المعارضة.. من النفس إلى الكون(1) ::
الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 01/08/2007
إشكاليات التعريف والإيحاءات حاولت كثيرا أن أسأل معارفي وأصدقائي وغيرهم ممن ألقاهم مصادفة (على اختلاف توجهاتهم وثقافتهم) عن إيحاءات كلمة "معارضة", وكانت الردود تدور حول المخالفة والاختلاف, والمشاغبة والمشاكسة, وحب الشهرة, والمظاهرات والعنف والاعتقالات, وقلب أنظمة الحكم, والخيانة, والمحاكم العسكرية, والمقالات العنيفة في الصحف, والخروج على النظام العام, والقلة المارقة, وشق الصف, وتكدير الصفو العام, والصراع على السلطة, ومحاولة إثبات الذات بالاختلاف (خالف تعرف.. أو تضرب), والخروج على الصف, والناس المغامرين, والمتهورين....إلخ, ومن الملاحظ أن أغلب التعبيرات تدور حول معان سلبية (مع استثناءات قليلة) وكأنها استخدامات عصرية لنفس مقولة فرعون "إنهم شرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون", ووصف الحكام المستبدين في المراحل التاريخية المختلفة لمعارضيهم بأنهم "قلة مارقة", وهذا يعكس سلبية مفهوم المعارضة أو تشويهه أو اختزاله في الثقافة العربية, وربما يستغل البعض هذا المفهوم السلبي أو المختزل أو المشوه لعزل المعارضة في كنتونات صغيرة غير فاعلة, ووصمها بالتهور وعدم المسئولية والنزق والطمع والانحراف. ويبدو أن هناك مشكلة تاريخية لنا مع المعارضة فعلى مدار التاريخ كان ينظر إليها على أنها حركات مارقة أو أصوات نشاذ وأو خروج على الإجماع, أو خراف ضالة تخرج عن القطيع فيأكلها الذئب, وهذا موقف ربما يحتاج لسنوات كي يتم تعديله في الوعي العام.
فإذا جئنا إلى مفهوم المعارضة من الناحية النفسية والعلمية والحياتية فإننا نجد أن المعارضة تعنى رفضا كاملا لإدارة السلطة إذا ما كانت هذه السلطة غير شرعية, فهي لا ترضى منها بأي شيء وتسعى لزعزعتها من الأساس لكونها غير شرعية, ولا ترضى من هذه السلطة بأي تعديل حتى ولو كان بعضه إيجابيا, فغياب الشرعية هنا عن السلطة يجعل المعارضة في حالة رفض مطلق لا يقبل التفاهم, وهنا تكون المعارضة والسلطة في حالة استقطاب وصراع شديد لأن كل منهما يسعى لاجتثاث الآخر من جذوره وتصفيته نهائيا, أي أن العلاقة هنا علاقة استعبادية واستبدادية واستبعادية من جانب السلطة وعلاقة رفضية اجتثاثية من جانب المعارضة, وهذا أسوأ نموذج للعلاقة بين السلطة والمعارضة ولا يستبعد فيه العنف بكل أشكاله, ويدفع المجتمع ثمنا باهظا جراء هذه العلاقة وذاك الصراع.
أما إذا كانت السلطة شرعية فإن المعارضة هنا تعنى رفضا لكيفية ما لتنفيذ إدارة السلطة أو سعيا إلى تحوير أو تعديل الكيفيات والوسائل التي تتم بها تلك الإدارة, والعلاقة هنا بين السلطة والمعارضة تكون منطقية وموضوعية, ومنضبطة بقواعد اللعبة السياسية القائمة على مبدأ التعددية وتداول السلطة بطريقة سلمية شفافة من خلال صناديق الانتخابات, وبدلا من أن تتصارع السلطة والمعارضة لتصفية بعضهما البعض (كما في النموذج السابق) نجد أن كلا من السلطة والمعارضة يتوجهان إلى المواطن (صاحب المصلحة الحقيقي) لإقناعه بما يريد كل منهما على أمل الحصول على ثقته في أقرب انتخابات تصعد بهذا أو ذاك إلى موقع السلطة (المؤقتة بالضرورة) وليس إلى سدّة الحكم (كلمة سدّة هذه تعطى إيحاءات بسد الطريق على أي تيار آخر لتبادل السلطة ولهذا يكثر استخدامه في العالم العربي لأسباب مفهومة).
وقد تستهجن المعارضة بناءا على تصور ديني يفترض السمع والطاعة لولى الأمر حتى ولو كان فاسقا ما دام لم يمنع الناس من الصلاة (كما هو المعتقد لدى طائفة من علماء الدين يدعمهم أو يدفعهم الحكام المستبدين لترسيخ هذه المفاهيم على أساس أن الفتنة الناتجة عن الخروج على الحاكم المستبد أشد خطرا من الاستبداد في رأيهم أو رأى المستبد الذي يستثمر هذا الموقف فيعيس في الأرض فسادا واستبدادا, ثم تحدث الفتنة بعد ذلك كنتيجة طبيعية للفساد والاستبداد فيدفع الناس ثمن الفتنة مضافا إلى ضريبة الفساد والاستبداد), أو ينظر إلى المعارضة على أنها خروج على إجماع الأمة, أو يقرن بينها وبين مجموعات نالتها وصمة المروق الديني أو السياسي أو الاثنين معا كالخوارج والمعتزلة والفرق الضالة أو المارقة. ونجد أن المستبدين على مدار التاريخ العربي يحبون أن تترسخ هذه المعاني لدى الناس فينظرون بريبة إلى كل مخالف أو معارض, ويستحضرون في وعيهم بشكل تلقائي كل سمات المروق والعصيان والتمرد والفتنة.
المعارضة داخل النفس يقول هنرى مري في وصفه للمنظومة النفسية داخل الشخصية: "الشخصية أشبه بمؤتمر كامل يضم عددا كبيرا من الأفراد, منهم الخطباء وجماعات الضغط والأطفال, ومنهم الغوغائيون والشيوعيون والانعزاليون وتجار الحروب, وفيهم المستقل والمحافظ ومبتز الأموال ومقايض الأصوات, وبينهم أشباه قيصر والمسيح وميكيافيلى ويهوذا وبرومثيوس الثورى".
فمن المعروف أن النفس ليست شيئا واحدا وإنما هي عدة كيانات تتناغم أو تتصادم أو تتكامل مع بعضها, وحصيلة تفاعل هذه الكيانات هو الذي يحدد حالة الصحة النفسية من عدمها, وقد اختلفت تسمية هذه الكيانات من مدرسة لأخرى, ففي مدرسة التحليل النفسي نجد ال"هو" (الجزء من الشخصية المليء بالرغبات الجنسية والعدوانية غير المقبولة اجتماعيا), وال"أنا الأعلى" (الجزء من الشخصية الذي يحتوى على القانون الديني والأخلاقي ويهتم بموضوعات الحرام والحلال والصحيح والخطأ من المنظور الأخلاقي), وبين هذين الكيانين المتباعدين يوجد "الأنا" (وهو الجزء الموضوعي المحايد في الشخصية فهو يهتم بالحقائق الموضوعية ويركز على الجوانب الواقعية وعلى حسابات المكسب والخسارة, ويقوم بالتوفيق بين رغبات الأنا المندفعة والخطرة والمرفوضة اجتماعيا وبين احتياجات الأنا الأعلى وواقع المجتمع, أي أنه يشكل عامل التوازن داخل الشخصية).
والتركيبة النفسية للشخصية تتوازن بوجود هذه الكيانات في حالة توازن وتفاعل, فإذا طغت إحدى هذه الكيانات على الأخرى أو استبعدتها أو أضعفتها هنا ينتج الاضطراب, فمثلا إذا طغى ال"هو" وجدنا الشخص منفلتا نزويا عابثا أو عدوانيا, وإذا طغى الأنا الأعلى وجدناه متشددا متعصبا صارما متجهما مكبلا وكابتا لقوى النفس ووإذا طغى ال"أنا" وجدنا الشخص يميل إلى الحلول الوسط ويتحول إلى شيء أشبه بالكومبيوتر لا حياة فيه ولا لون ولا طعم, وكأنه مجموعة حسابات وأرقام ليس إلا. أما إذا أتيحت الفرصة لهذه القوى ولكيانات أن تعمل بتوازن وتكامل فنحن أما شخصية متوازنة ومتعددة الأبعاد ذات لون وطعم مميز.
وفى مدرسة التحليل التفاعلاتي للعالم النفسي "إريك برن" نرى النفس تتكون من ثلاث كيانات هي الطفل والوالد والراشد, فذات الطفل تحوى الرغبة في الحركة والانطلاق والعفوية والإبداع, وذات الوالد تميل إلى الضبط والربط والالتزام بالقواعد الدينية والأخلاقية, وذات الراشد تميل إلى الواقعية والموضوعية, ويحدث التوازن في الشخصية من خلال تبادل الأدوار بين هذه الذوات المختلفة حسب ما تقتضيه المواقف والظروف, فإذا كنا في عيد أو نزهة فإن ذات الطفل تنشط لتواكب ظروف الفرح والبهجة والانطلاق, إما إذا كنا في موقف تربوي في المدرسة أو المسجد أو البيت فإن ذات الوالد تنشط لدى المربى, فإذا ذهبنا للعمل نحتاج ذات الراشد الموضوعية الواقعية لتضبط حركة الإنتاج بحسابات المكسب والخسارة, وهذه الذات –أي ذات الراشد– هي عامل التوازن في الشخصية حيث تتسم بالنضج والتروي والقدرة على ضبط إيقاع الحياة بعيدا عن نزق الطفل وتحكمات الوالد. وفى التصور الإسلامي هناك النفس الأمارة بالسوء (المشحونة بالرغبات والشهوات والمندفعة نحوها), والنفس المطمئنة التي توازنت فيها القوى وتناغمت حركتها ورضيت عن الله ورضي عنها الله وأعطت للدنيا حجمها وحقها وللآخرة أيضا حجمها وحقها, وتطلعت إلى معالي الأمور وتنزهت عن الدنايا, وأخذت من الحلال ورضيت به وتعففت عن الحرام وعافته, ثم تأتى النفس اللوامة وهى نفس تتأرجح بين رغبات النفس الأمارة بالسوء واضطراباتها وبين رضا وسكينة النفس المطمئنة. والإنسان تتناوبه تلك الأحوال من وقت لآخر وتتوقف صحته النفسية على قدرته على إدارة المنظومة الشخصية بين هذه القوى بعضها البعض, أما محاولات الاستبعاد أو الإلغاء أو التنكر لجزء من أجزاء الشخصية فإن نتيجته اضطرابا نفسيا بشكل أو بآخر لأن ثمة نوع من التوازن المطلوب بين القوى المختلفة يخلق تنوعا وانسجاما في داخل النفس. وهناك تصور للخريطة النفسية على أنها تتكون من ثلاث دوائر: دائرة المعرفة (تحوى الأفكار والنشاطات العقلية المجردة), ودائرة العاطفة (تحوى المشاعر والوجدانات والإنفعالات), ودائرة السلوك (تحوى كل أنواع السلوك من حركة وكلام). ولكي يكون الإنسان صحيح نفسيا يجب أن نرى توازنا بين هذه الدوائر وتناغما وتبادلا للأدوار حسب الظروف والمواقف والملابسات, ففي المواقف العقلانية الذهنية نجد أن دائرة المعرفة تتولى قيادة الشخصية, وفى المواقف العاطفية تتراجع دائرة المعرفة بطواعية ومرونة وتترك المجال لدائرة العاطفة, أما حين يكون الكلام أو الحركة مطلوبان لذاتهما أو للتعبير عن دائرتي المعرفة والعاطفة فإن دائرة السلوك تتقدم لتقوم بالمهمة, وكل هذا يحدث في توازن وتناغم ومرونة وسلام.
أما إذا استبدت دائرة منهم –أيا كانت– بالظهور فإن ثمة اختزال يحدث في الشخصية يجعلها ناقصة أو مبتورة أو مشوهة, وهنا يحدث المرض أو أحادية الرؤية أو الوجود, وهى أشياء عكس الفطرة التعددية في النفس البشرية, فمثلا إذا استبدت دائرة المعرفة نجد أن الشخص عقلانيا مجردا أكثر من اللازم, لذلك يفقد مذاقه كإنسان متكامل, أما إذا طغت دائرة العاطفة فنجده حماسيا وانفعاليا أكثر من اللازم مما يجعله في دائرة الاندفاع والتهور, أما إذا طغت دائرة السلوك فنجده يهتم بالكلام والطقوس والمظاهر الخارجية على حساب المعنى العميق وعلى حساب الوجدانات التي تعطى لونا وطعما للأشياء.
وهكذا سنة الله في النفس (كما هي في الكون والحياة) أن تكون هناك قوى وكيانات مختلفة ومتعددة تتبادل الأدوار والقيادة والتوجيه والتأثير, وذلك يضمن للحياة التناغم والسلام والاستقرار, أما في حالة استبداد كيان واحد بالسيطرة على النفس فإن الكيانات الأخرى قد تضمر وتموت وتترك الكيان المستبد يأكل بعضه بعضا حتى يموت مثل خلايا السرطان الجامحة والطامعة, أو أن هذه الكيانات المستبعدة تكمن وتنتظر الفرصة للانقضاض على الكيان المستبد وقهره, أو تحدث انشقاقات وتصدعات في الشخصية من وقت لآخر تعبر عن أزمة داخلية لم تجد حلا تكامليا أو صيغة للتعايش بين قوى النفس المختلفة التي خلقها الله وشاء لها أن تؤدى وظائفها داخل المنظومة النفسية. وللحديث بقية.........
واقرأ أيضًا: التحليل النفسي لشخصية صدام حسين / بائع الورد : قراءة في شخصية عمرو خالد / أنماط التدين من منظور نفسي إسلامي / برنامج علاجي لحالات الشذوذ الجنسي / قلق الامتحانات / فن المذاكرة / حيرة مريض نفسي بين الطب والغيب / المازوخية / الصحة النفسية للمرأة / نوبات الهلع عند المرأه / الطفل البَكاء / المرأة في القرآن والسنة / صلاح جاهين وثنائية الوجدان / الصمت الزوجي / سعاد حسنى والجرح النرجسي / البراجماتيزم ... دين أمريكا الجديد / شخصيةالطاغية / العلاج بالقرآن من راحة سلبية إلى طمأنينة وجودية / الثانوية العامة .... مرحلة دراسية أم أزمة نمو؟ / الكــــــــــذب / كيف نمحو أميتنا التربوية؟ / سيكولوجية التبني.. الكفالة.. الأسرة البديلة / المكتئب النعّاب / سيكولوجية التعذيب / اضطراب العناد الشارد / الحوار وقاية من العنف / النضج الوجداني / الدردشة الالكترونية وحوار الأعماق/ سيكولوجية الاستبداد (الأخير) / السادو- ماسوشية (sado-masochism) / الجوانب النفسية للعقم عند النساء / الدلالات النفسية لزواج الأمير تشارلز من عشيقته / ستار أكاديمي.. وإزاحة الستر / العلاقة الحميمة بين الجسد والروح (4) / ضرب الزوجات للأزواج( العنف العكسي ) / فن اختيار شريك الحياة (5) / الشخبطة السياسية / الزوج المسافر(4) / قادة العالم واضطرابات الشخصية(2) / قراءة في شخصية زويل(2) / إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ(3) / سيكولوجية الرجل / أزمة النمو في شعر عبد الرحمن الأبنودي(7) / هل فعلها المجنون في بني مزار / ظاهرة العنف في المجتمع المصري(3) / بين الإبداع والابتداع / الذوق والجمال في شخصية المسلم المعاصر / الجانب الأخلاقى فى شخصية المسلم المعاصر / جمال حمدان: المحنة ... العزلة ... العبقرية1 / أسباب فشل الحياة الزوجية / كيف تعاملين زوجك / مؤتمر العلاج بالقرآن بين الدين والطب / الدوافع ودورها في النجاح والتفوق / العادة السرية بين الطب والدين(2) / حين يصل الفساد لمواطن العفة(1).
الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 01/08/2007
|
|