الخضراء الجميلة، والاهتمام بالشجر والنخيل، والحفاظ على الأحياء المتنوعة كالطيور والحيوانات الأخرى، لأنها ضرورية لسلامة البيئة وجمالها ومتعتها، وللناس الدور الأول في المساهمة الجادة في سلامة البيئة وتطورها نحو الأحسن.
ويمكن تلخيص بعض مشاكلنا البيئية بالنقاط التالية:
أولا: تصريف الفضلات والنفايات البشرية
على مدى العقود العديدة الماضية، لم نطور نظام التصريف، ولم نرتقي به إلى مستوى الدول المتقدمة، بل أننا نلقي بكل شيء في الأنهار. بينما الدول قبل أن تبني محلة أو مدينة تؤسس لنظام تصريف الفضلات وبعد ذلك تقوم بالبناء، أما نحن فنبني البيوت المحلات والعمارات، ونتذكر المجاري بعد أعوام، فنقوم بحفر الشوارع والأرصفة ونؤسس لنظام تصريف غير متقن.
ثانيا: التعامل مع فضلات الحيوانات
وهي من أكبر المشكلات البيئية التي تسببت بأضرار وخيمة، وساهمت في انتشار العديد من الأمراض وأتلفت المياه. ففي المجتمعات المتقدمة هناك أنظمة لمعالجة الفضلات الحيوانية وتحويلها إلى مواد نافعة في الزراعة وغيرها من ميادين الحاجات الاقتصادية.
ثالثا: عدم الاهتمام بزراعة النخيل والأشجار
فنحن لا نميل إلى الزراعة، لأنها قد تحولت إلى حالة دونية وغير لائقة اجتماعيا، كما تم تضليلنا، فنظرتنا للزراعة نظرة متأخرة جدا عن العصر الذي نعيش فيه، وأصبح لدينا وعي سلبي وموقف عدواني ضد الشجر والنخيل، وكأن مقاتلة الأشجار سلوك حضاري مفيد. وفي واقع الأمر أن قطع الشجر والنخيل خصوصا سلوك مكروه إسلاميا، ويتقاطع مع مفاهيم المعاصرة والتطور.
رابعا: فقدان شروط النظافة العامة
النظافة ذات مفهوم نسبي يتفق مع الوعي الثقافي لها، لكن التطور العلمي وشروط الصحة العامة، تقتضي الالتزام بقواعدها لكي نحقق مستوى مقبول من العافية البشرية والبيئية، لأنهما متلازمتان وضروريتان لبعضهما البعض، فلا يمكن أن يكون البشر معافى في بيئة مريضة.
خامسا: عدم الشعور بالمسؤولية والمساهمة في الحفاظ على البيئة
تربيتنا بصورة عامة تجردنا من الشعور بالمسؤولية، وتدفعنا إلى إلقائها على غيرنا وخصوصا الحكومة ومن يمثلها، والتي هي في وعينا الجمعي عدو لنا، لأنها لم توفر لنا أسباب الحياة التي تتفق ومواردنا النفطية. ولهذا فأننا نسلك سلوك العابثين واللامكترثين، ونحن نتفاعل مع محيطنا الذي نتحرك فيه، وهذا يؤدي إلى خسائر بيئية متراكمة تصل إلى حد الكوارث الكبيرة.
سادسا: الوعي الصحي والثقافة الصحية
ثقافتنا الصحية تكاد تكون معدومة ومؤسساتنا الصحية تهمل هذا الجانب، فلا توجد لدينا مطبوعات للتوعية الصحية، ولا ننشر مجانا مفردات الوعي الصحي والثقافة الصحية العامة، بل أننا نعيش في حالة تجهيل دائم ومقصود، فنصاب بالأمراض المتوطنة والسارية والمعدية، وهذا يحقق تلفا بيئيا وتأثيرات سلبية متبادلة. فكيف يكون عندنا وعي بيئي وثقافة بيئية تساهم في سلامة وجودنا ورعاية حياتنا، ونحن لازلنا نئن من تلك الأمراض ومبادئ الصحة الأولية غائبة في حياتنا.
سابعا: عدم وجود التربية البيئية التي تبدأ بالمدرسة
كما هو معروف فأننا في حالة بعيدة جدا عن التثقيف البيئي، فلا توجد في مدارسنا ومؤسساتنا المختلفة إشارات إلى ضرورة التثقيف البيئي، والارتقاء بوعي الناس إلى محيطها وأهميته في سلامتها وسعادتها.
ثامنا: ضعف الإعلام البيئي
وهذا يعني وعي البيئة ودراستها وتقديم المعلومات الدقيقة عنها للمواطن، لكي يعرف بيئته ويتفاعل معها بوعي وعلم يحقق فائدة وطنية ذات قيمة.
تاسعا: عدم وجود جمعيات للحفاظ على البيئة
لا توجد عندنا -على سبيل المثال- جمعيات للمحافظة على الغزلان أو القطا أو الطيور والحيوانات الأخرى، وتكرس جهودها لدراستها والعمل على حث المسؤولين وتثقيفهم للقيام بتشريعات ضرورية لذلك. بينما العالم المتقدم فيه أناس يتطوعون حتى في رعاية الحيوانات المصابة والعناية بها ومداواتها ومن ثم إطلاقها.
فهل توجد عندنا جمعيات تهتم بالنخيل ودراسته وتصنيفه ورعاية سلالاته وتكاثرها؟
عاشرا: غياب البنية التحتية للحفاظ على البيئة
وهذه من مشكلات الدول المتأخرة، التي لا تتواصل في تفاعلاتها العمرانية والإنشائية، لأنها تدخل في دوامة الانقضاض المتواصل على ما يتم إنجازه فيها. فهي لا تبني لبنة فوق أخرى ، ولا تتكاتف فيها الأجيال لصناعة عمارة الحياة، وإنما التخريب ديدنها والبناء عدوها، والتفاعل السلبي مع بعضها منطوق حركتها. وتنسى أن توفير المساحات الخضراء في مدنها ركن أساسي من أركان البنية التحتية للبيئة.
حادي عشر: احتقار الأنهار ورمي النفايات والفضلات في مياهها
فقد عانت الأنهار في بلداننا من الإهمال، والتحول إلى مقبرة للنفايات والفضلات الضارة، مما حقق دورة متصلة من الأمراض المتوطنة والمعدية، والإصابات الخطيرة بسبب ما أصاب المياه من التلوث الكبير، ولا توجد دراسات علمية تبين مدى الأضرار، التي لحقت بمياهها وتأثير ذلك على الناس.
ثاني عشر: لا توجد عندنا تربية حب الجمال، بل أكثر اتجاهاتنا تسعى للخراب وتحقيق القبح. بينما تربية حب الجمال تراها واضحة في العالم المتقدم، وفي المجتمعات التي تبني حياتها وتحترم وجودها وقيمة الإنسان في مجتمعها. فالمجتمع التركي -مثلا- من المجتمعات التي تقدر الجمال وتتربى عليه أجيالا بعد أجيال، وتعشق الزهور والحدائق وتتغنى بجمالها ، وتفتخر ببراعتها في إشاعة معاني الجمال في كل بقعة من بلادها. وهذا السلوك ينقصنا كثيرا، فلا نعرف أن يكون بيتنا جميلا أو محلتنا وشوارعنا جميلة، بل نسعى إلى التصحر والانتقام لأنفسنا من اللون الأخضر.
ثالث عشر: إهمال الموجودات البيئية بأنواعها
هل تعلمنا كيف نرعى الشجر والزرع.
لم يتحقق هذا في حياتنا ومنذ طفولتنا، وكل ما تم تنميته في عقولنا ، هو الهرولة الفارغة وراء الشعارات المدمرة للذات والموضوع، فما أمضينا وقتا في رعاية الشجر، بل أن سياسة إهمال الزراعة وتجريف البساتين قد شاعت، وكأن الأشجار لا قيمة لها ولا معنى، وبسبب ذلك قد تسببنا في العراق -مثلا- بأكبر مجزرة عرفها النخيل على وجه الأرض إذ قتلنا منه الملايين، وما عرفنا فنون الازدراع (نقل الزرع إلى مكان آخر)
رابع عشر: عدم تقدير الآثار والعناية بها
الآثار جزء مهم من بيئتنا الحضارية والثقافية، والعناية بها يدخل في مجالات الحفاظ على البيئة وبهائها وسلامة موجوداتها، التي تعلم الناس أصول الحياة ومعانيها وقيمها.
خامس عشر: غياب احترام الإنسان وتقديره وإعلاء قيمته ودوره في الحياة
عندما يشعر الإنسان بأنه بلا رعاية ولا تقدير واحترام، فأنه سيتحلى بالكثير من الصفات السلبية التي يعكسها في سلوكه، ويعبر عنها بتفاعلاته الضارة مع بيئته.
سادس عشر: لا توجد حملات وندوات متواصلة للتوعية البيئية.
جميعنا لا يذكر في حياته ولو حملة واحدة للعناية بالبيئة واحترامها وفهمها وتقديرها، بل أن سلوكنا العام وتوجهاتنا تدفعنا إلى التفاعل السلبي معها. ومن غير التوجه المركزي والشعبي الجاد، الذي يؤمن بضرورات التوعية الوطنية، فأن المجتمع سيبقى ضحية للأضرار الناجمة عن التدهور البيئي والدمار الصحي الناتج عنه.
سابع عشر: نقطع ولا نزرع
إن قلع الشجرِ مثل قتل البشرِ
لدينا نزعة كامنة لقطع الأشجار أكثر من زراعتها، ولا يمكن تفسير هذا السلوك الغريب في مجتمعنا. ولو سأل كل منا نفسه كم شجرة زرع، وكم منها قطع، لتبين للكثيرين منا، بأننا لم نزرع شجرة في حياتنا، لكننا قطعنا الكثير منها، وهذا فعل عدواني ضد البيئة، بينما شعوب الأرض المتقدمة كافة تجتهد في الزراعة، وتحترم الشجر وترعاه ولديها العديد من الزرّاعين، ومن النادر أن نجد في البلدان المتأخرة عنوان وظيفي باسم زرّاع، يقوم بزرع الشجر في أرجاء المدينة، التي بحاجة إلى التشجير والتطور نحو الأجمل.
ثامن عشر: عدم الاهتمام بالحيوانات
نحن في سلوكنا العام أعداء للحيوانات التي تمنح البيئة جمالا، فأين القطا والحبارى والبط والغزلان وغيرها من الحيوانات، التي كانت تملأ الأرض جمالا وخيرا.
لقد تم الفتك بها جميعا بسبب غياب الصيد المنظم الذي يحافظ على توازنها. فهل هناك من يهتم بإعادة الغزلان إلى أراضينا، وهل فكرت وزارة البيئة باستيراد الغزلان من الدول التي تتسبب لها زيادة أعدادها بأضرار بليغة وحوادث طرقات كثيرة، وهل فكرت باحتضان الطيور وتربيتها وإطلاقها.
إن علاقتنا بالحيوان علاقة قاسية، ولا نهتم بتربيته مثلما تهتم به شعوب الأرض المتقدمة. ففي عالمنا المتأخر نبغض الحيوانات، ونحسب التقدم ابتعادا عن الزراعة والماشية، وهذا الفهم السلبي للتقدم هو الذي ألحق أضرارا مروعة في البيئة.
لقد إهتز مجلس العموم البريطاني - ذات يوم - لأن الأبقار أصيبت بمرض وإتخذ الإجراءات الفورية لحماية البقرة الإنكليزية، لأنها ركن مهم في الاقتصاد والبيئة والحياة. أما نحن فلا نكترث بالأبقار والأغنام والماعز وغيرها من الحيوانات والماشية.
تاسع عشر: فقدان الضوابط والتشريعات البيئية
بسبب جهلنا لبيئتنا فأننا لسنا حريصين عليها مثل غيرنا من الدول في العالم، ولهذا فأن التشريعات القانونية، وإن وجدت، فأنها لا تكون فعالة وذات قيمة وأثر في تهذيب السلوك البيئي السليم.
عشرون: عدم المحافظة على المخلوقات البيئية ودراستها.
فهل لدينا دراسات ومراكز بحوث تعني بالحيوانات التي عندنا، وهل قمنا بتصنيفها ودراستها، وفهم سلوكها وطبائعها وظروفها مثلما هو الحال في العالم المتقدم.
هل لدينا معلومات بيئية دقيقة وبحوث متطورة وإحصاءات ومصنفات وصور ووثائق تزيدنا معرفة بها، أم أننا لا ندري شيئا عنها سوى أن نطاردها ونقتلها.
الشعوب المتقدمة تدرس كل شيء عندها وتعرفه ونحن نجهل كل شيء عندنا ونعبث به بمساعدة الجهل والأمية.
وفي الختام علينا أن لا ننسى الحروب المروعة التي تفتك بنا وببئتنا، كما يحصل في دولنا التي تنزف هويتها وقوتها وتمحق بيئتها الاجتماعية الرائعة الألوان، ذلك أنها أوجدت بيئة غريبة أسهمت في اليأس والقنوط والعجز والخسران الحضاري الفتاك.
وقد يتساءل البعض عن علاقة الصحة النفسية بالبيئة المحيطية، والإجابة تتلخص في أن النفس الصحيحة بحاجة لبيئة صحيحة، فالبيئة مرآة النفس الفردية والجمعية، ومن أجل أن تتعافى النفوس يجب أن تتعافى البيئة من الأضرار والخراب والدمار، فلكي تدمر النفس وتخربها عليك بتدمير بيئتها وتخريبها، فلا يمكننا الحديث عن الصحة النفسية في بيئة مريضة، وهذا ما يحصل في ديارنا المرهونة بالويلات.
فهل من جرعة أمل وصحوة بيئية ذات سلوك حميد؟!!
_______________________________________________
* هذه المقالة بمناسبة يوم الأرض في 22\4\2015 ، فلنحترم أمّنا الأرض ونتفاعل معها بمحبة ومودة وإبداع وجمال.
واقرأ أيضاً:
الإرهاب اللفظي!! / نكون كما نكون!! / الرفق بالحيوان وسلوك الإنسان!! / التعايش!!