"مَن سار على الدرب وصل" و"مَن زرع حصد".
رددنا هاتين العبارتين في المدرسة الإبتدائية مرارا وتكرارا، وكانت القراءة الخلدونية ذات كلماتٍ فيها معاني عميقة ومؤثرة في الحياة. وكنا تلاميذا في المراحل الابتدائية الأولى والثانية فنرددها ولا نعرف معانيها ولا ندرك دلالاتها، لكننا نعرف كيف ننطقها ونكتبها، وفي جوهرها الفكر ي والنفسي مسار صيرورة وتقدم وارتقاء، ورفض للسكون وإمعان في الحركة والعمل والجد والاجتهاد.
فمن سار على الدرب وصل، ولكن أي درب؟
إن الدروب تتنوع وخارطة المسير على مستوى الفرد والجماعة والشعوب، ترسمها الإرادة الفردية والجماعية والوطنية، فالإرادة هي القلم الذي يرسم الطريق ويجدد معالم الدرب الذي تمضي فيه الخطوات، وعندما تغيب الإرادة تنمحي قدرات رؤية الدروب والسعي فيها.
والكثير منا يتساءل عن الدرب الذي يسير فيه، لكنه في معظم الأحيان لا يعرفه ولا يدريه، ومَن يجهل دربه لا يصل إلى شيء، أو يحقق هدفا معلوما وواضحا في الحياة، وإنما يكون من جريش مطحنة الأيام، ومغيّبا في عجين النسيان، ومسجورا في تنور الحسرات والخسران. وهكذا فإن الأفراد والمجتمعات التي قد تجهل دروبها، لا تحقق شيئا بل تصاب بالتعفن الحضاري، بسبب الاستنقاع المرير الذي تورطت فيه، وأمضت أعمارها تحث التراب على رؤوسها، ولا تريد أن تفكر أو تجد وتجتهد.
وهذا قانون ينطبق على جميع البشر، فالذي يريد أن يصل إلى غاية لا بد له من درب يراه ويسير عليه، وإتصالا بذلك وترابطا معه، فإن الذي يزرع سيحصد، ولكن عليه أن يتدبر مهارات رعاية البذور التي زرعها لكي يجني ثمارها، فبين الزراعة والحصاد مسافة زمنية بعمر الثمرة المطلوبة، وفيها الكثير من الجد والاجتهاد والتعب اليومي المتواصل. أي أن الإرادة مهما كانت وتنوعت قدراتها، فأنها بحاجة إلى دليل ومنار لكي تنجز غاياتها، وتصل إلى حالة التعبير الأمثل عما فيها من القدرات.
وعودة إلى الطريق الذي نمضي فيه، فأن أي خطوة فوق التراب إنما تعني الحركة نحو هدف ما، وغاية قد تكون واضحة وخفية، والقوة التي تدفع بالحركة ربما تكون واعية وغير واعية، لكنها قوة دافعة ومؤثرة في مصير صاحب الخطوة المتحركة نحو هدف ما قد تدركه وتعيه أو لا تدريه.
وفي كل مسيرة حية تصل الخطوات إلى مفترق طريق عليها أن تقرر بإرادتها الكاملة، نحو أي جهة ستمضي، فالطرق ليست مستقيمة والمسافة بين نقطتين ليست خطا مستقيما في هندسة الحياة وعلوم حسابها وجبرها، وإنما المسافة بين نقطتين قد تكون أكثر تعقيدا وصعوبة وطولا من حسابات المسطرة، ومَن لم يتقدم في فهم بديهيات الأمور، فأنه لا يمكنه أن يجد الطريق أو المسار الواصل بين نقطتين مهما اقتربتا أو ابتعدتا عن بعضهما، فالمسافة الحقيقية تتناسب وقدرات الإرادة الفاعلة والمؤثرة في الحركة والإدراك.
وحالما نكون في محطة الافتراق، يتوجب علينا أن نتمكن من القرار الذي يؤدي إلى جني الأثمار والإمساك بالأهداف أو تضييعها وتدمير مسيرة الخطوات السابقة، وفي هذا المفترق تكمن معضلة الحياة ودورها وتأثيرها في تقرير مصير الفاعل فيها. فكيف يختار الذي سار على الدرب مفترق الطريق الذي يحسبه سيوصله إلى ما يريد ويطمح؟
إن المخلوق فرد أو جماعة، عليه أن يتعلم من مسيرة دربه دروسا وقواعد وأصول تساهم في تسهيل عملية الاجتياز، والمضي الصائب في الخطوات المؤدية إلى الصيرورة المنتظرة، فبعد المسار الطويل يكون في المفترق الخطوات التي تتفجر من تحتها ينابيع الآمال والطموحات والأهداف وتتجلى حولها ملامح الغايات، ولهذا فإن خيار المفترق يكون مصيريا ومؤثرا بقوة في اكتمال حالة التنامي والتفاعل الخلاق المؤدي إلى إطلاق ما في السائر من الطاقات.
والعديد من الأفراد والجماعات قد سارت في طريق لكنها، ذهبت إلى مفترق ينسف مسيرتها السابقة ويدمر ما عندها من ثروات، وهذا ما فعلته بلداننا التي بعد مسيرة ما يقرب من قرن، تورطت في مفترق طرق النهايات المزدحم بالخيبات والصراعات والتداعيات وآليات الفقدان والخسران والانحسارات، حتى لتحسبها وكأنها كانت تسير على شفى حفرةٍ من النار فوقعت فيها، وما أدركت أو ابتكرت آليات الحياد عن مفترقات الطرق المؤدية إليها، فكانت الهاوية وأدركنا ما هي؟!
واقرأ أيضاً:
عدسات الرؤية!! / الشمس والنفط والنار!! / كلام وسهام!! / الدي... مقراطية!!