|
|
|
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ::
الكاتب: د.عبادة كحيلة
نشرت على الموقع بتاريخ: 12/05/2007
إذا
جمعتنا يا جرير المجامع. ليس دفاعا عن العروبة لكن إظهار للحق.
طالعت في أخبار الأدب الغراء (8 فبراير 2004)
مقالا للأستاذ محمد البدري بعنوان "المصريون
ليسوا عربا" يتضح منه سعى الكاتب إلى تخرج
الهوية العربية عن وطنه، "والتمسك بأصل وهوية
مصرية هي أعمق وأرقى". المقال رافد فئ تيار
بدأ اصطحابه غداة العدوان الأمريكي على عراقنا الحبيب، وقد وصل هذا التيار إلى حد
أن يحاول أحدهم بعث اللغة المصرية القديمة، باعتبار اللغة العربية لغة غريبة عنا،
أتى بها غزاه غرباء عنا.
وليس الهدف من مقالي هذا هو الدفاع عن العروبة، إنما الهدف هو توضيح ما عليه أعداء
العروبة وخصومها من تهافت في أحيان، وما هو أكثر من التهافت في أحيان أخرى.
يبدأ الكاتب مقاله بالحديث عن الأهرامات، والفرية التي روج لها كاتب مصري بأن
بناتها هبطوا من السماء، والفرية الأخرى التي روج لها بيجين بأن بناتها هبطوا من
إسرائيل، وكيف أن الرئيس المؤمن وقف من هذه الغربة الأخيرة موقفا سلبيا، وشاركه هذا
الموقف السلبي "القوميون والعروبيون وجميع
المؤمنين بالديانات السماوية الثلاث على اختلاف مشاربهم".
وما يذهب إليه الكاتب غير صحيح فقد تصدى للإرهابي الصهيوني والكاتب المصري معا
مصريون قوميون وعروبيون ومؤمنون أجل من أن أحصيهم.
يعزو الكاتب السبب في شيوخ هذه الغربة تلك إلى موقف الإسلام من التراث القديم، ومنه
التراث القديم باعتباره تراثا وثنيا، وموقفه من الفراعنة
-فراعنة الكتب المقدسة- باعتبارهم
قوما وثنيين، ومن ثم يجد المصري نفسه في حيرة من أمره، فإذا هو دافع عن هذا التراث
واعتز به "يصير في موقف لا يحبذه الدين"
فيصمت أو يبرأ من تراثه، ويتيح الفرصة لمن يختلسه أو يدعيه.
منطق ساذج.. أليس كذلك؟!
يا هذا.. أذكرك ببدهية، تقول بأن العرب
المسلمين أقاموا حضارتهم على عمد، يعود بعضها إلى عصور الوثنية، أليسوا هم الذين
حفظوا العلوم اليونانية (الوثنية)
وأضافوا إليها، لينهل منها الأوربيون في عصر النهضة، أذكرك كذلك بأن التنزيل العزيز
يحمل على الفرعون (أي الملك)
لأنه لم يؤمن برسالة النبي (موسى عليه السلام
أو غيره من الأنبياء)، ولا يمكن أن يستخرج من
هذا التنزيل حملة على المصريين ولا على حضارة المصريين.
في هذا السياق يسخر الكاتب من الخليفة المأمون، ويأتي بحكاية، لا ندرى مدى صحتها،
هي إنه عند مقدمه إلى مصر، أمر أحد أتباعه بقياس مساحة الهرم، فحددها بمبرك ثماني
جمال، ثم يعلق -أي
الكاتب- "هكذا تقاس المساحة عند الخليفة
العباسي في بغداد، حيث بيت الحكمة ومنبع العلم العربي والحضارة الإسلامية، إذا
قارناه بعلوم مدرسة الإسكندرية، حيث إقليدس واضع أساس الهندسة كما نعرفها اليوم..".
وينسى، والأرجح يتناسى أن من علماء بيت الحكمة في زمان هذا الخليفة، من قاس محيط
الكرة الأرضية، وجاء قياسه على نحو يكاد يتطابق مع ما وصل إليه العلم الحديث في
عصرنا هذا الحديث.
الغريب أن الكاتب يردد بدوره فرية، مفادها أن العرب لدى فتحهم مصر أحرقوا مكتبة
الإسكندرية القديمة.. وهذا دليل فادح على جهله
بتاريخ وطنه، فحرق العرب لهذه المكتبة كذبة كبيرة، تم فضحها على نحو قاطع قبل مائة
عام أو يزيد، وحتى لا يتهمني الكاتب بالعوربة أو الأسلمة، أقول أن الذين قاموا على
فضح هذه الكذبة مؤرخون أوربيون كبار، لا نسب لهم في عدنان ولا قحطان.
الأغرب أن الكاتب يوحد بين مفهوم العروبة ومفهوم البداوة
(ويضع العرب واليهود جميعا في سلة واحدة باعتبارهم بدوا)
ثم هو يؤسس على هذه البداوة زعمه بأن العرب لم يعرفوا الاستقرار الذي يؤهل لقيام
الحضارة، ولم يتوافر لهم تراث معماري ضخم كالذي توافر لأجدادنا المصريين القدماء..
وكل ما خلفوه قبل إسلامهم تراث شعري أثبت انتحاله طه حسين في كتابه
"في الشعر الجاهلي".
الكاتب يذهب بعيدا في شططه، فقد عرف أجدادنا العرب البداوة وعرفوا كذلك الحضارة،
وأسسوا دولا، بعضها كانت دولا كبيرة في زمانها، كما عرفوا التراث المعماري الفخم،
وإن لم يصل في ضخامته إلى تراث أجدادنا الفراعنة، ولدينا في بلاد اليمن شواهد شتى
على هذا التراث (هياكل صروح، وقصر غمدان، وسد
مأرب وغيرها) ثم أن ما ذهب إليه العميد مع
إجلالنا له، ذهب إلى نقيضه آخرون نجلهم كما نجله، بينهم شوقي ضيف وناصر الدين
الأسد، أطال الله في عمريهما.
وعلى ذكر الشعر الجاهلي، فالكاتب يفسر بكاء الشاعر على الأطلال، بأنها تذكره
بالاستقرار الذي يتوق إليه. وهذا ليس صحيحا، فالشاعر يبكى على الأطلال، لأنها تذكره
بحبيبته التي رحلت وخلفت له لوعته وأساه، وهو ما نلاحظه في مطلع معلقة امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل..
وفى مطلع قصيدته الشهيرة: ألا أنعم صباحا أيها الطلل البالي.. وهل يعمن من كان في
العصر الخالي.
الكاتب -إلى ذلك-
يتعامل مع التاريخ على نحو انتقائي، شاهدنا على ذلك حكايته عن الخليفة المأمون إبان
مقامه في مصر وهاك شاهدا آخر، فهو يحكى عن محاولة لهدم الهرم تنسب إلى أحد ملوك
الأيوبيين، ويعلق: "ذلك هو موقف القادمين
بالدين الجديد من هذا التراث".
ونرد بأن هذه المحاولة على افتراض صحتها، ما هي إلا حادثة مفردة، لملك من عشرات
الملوك وربما مئاتهم، الذين حموا مصر خلال تاريخها الألفي الطويل، وليست ظاهرة
عامة، وإذا نحن نهجنا نهج الكاتب في تعميمه، لوصمنا هؤلاء الملوك جميعهم بالعته،
لأن أحدهم -وهو الحاكم بأمر الله-
كان في أرجح الأقوال معتوها.
لا يتوقف الكاتب عند هذا الحد، فإذا نحن غضضنا البصر عن وصفه الفتح الإسلامي بأنه
غزو، وغضضنا النظر كذلك عن وصفه بعض ملوك الأيوبيين بأنهم طواشية
(طواشية معناها خصيان، ولم يكن أي منهم خصيا)
فإننا لا يمكن أن نغض البصر عن وصفه الإسلام بأنه "الطور
الأخير للديانة العبرانية" أليس في هذا الوصف،
استفزاز لمشاعرنا الدينية، وتبرير لدعاوى من يدعون بالإرهابيين. بعد هذا القدر
الهائل من التعميمات والمغالطات والأحكام الظالمة المرسلة، يأتى الكاتب بفقرة،
أوردها كما هي، ثم أعلق عليها.
يقول: "معروف أن"
الشعر هو مقياس الفصاحة والتمكن اللغوي، ذلك إذا كانت هناك حياة شعرية، فأقدم شاعر
مصري هو محمود سامي البارودي، أي من 120 عاما فقط، ثم تأتى باقي القائمة العريضة في
هذا القرن فقط. أما منذ مجيء العرب وحتى الثورة العرابية، فهناك ندرة شديدة في هذا
المجال، منهم عمر بن الفارض، ابن سناء الملك، ابن قزمان، والبهاء زهير، ولم يتعد
زمان آخرهما عام سقوط بغداد، (وأسمائهما
الصحيح وأسماؤهم) تدل على جذورهم العرقية من
خارج مصر، وكثير من أعمالهم ليس لها من الشيوع، ولا يذكر أحد شاعرا طوال ال 700 عام
التالية وحتى البارودي، فأين السيادة اللغوية لعروبة المصريين التي يمكن التعويل
عليها، بأننا عرب طوال اثني عشر قرنا. أما في الأوساط الرسمية فلم تضع اللغة نفسها
في التعليم إلا مع قرار وزير المعارف سعد باشا زغلول وفى الحياة العامة إلا مع قرار
وزير الشئون الاجتماعية عبد الحميد عبد الحق وفى المحاكم وأمور التقاضي إلا مع
المستشار عبد السلام ذهني بك".
الكاتب يجعل البارودي أول شاعر مصري، باعتبار أن من سبقه من شعراء، يعودون في
معظمهم إلى أصول غير مصرية، وهو هنا يناقض نفسه فالبارودي نفسه من أصول غير مصرية
(جركسية)
وكذا كانت حال شوقي، فهو من أصول كردية.
ومع ذلك فنحن نقول بمصرية البارودي ومصرية شوقي ومن سبقهما من شعراء، لأن المصريين
لا ينتمون إلى عرق واحد، إنما هم ينتمون إلى أعراق شتى، وإن كان العرق المصري
القديم والعرق العربي هما العرقان الأساس. وعلى ذلك فابن الفارض وابن سناء الملك
والبهاء زهير وغيرهم ممن لم يذكرهم الكاتب شعراء مصريون وبعضهم شعراء كبار. وبهذه
المناسبة، فابن قزمان الذي يجعله مصريا ليس مصريا، إنما هو أندلسي، ولد بالأندلس
ومات بالأندلس، ولم تكتحل عيناه بمرأى مصر ولا أوطان أخرى غير مصر.
وليس صحيحا أن كثيرا من أعمالهم لم يقدر لها الشيوع، ويكفينا التنويه إلى
"تائية ابن الفارض" (760
بيتا) وقد كتب عنها ما لا أحصيه عددا،
والتنويه كذلك إلى "دار الطراز"
لابن سناء الملك وقد وضع فيه عروض الموشحات ونظامها، كما وضع الخليل عروض الشعر
ونظامه. وهناك أسماء أخرى كبيرة نسيها الكاتب وربما تناساها، منها البوصيري صاحب
البردة التي ترامت شهرتها إلى عصرنا، مما أهم أمير الشعراء وشعراء كثير غيره إلى
معارضتها، منها كذلك حطان بن المعلى صاحب القصيدة الجميلة في حب الولد التي يقول
فيها:
وإنما أولادنا بيننا.. أكبادنا تمشي على الأرض.
ومن هذه الأسماء من كانوا ينتمون إلى أرومه قبطية صريحة، ويحضرنا مثال ذي النون
المصري الإخميمي الذي كان متصوفا إلى كونه شاعرا بل كان أول المتصوفة في الإسلام.
وما دام الشيء بالشيء يذكر فالبويطي المحدث، وورش القارئ، والليث الفقيه،
وابن مماتي المؤرخ.. هؤلاء جميعهم ينتمون إلى
هذه الأرومة القبطية بل إن من الأقباط من ظل قبطيا، لكنه شارك في صناعة الحضارة
العربية الإسلامية في وطنه مصر، ومنهم سعيد بن البطريق (مؤرخ
وطبيب).
وإذا كان الكاتب يرجع وجود اللغة العربية في التعليم المقرر لسعد زغلول،
وفى الحياة العامة إلى قرار لعبد الحميد عبد الحق، وفى المحاكم وأمور التقاضي إلى
قرار لعبد السلام ذهني، فإن اللغة العربية كانت هي لغة التعليم والحياة العامة
والمحاكم وأمور التقاضي قبل هؤلاء الثلاثة بألف عام ويزيد، وظلت على هذه الحال مع
تعاقب الحكام وغالبهم ليسوا من العرب، بل ليسوا من المصريين، إلى أن نكبت مصر
بالاحتلال البريطاني، فصارت الإنجليزية (وإلى
حد ما الفرنسية) هي لغة التعليم
(الأميري وليس الأزهر)
والحياة العامة والقضاء لمدى لا يزيد على أربعين أو الخمسين سنة، إلى أن أتى هؤلاء
الثلاثة الأجلاء فأعادوا اللغة العربية إلى مكان هي جديرة به.
أيها الكاتب: أنا مصري عربي... أعتز بتراث آبائي المصريين القدماء، كما أعتز بتراث
آبائي من العرب النبلاء. أولئك آبائي فجئني بمثلهم..
إذا جمعتنا يا جرير المجامع.
ملحوظة: كتب د.عبادة كحيلة هذا المقال ردا على مقال كتبه محمد البدري حول هوية مصر
منشور بجريدة "أخبار الأدب".
الخميس ٤ آذار (مارس) ٢٠٠٤
واقرأ أيضاً:
الشخصية المصرية: تعددية أم تناقض
الشخصية المصرية
نفسية المصريين الفساد القيمي
نفسية المصريين (المنتحرون.. لماذا؟) ـ (1)
انتهى الدرس يا وطني!!
مصر ولادة وأولادنا متفرجون ومتفجرون
المصريون ....والتربص الاجتماعي
الكاتب: د.عبادة كحيلة
نشرت على الموقع بتاريخ: 12/05/2007
|
|
|
|
|
|
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com
|
حقوق الطبع محفوظة لموقع مجانين.كوم ©
|
|