|
|
|
التفكر (1) ::
الكاتب: د.محمد شريف سالم
نشرت على الموقع بتاريخ: 01/08/2004
عن
ابن عباس رضي الله عنهما، تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
ونحن نركز في هذا البحث علي التفكر باعتباره عبادة حرة طليقة مقارنين بين التفكر
والتفكير وبين التفكر والتأمل الارتقائي.
0 فالنشاط
الفكري الداخلي للإنسان سواء شعر به الفرد أم لم يشعر هو الذي يوجه سلوكه وتصرفاته
الخارجية وليست البيئة بمثيراتها المختلفة والاستجابات المباشرة لها، هو الموجه
الأول للإنسان وأساس تفسير سلوكه وما وصل إليه علم النفس المعرفي يؤكد صدق ما قرره
الإسلام في أن التفكر في آيات الله في الأنفس والآفاق هو العمود الفقري للإيمان
الذي ينبثق منه كل عمل خير.
وسوف نقترح تصورا نفسيا لمراحل التفكر ابتداء من مرحلة الإدراك الحسي وانتهاء
بمنزلة المراقبة والبصيرة الثاقبة ونصفُ الذين يصلون إليها الآن بأن قلوبهم ليس
فيها سوي محبة الله وإرادته وعبادته... يشهدون
المخلوقات قائمة بأمره مدبرة بمشيئته بل مستجيبة له قانتة له.
0 إن أحد أهم مكونات السلوك الإنساني هو
العامل الروحي وعلي ذلك فالتفاعل بين العوامل الجسمية والنفسية والاجتماعية
الحضارية والروحية هو الذي يحدد السلوك الإنساني وليس كما اعتبر السلوكيون أن
التفكير ليس إلا مجموعة متشابكة من المثيرات والاستجابات التي لا تعدو أن تكون حديث
الشخص الداخلي مع نفسه وهذا أمر يدعو حقيقة للتفكر والتدبر في خلق الله وإلى التفكر
في حقيقة التفكر والتدبر وأثرها النفسي والروحي والسلوكي علي الإنسان .
0 إن ما يفكر فيه الإنسان هو الذي يؤثر علي
معتقداته وسلوكه فإذا كان تفكيره في صنع الله ونعمه كان ذلك سببا في زيادة إيمانه
والارتقاء بأعماله وسلوكه وإن كان تفكيره في ملاذه وشهواته صرفه ذلك عن دينه وانحط
سلوكه، وإن كان تفكيره في مخاوفه وأحاسيسه بالإحباط والفشل والتشاؤم كان ذلك سببا
في إصابته بالأمراض النفسية فكل عمل اختياري يقوم به الإنسان يسبقه نشاط فكري معرفي
داخلي وإن العقل الإنساني لا يكف مطلقا في أي لحظة من لحظات الليل أو النهار عن
النشاط الفكري سواء شعر الإنسان بذلك أو لم يشعر.
*فالنشاط الفكري الداخلي للإنسان هو الذي يوجه
سلوكه وتصرفاته الخارجية هذا الاستنتاج يؤكد صدق ما قرره الإسلام في أن التفكر في
خلق الله هو العمود الفقري للإيمان الذي ينبثق عنه كل عمل خير كما أسلفنا. فكل عمل
يبدأ بنشاط معرفي كخاطرة أو تخيل أو إدراك حسن أو انفعال...
وهذا النشاط المعرفي إذا ازدادت قوته أصبح دافعا للسلوك وإذا قام الفرد بهذا السلوك
المدفوع وكرره فان الأفكار الداخلية حينئذ تكتسب القدرة علي الإتيان بهذه الأعمال
بطريقة تلقائية حتى تصبح عادة متأصلة، فإذا أردنا علاج هذه العادة وتغييرها فعلينا
أولا أن نغير من الأفكار الداخلية والشعورية التي تأتي بها، فإذا كانت العادة هي
الخوف من المواقف الاجتماعية مثلا فعلي المعالج أن يتعرف علي الأفكار الداخلية التي
تأتي باستجابة هذا الخوف الاجتماعي ومساعدة المريض علي تغييرها بطريقة علمية وعملية
تثبت للمريض أن تلك الأفكار لم تكن مبنية علي تصورات حقيقية، إنما تقوم علي أوهام
وتخيلات لا أساس لها من الصحة، لكن المريض كان قد اقتنع بها فغدت متحكمة فيه وفي
سلوكه. فقد يتصور المريض أنه سيبدو سخيفا ومصدر سخرية للآخرين إذا تحدث أو عرف نفسه
للغرباء، فغدت متحكمة فيه وفي سلوكه. فقد يتصور المريض أنه سيدة سخيفا ومصدر سخرية
للآخرين إذا تحدث أو عرف نفسه للغرباء، أو إذا القي خطابا أمام جمع من معارفه، فإذا
تغيرت هذه الأفكار الداخلية فان السلوك سيتغير تبعا لذلك.
إذن فعلم النفس المعرفي يؤكد علي أن ما يفكر فيه الإنسان ويشعر به
وينفعل له ويدركه علي المستوي الشعوري، هو الذي يشكل تصوراته للحياة ويصوغ عقائده
وقيمه، ويوجه تصرفاته الخارجية السوية منها والشاذة.
ما بين التفكير والتفكر:
للتفكير الداخلي من مشاعر وإدراكات حسية وتخيل وأفكار، أثر كبير في تكوين سلوك
الفرد وميوله وعقائده ونشاطه الشعوري. واللاشعوري وعاداته الحسنة والسيئة، وقد
اتضحت لنا بعض جوانب الحكمة من اهتمام القرآن الكريم والسنة المطهرة بموضوع التدبر
والتفكر في خلق السماوات والأرض بالطريقة التي تملأ العقل والقلب بجلال الخالق
سبحانه وكريم صفاته.
فمن يريد أن تكون أفعاله خيرة فعليه أن يراقب أفكاره وخواطره وأن يديم ذكر الله.
والتأمل والتفكر في خلق السماوات والأرض، فإذا ظهرت الخواطر والأفكار فستتبعها
الأقوال والأعمال، كما يسهل علي المرء أن يغير الخواطر والأفكار الضارة قبل أن تصبح
شهوة ودافعا كما أن تغيير الدافع أسهل من إيقاف الأمر إذا صار قولا في واقع الحياة،
وإيقاف الفعل أسهل من اقتلاعه بعد أن يصبح عادة، وعلاج العادة يتم بتعويد المرء علي
ضدها، ذكر ذلك العلاقة ابن القيم في كتاب الفوائد حيث قال:
[دافع الخطرة، فان لم
تفعل صارت فكرة ودافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة، تحاربها، فان لم تفعل صارت
عزيمة وهمة، فان لم تدافعها صارت فعلا، فإن لم تتداركه نبض وصارت عادة يصعب عليك
الانتقال عنها].
0 إن مبدأ كل عمل اختياري هو الخواطر
والأفكار، فإنها توجب التصورات التي تدعو إلي الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع
الفعل، وكثرة تكراره يعطي العادة، فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار،
وفسادها بفسادها... وصلاحها بأن تكون مراقبة
لوليها، صاعدة إليه دائرة علي مرضاته ومحابه، فإنه سبحانه به كل صلاح، ومن عنده كل
هدي، ومن توفيقه كل رشد، ومن توليه لعبده كل حفظ، ومن تولي العبد وإعراضه عنه كل
ضلال وشقاء.
0 واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي معلقاتها
إلي الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلي التذكر، فيأخذها التذكر فيؤديها إلي الإرادة
فتأخذها الإرادة فتؤديها إلي الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فردها من مبادئها
أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.
ومعلوم أن الإنسان لم يعط أمانة للخواطر، ولا القوة علي قطعها، فإنها تهجم عليه
هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه علي قبول أحسنها ورضاه بها ومساكتيه
لها، وعلي دفع أقبحها وكراهته لها ونفرته منها.
وقد خلق الله سبحانه وتعالي النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولابد لها من
شيء تطحنه فان وضع فيها حب طحنته، وان وضع فيها تراب أو حصى طحنته. فالأفكار
والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى، ولا تبقي تلك
الرحى معطلة قط، بل لابد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج
دقيقا ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتنبأ ونحو ذلك!
فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينة!!
انتهي كلام ابن القيم.
0 أما الإمام الغزالي
فيذكرني إحيائه أن علي المسلم الذي يريد أن تكون أخلاقه جميلة أن يغير أولا أفكاره
عن نفسه، ثم يتكلف القيام بهذه الأخلاق الجميلة بالتدريج حتى تصبح له عادة كما يؤكد
علي أن التفاعل بين الناحية المعرفية النفسية وبين السلوك العلمي أمر حتمي ، فما أن
يقوم الفرد بسلوك أخلاقي في نعيش – ولو كان
ذلك تكلفا – حتى يظهر أثره في تفكيره ومشاعره،
وما أن تتغير أفكاره وأحاسيسه حتى يتغير سلوكه الخارجي ويظهر ذلك علي جوارحه...
قد عرفت بهذا قطعا أن هذه الأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بالرياضة وهي تكلف الأفعال
الصادرة عنها ابتداء لتصير طبعا انتهاء، وهذا من عجيب العلاقة بين القلب والجوارح
– أعني النفس والبدن فان كل صفة تظهر في القلب
يفيض أثرها علي الجوارح حتى لا تتحرك إلا علي وفقها لا محالة، وكل فعل يجري علي
الجوارح فانه قد يرتفع منه أثر إلي القلب والأمر فيه دور.
0 أما عن العلاج بالضد
فيقول. وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة للمرض لا تعالج إلا
بضدها، فان كانت من حرارة فالبرودة، وان كانت من برودة فبالحرارة، فكذلك الرزيلة
التي هي مرض القلب علاجها بضدها فيعالج مرض الجهل بالتعلم، ومرض البخل بالتسخي،
ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهي، تكلفا.
0 ومن لطائف الرياضة إذا كان المريد لا يسخو
بترك الرعونة رأسا، أو يترك صفة أخري ولم يسمح بضدها دفعة، فينبغي أن ينفد
( الشيخ المعلم ) من الخلق المذموم
إلي خلق مذموم آخر أخف منه، كالذي يفسد الدم بالبول، ثم يغسل البول بالماء إذا كان
الماء لا يزيل الدم.
0 ويضرب الغزالي لذلك مثلا برجل كان يشكو من
شدة الغضب، فكان يعود نفسه الحلم بالتدرج بتغيير أفكاره وانفعالاته وبالتدريب
العملي في واقع حياته حتى وصل به الأمر- كما
يقول الغزالي- إلي أن...
يستأجر من يشتمه علي ملأ من الناس ويكلف نفسه الصبر ويكظم غيظه حتى صار
الحلم عادة له بحيث كان يضرب به المثل.
0 يتضح من ذلك:
أن التفكر وما يصاحبه من ذكر هو العمود الفقري لتغيير تصور المسلم عن
نفسه واستعداده بعد ذلك لتغيير سلوكه وعاداته، فبدون هذا التغيير لا يمكن تعديل
السلوك والعادات إذن فالتفكر هو مفتاح كل خير
لأنه يصبغ جميع النشاطات المعرفية للمؤمن بذكر الله تعالي والتعرف علي آلائه ونعمه،
فكما يقول الغزالي: [الطريق
إلي الله سبحانه هو التعظيم له في مخلوقاته والتفكر في عجائب الله ومصنوعاته، وفمهم
الحكمة في أنواع مبتدعاته]، ومن الواضح أن مثل
هذا التفكر يشمل الجانب الفكري والعاطفي والانفعالي والإدراكي للمؤمن، أي أنه يشمل
جميع أنشتطة النفسية والمعرفية والروحية ومن الصعب أن يتصور الإنسان ذاكرا لله
تعالي قليل التفكر في مخلوقاته، أو أن يتصور متفكرا في خلق الله لا يعد من
الذاكرين.
0 وبما أن بداية كل عمل إنما هو نشاط فكري
معرفي شعوري، فان من يطيل الفكرة يسهل عليه القيام بالطاعات والعبادات. وفي ذلك
يقول الغزالي في إحيائه: إذا حصل العلم في القلب تغير
حال القلب، وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح، فالفعل تابع الحال، والحال
تابع العلم، والعلم تابع الفكر فالفكر إذن مفتاح ومبدأ الخيرات كلها وهو الذي يكشف
لك فضيلة التفكر وانه خير من الذكر والتذكر لأن الفكرة ذكر وزيادة. وكما أن النشاط
الفكري الداخلي هو مفتاح كل خير وعمل صالح فهو كذلك أصل كل معصية باطنة أو ظاهرة
بالجوارح. لذلك فان القلب المتدبر المتفكر في آلاء الله والموصول بالآخرة يكتشف
الخواطر الشريرة التي تمر علي ذهنه بسهولة ويسر بفضل حساسيته المفرطة التي اكتسبها
من إدامة التفكر والذكر. فما أن تطل خاطرة شريرة في ذهنه إلا وتكتشفها أفكاره
وأحاسيسه المرهفة وتصوراته الخيرة فتحيط بها وتفسد مفعولها تماما كما يكتشف الجسم
الصحيح الجراثيم الوافدة عليه فيحاصرها ويدمرها فالعالم الفكري والروحي والانفعالي
لمن يصلون ليلهم بنهارهم في التفكر في آلاء الله وفي الدنيا و الآخرة هو عالم محفوظ
إذا حاولت الخواطر الشريرة أن تسترق لها مكانا فيه جاءتها شهب الخير ورجومه
فأحرقتها وأبطلت مفعولها، كالشهب التي تحرص السماء من استراق الشياطين للسمع،
( إن الذين اتقوا إذا مسهم
طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) [سورة
الأعراف آية 21].
إذن فالتفكر يستفيد من كل من كل الأساليب المعرفية التي يستخدمها
الإنسان في عمليات التفكير التي فصلناها من قبل، لكنه يختلف عن التفكير في عمقه وفي
أنه يعبر بتصوراته ومفاهيمه من الدنيا إلي الآخرة ومن المخلوقات الي خلقها جل وعلا،
وهذا العبور هو ما يعبر عنه باصطلاح العبرة والاعتبار ولذلك قد يكون التفكر محصورا
في حل المشكلات الدنيوية وربما يكون بعيدا عن العاطفة والانفعال، لكن التفكر بعبوره
برزخ الدنيا وضيقها إلي سعة الآخرة وخروجه من قمقم المادة إلي انطلاق الروح
اللانهائي، يحرك بجميع نشاطات المؤمن المعرفية الداخلية والخارجية، فهو يستفيد من
الخبرات السابقة ويربطها بإدراكه الحسي للمخلوقات التي يتفكر فيها وبرموزها
وتعبيراتها التي اكتسبها من استخدامه للغة، ويضفي عليها من تصوراته وخيالاته لما
كانت عليه في الماضي وما يمكن أن تصير إليه في مستقبل حياتها، ويؤجج كل ذلك بعاطفة
جياشة وخشية صادقة لله عز وجل. لذلك أكد الغزالي علي
أن التفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثير منها معرفة
ثالثة ومثاله في ذلك أن من مال إلي العاجلة وآثر الحياة الدنيا وأراد أن
يعرف أن الآخرة أولي بالإيثار من العاجلة فعليه أن يعرف أولا أن ألأبقي أولي
بالإتيان، ثم يعرف:
0 ثانيا:
أن الآخرة أبقي، فيحصل له من هاتين المعرفتين معرفة ثالثة وهو أن الآخرة أولي
بالإيثار وإلا بالمعرفتين السابقتين.
وفي رأينا الشخصي أن التفكر يمر بثلاث مراحل متداخلة، تنتهي بالمرحلة الرابعة
والأخيرة التي اخترت لها الاصطلاح(الشهود)
فهو يبدأ أولا بالمعارف التي تأتي عن طريق الإدراك الحسي المباشر بالنظر والسمع
واللمس، وغيرها من الحواس، أو بطريق غير مباشر كما يحدث في ظاهرة التخيل، أو قد
تطول هذه المعارف عقلية مجردة، وكثيرا ما تكون هذه المعارف لا ارتباط لها بالنواحي
العاطفية والمعرفية.
فإذا دقق الإنسان فيها النظر وتعرف علي بعض خصائصها الجمالية ودقة صنعها أو قوتها
وشخاصتها، فانه ينتقل من المعرفة الباردة إلي انبهار بجمال التنسيق وعظمة الصنع
وبها والمنظر، وهذه هي المرحلة الثانية وهي مرحلة تذوق وأحاسيس مرهفة ومشاعر متدفقة
فإذا انتقل بعد ذلك بهذا الإحساس إلي الخالق المبدع فسيزيده هذا خشوعا ومعرفة بالله
وصفاته العلية، وبهذا تكتمل حلقات التفكر الثلاث فالنظر في المخلوقات لا يعدو أن
يكون مرحلة بدائية يشترك فيها المؤمن والكافر، ولذلك فان المرحلة الثانية أي مرحلة
التذوق لدقة الصنع وجمال التنسيق قد تهتز لها القلوب بغض النظر عن إيمانها أو
كفرها، لكن المعرفة الثالثة التي تأتي بربط هذا التذوق لجمال الكون ودقة صنعته
بمبدعه جل وعلا هي النعمة الكبرى التي لاتكون إلا لمؤمن.
وإذا نظر إلي الموضوع من ناحية التعلم وتكون العادات فنقول بأن المؤمن وإذا داوم
علي هذه الحالة وصل إلي المرحلة الرابعة التي يصبح التفكر فيها عادة متأصلة فيه،
بعد أن كان هذا التأمل أمرا لا تأتي به إلا الخبرات المؤثرة والحوادث النادرة في
بيئته. وسوف يزداد بالتدريج الوقت الذي يقضيه في اليوم والليلة في نشاطه التأملي.
وتمسي الأشياء العادية المألوفة – التي كان
يمر عليها غافلا –مصدر إثراء للفكر العميق
والتأمل في آلاء الله تعالي وفضله، حتى يصبح كل شيء في بيئته مثيرا للفكر ومحركا
للتأمل، عندها يكون قد وصل بالفعل إلي مرحلة البصيرة والشهوة فيري سائر التقلبات
الكونية وتصاريف الوجود بيده سبحانه وحده، فيشهده مالك الضر والنفع، والخلق والرزق،
والإحياء والإماتة... وعند ذلك إذا وقع نظره
علي شيء من المخلوقات دله علي خالقه وبارئه وصفات كماله ونعوت جلاله.
0 أما ابن تيمية
فيسمي هذه المرحلة بالشهود الصحيح الذي يشهد فيها المؤمن التفكر كل المخلوقات قائمة
بأمر الله مدبرة بمشيئته بل مستجيبة له قانتة له، ويكون ما يشهدونه من ذلك مؤيدا
وممدا لما في قلوبهم من إخلاص الدين.. واضعين
نصب أعينهم تمييز القديم عن الحادث ومباينة الخالق سبحانه لمخلوقاته وتوحده دونهم.
وفي الحقيقة أن المؤمن الذي يصل إلي المرحلة الثانية الحلو وضخامته ودقة صنعه لا بد
له من الانتقال بأحاسيسه المرهفة هذه إلي الصانع المدبر سبحانه . ولابد من الشعور
بحقارة نفسه وضعف قدراته حيال الآيات الكريمة التي يراها في السماء والأرض فهذا
الكون بكل اتساعه ما هو في الحقيقة إلا معبد ومسجد لا يدخله إلا المؤمن عندما تصفو
روحه ويخشع قلبه ويلقي السمع وهو شهيد.
إن أهمية هذا الانبهار بدقة الصنع وجماله وضخامته، إحساس الإنسان بالتضاؤل الجسمي
والنفسي حيال ما يشاهده، هو أمر فطري ركب الخالق جل وعلا في كيان الإنسان لينظر به
في السماء والأرض فيهتدي لابد إليه فتخشع جوارحه ويعبده تعالي رغبة ورهبة. فإذا لم
يهتدي الإنسان إلي الله تعالي انحرف عن صراطه المستقيم ليسلك وعورة الشرك والوثنية
فلا بد له أن يستخدم نفس هذه الطبيعة الفطرية وان أساء استعمالها هذا هو الأمر الذي
حمل الديانات الوثنية في تاريخ الإنسان القديم والحديث علي المبالغة في حجم معابدها
وجمالها ودقة تصميمها وتزينها بأجمل التحف واللوحات المعبرة والألحان الشجية، هذه
المعابد التي بنتها الديانات الوثنية هي أضخم ماشيده الإنسان في تاريخه الطويل
وأكثر ما صرفه عليها من الجهد والمال، حتي إذا ما دخلها المتعبد الوثني أسر
بالرهبية والانبهار وتقبل بعد ذلك ما يمليه عليه الكهنة من خرافات وأفكار وثنية.
0 ويبدو انه كلما ضعف الارتباط الحقيقي بين
الشعوب الإسلامية وخالقها جل وعلا زاد اهتمامهم بتعظيم مباني المساجد وتجميلها علي
حساب تزكية النفوس وصقلها، وفي ذلك يقول الغزالي أيضا...
لكن الناس – لما أعياهم بناء النفوس علي
الخلائق الجليلة – استعاضوا عن ذلك ببناء
المساجد السامية، تضم مصلين أقزاما؟! أما
الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلي تزكية أنفسهم وتقويمها.
والنظر إلي مسجد سيدنا محمد (صلي الله عليه
وسلم).
* الخلاصة:
يمر المؤمن بمراحل ثلاثة من المشاهدة إلي الشهود...
إدراك حسي ثم تذوق وانبهار ثم تفكر خاشع..
لكنني لا أريد أن أحصر التفكر علي الأشياء الجميلة أو دقيقة الصنع في هذا الكون
الذي يجمع بين الجميل والقبيح، والعظيم والحقير، والخير والشرير فقد تكون المشاهدة
لخبرات مؤلمة أو مخيفة وقد يكون التذوق انفعاليا سلبيا ويكون التفكر بالعبرة من هذه
المشاهد السلبية التي تذكر المتفكر اجتنابها أو الخوف منها أو كراهتها والتقزز
منها، فكم من متجبر شرير يأخذه الله تعالي أخذ عزيز مقتدر فيتفكر المؤمنون فيما حدث
له ويعتبرون بمصيره، كما حدث لقارون الذي خسف الله به وبداره الأرض وأصبح الذين
تمنوا مكانه يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده بقدر، لولا أن من الله
علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون. (القصص:82).
*
نقلاً عن كتاب من (المشاهدة إلي الشهود)
للدكتور مالك بدري .
الكاتب: د.محمد شريف سالم
نشرت على الموقع بتاريخ: 01/08/2004
|
|
|
|
|
|
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com
|
حقوق الطبع محفوظة لموقع مجانين.كوم ©
|
|