"كليلة ودمنة" كاتبها أو مترجمها عبد الله بن المقفع (724-759) ميلادية، وقد قتله سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب، وهناك قصص أخرى، وكانت قتلته مروّعة وقصتها معروفة، وسببها شدة الخلاف بينهما.
وما يميز دوره وتأثيره في الأدب العربي رغم صغر سنه، ثورته الأسلوبية النثرية التي نقلته إلى مرحلة إبداعية متميزة، إذ استطاع تطوير اللغة العربية وتمكينها من اكتساب جماليات تعبيرية، وأدوات أسلوبية مؤثرة ومتفاعلة مع عقول عامة الناس، كما أثرى الفن القصصي ومنحه آليات جذّابة.
وقد طوّع اللغة العربية لتكون لسان حال الواقع والعصر الذي هو فيه، وبهذا اكتشف قدراتها التعاصرية ومكنوناتها التواكبية، وما فيها من مرونات استيعابية وتطورية. وربما يكون قد أسس لفن القصة أو الحكاية التي تمنح القارئ عبرة أو نصيحة ومعنى ومغزى. وجوهر ما في "كليلة ودمنة"، أنها ذات إدراك فلسفي ورمزي يفسر العلاقة ما بين السلطة والناس، ويقارن ما بين البشر المتأسد والأسد.
فهي تتحدث عن أسد وثور، دبشليم الملك وبيدبا الفيلسوف، ويبدو أنه أراد القول وبرمزية وعلى لسان الحيوان، أن لا فرق ما بين الأسد الحاكم في الغاب، والبشر المتأسد الحاكم المكشر الأنياب، فرعية السلطان أنيابه ومخالبه، والبشر المحكوم بأمره فرائسه، وكل فريسة يتم تسويغ ذبحها وسلخها وفقا لما تأتي به الثعالب والكلاب والذئاب المتهاوشة حول حلبة السلطان.
ومن الواضح أن أي حكم استبداي طغياني يريد من المحكومين التنفيذ والخنوع والإذعان أو الموت، فالحالة لا تقبل النقاش أو الاستماع، فالأسد عندما يجوع يفترس ويختار فرائسه وفقا لمفردات شهيته في ذلك اليوم، وهو لا يأكلها كلها بل يقتلها ويكتفي ببعضها، ويترك ما تبقى منها للآكلات من حوله، وما أكثرها.
والسلطان يفترس أيضا، وفرائسه قد تكون فرائد أو مجاميع وفئات، ولابد له أن يفترس لكي يُظهر قوته وهيبته وإرادة سلطانه وتمكنه من مصير الذين يحكمهم، ويتاجر بحياتهم، ويفعل بهم أنى يشاء. ويتناول الكتاب ديناميكيات التفاعل ما بين الرعية والسلطان، وما بين القوة والقوة، والضعف والضعف، ويبين التأرجح ما بين القسوة الشديدة والرحمة الرشيدة، ويغوص في دياجير النفس الحاكمة والمحكومة وكيفيات سلوكها وتطوره.
وهذه القصة عمرها ما يقرب من ألف ومئتين وخمسين سنة، وقد قرأتها الأجيال تلو الأجيال، وما اعتبرت ولا أخذت منها حكمة ونصيحة، أو فهمت كيف يكون الحكم الصحيح الذي يفيد مصالح الأمة ويساهم في تطورها وقوتها. ولا أظن أن حاكما عربيا واحدا قد قرأها وتأملها وتدبر حِكَمَها وقوانينها السلوكية اللازمة لنجاحه في الحكم والحفاظ على وطنه وشعبه، وفي زمننا المعاصر لا أظن أحدا من الجالسين على الكراسي يعرفها أو يفهم شيئا منها إذا قرأها.
وهذا يعني أن الأمة في محنة مصيرية، لأن العقل فيها مغيّب أو معطل، والتضليل والتدجيل والتبعية قوة تهيمن على وجودها المتجمد في أقبية الزمهرير!!
واقرأ أيضاً:
القرار صائب والتنفيذ خائب!! / الكرسي العربي أَم العقل العربي؟!! / القرارات ومحكمة الزمن؟!! / معا نكون وضد بعضٍ لا نكون!!