|
|
|
مجانين.. ولكن دعاة! ::
الكاتب: محمد المشطاوي
نشرت على الموقع بتاريخ: 28/12/2006
الدعوة إلى الله والإقبال عليه والاستمساك بشرعه ليست حكرا على فئة دون فئة، إلا أن
بعض الفئات بها جديرة، فالدعوة إلى الله رسالتها وشغلها الشاغل. وأحوج ما يحتاجه
الداعي إلى الله أن يكون على بصيرة، وأن يكون عاقلا. نعم يكون عاقلا فطنا لماحا ذا
مروءة متزنا سويا. ولمَ لا وهو دالّ على الله بنفسه وخلقه وسلوكه وعقله؟
إلا أن العجيب أن هذا الشرط -وهو العقل أو
الاتزان والاستواء- لم يكن متحققا في بعض من
دعوا إلى الله ودلوا عليه، ودعوا للاستمساك بشرعه، بالرغم من وقع كلماتهم ودعواتهم
على من يدعونه ويحدثونه. ويبدو أن غياب العقل لديهم لم يغيّب البصيرة، فتبصروا بما
بقي لديهم من عقل، فكان لكلماتهم ومواعظهم عظيم الأثر في غيرهم.
الداعية بهلول
وربما جاء على رأس هؤلاء الدعاة المجانين بهلول -وهو
بهلول بن عمرو بن المغيرة الصيرفي، توفي في بغداد نحو سنة 190هـ-
فقد اشتهرت عنه مواقف تدل على بصيرة نافذة، وقلب حي، وحرص على إرشاد الناس وهدايتهم
ودعوتهم للخير، لا يفرق في ذلك بين ما إذا كان المدعو خليفة المسلمين أو رجلا عاديا
من عامتهم.
يروَى أنه قال للرشيد واعظا: "يا أمير
المؤمنين، كيف لو أقامك الله بين يديه فسألك عن النقير والفتيل والقطمير؟".
فخنقت العبرة الرشيد، فقال الحاجب: "حسبك يا
بهلول، قد أوجعت أمير المؤمنين". فقال الرشيد:
"دعه".
فقال بهلول: "إنما أفسده أنت وأضرابك".
فقال الرشيد: "أريد أن أصلك بصلة".
فقال بهلول: "ردها على من أُخذت منه".
فقال الرشيد: "فحاجة".
قال: "ألا تراني ولا أراك".
وقد كان بهلول يتفنن في تعليم ووعظ غيره، حتى لو كان ذلك الغير عالما، فقد لقي عبد
الرحمن الكوفي، فقال له: "أسألك؟".
فقال: "اسأل".
قال: "أي شيء السخاء؟".
فقال الكوفي: "البذل والعطاء".
قال: "هذا السخاء في الدنيا، فما السخاء في
الدين؟". فقال: "المسارعة
إلى طاعة الله". قال:
"أفيريدون منه الجزاء؟". فقال:
"نعم، بالواحد عشرة". قال:
"ليس هذا سخاء، هذه متاجرة ومرابحة".
فقال الكوفي: "فما هو عندك يا بهلول؟".
قال: "لا يطّلع على قلبك وأنت تريد منه شيئا
بشيء".
وكان بهلول يحرص على عدم أذية الآخرين، ولو كان في ذلك أذية جسمه، ويرجو أن يدعو له
الآخرون بسبب ذلك بعد موته، قال عمر بن جابر الكوفي: "مر
بهلول بصبيان كِبار، فجعلوا يضربونه، فدنوت منه فقلت: لم لا تشكوهم لآبائهم؟
فقال لي: اسكت، فلعلي إذا متّ يذكرون هذا الفرح فيقولون: رحم الله ذلك المجنون".
سعدون المجنون
وكما كان لبهلول مواعظه ومواقفه، كان سعدون المجنون -ويقال
إن اسمه سعيد، وكنيته أبو عطاء، ولقبه سعدون، وكان من أهل البصرة، وتوفي بعد سنة
250هـ- كان ملتجأ للناس، يطلبون منه أن يستسقي
لهم، فينزل المطر للتو بعد دعائه.
قال عطاء السلمي: "احتبس عنا القطر بالبصرة،
فخرجنا نستسقي، فإذا بسعدون المجنون، فلما أبصرني قال: يا عطاء، إلى أين؟
قلت: خرجنا نستسقي، فقال: بقلوب سماوية أم بقلوب خاوية؟
قلت: بقلوب سماوية. فقال: لا تبهرج، فإن الناقد بصير، قلت: ما هو إلا ما حكيت لك
فاستقِ لنا. فرفع رأسه إلى السماء، وقال: أقسمت عليك إلا سقيتنا الغيث، ثم أنشأ
يقول:
أيا من كلما نـــــودي أجـــابــا
ومن بجلاله ينشي السحابـا
ويا من كلم الصديق موسى كلامــــا ثم ألهمـــه
الصوابــــا
ويا من رد يوسف بـــعد ضـــر
على من كان ينتحـب انتحابا
ويا من خص أحمــد باصطفاء وأعطـــاه الرســــالة
والكتابا
اسقنا. قال: فأرخت السماء شآبيب كأفواه القرب".
وكانت له دعوات تدل على خشوعه وتقواه، ويدعو إلى أن نحب الله تعالى لنحسن خدمته.
قال خالد بن منصور القشيري: "قدم علينا سعدون
المجنون، فسمعته ليلة من الليالي يقول في دعائه: لك خشعت قلوب العارفين، وإليك طمحت
آمال الراجحين، ثم أنشأ يقول:
وكن لربك ذا حب لتخدمه إن المحبين للأحباب خدام".
وكان ذو النون المصري يعرف لسعدون هذا منزلته، ويطلب منه أن يوصيه، يقول ذو النون:
"رأيت سعدون في مقابر البصرة وهو يناجي ربه،
ويقول بصوت عالٍ: أحد أحد، فسلمت عليه فرد عليّ، فقلت: بحق من تناجيه ألا وقفت.
فوقف، ثم قال: قل. قلت: أوصني بوصية أحفظها عنك أو تدعو بدعوة. فأنشأ يقول:
يا طالب العلم من هنــا وهنــا
ومعدن العـلم
بين جنبيكا
إن كنت تبغي الجنان تسكنها
فأسبل الدمع فوق خديكا
وقــم إذا قــام كــل
مجتهـــد وادعه كي يقــــــول لبيكا
ورآه يوما، فقال له: يا سعدون، تعال نبكي على هذه الأبدان قبل أن تبلى، فتأوه ثم
قال: "البكاء على القدوم على الله أولى بنا من
البكاء على الأبدان، فإن يكن عندها شر أبلاها في القبور فسوف يبعثها ربها للعرض
والنشور، يا ذا النون إنك إن تدخل النار فلا ينفعك دخول غيرك الجنة، وإن تدخل الجنة
فلا يضرك دخول غيرك النار". ثم قال:
"يا ذا النون، وإذا الصحف نشرت".
ثم صاح: "واغوثاه، ماذا يقابلني في الصحف؟".
فغشي على ذي النون.
وزار سعدون بهلولا، فأخذا يتواصيان، يقول سعدون لبهلول: أوصني وإلا أوصيك، فناداه
بهلول: أوصني يا أخي. فقال سعدون: أوصيك بحفظ نفسك، فإن هذه الدنيا ليست لك بدار.
قال: بهلول أنا أوصيك يا أخي. فقال: قل. فقال: اجعل جوارحك مطيتك، واحمل عليها زاد
معرفتك، فإن ذكّرتك ثقل الحمل فذكّرها عاقبة البلوغ.
المجنون من عرفه ثم عصاه
وممن اشتهر أيضا بوعظه وعلمه من المجانين، عليان المجنون، الذي كان إذا عُيِّر
بكونه مجنونا قال: "مهلا، إنما المجنون من
عرفه ثم عصاه". ويُسأل عن العاقل فيقول:
"من حاسب نفسه وخاف ربه".
ويُسأل أحد المجانين عما إذا كان يسُره إذا كان هو أمير المؤمنين؟
فقال: لا. فيُسأل: ولماذا؟ قال:
"يثقل ظهري، ويكبر همي، وتنسيني النعم ذكر ربي".
فيقال له: هل هناك عاقل في الأرض لا يتمنى أن يكون خليفة؟!
قال: "وهل هناك عاقل في الأرض يتمنى أن يكون
خليفة؟!".
ويعظ مجنون رجلا فيقول: "خف الله خوفا لا
يشغلك عن الرجاء؛ فإنك إن ألزمت قلبك الرجاء يشغلك عن الخوف، وفر إلى الله، ولا تفر
منه، فإنه يدركك ولن تعجزه، ولا تطع المخلوق في معصية الخالق، واعلم أن لله يوما
تشخص فيه الأبصار، مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء".
وإذا كانت كلمات وعظات هؤلاء المجانين غير مؤثرة، فإن أحوالهم ربما تكون مؤثرة؛
فربما كان النظر إليهم مدعاة إلى تذكر فضل الله الذي حفظ لنا عقولنا، فهلا تدلنا
هذه العقول على ضرورة الاتعاظ، حتى ولو من المجانين.
داعية مصري
الكاتب: محمد المشطاوي
نشرت على الموقع بتاريخ: 28/12/2006
|
|
|
|
|
|
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com
|
حقوق الطبع محفوظة لموقع مجانين.كوم ©
|
|