إغلاق
 

Bookmark and Share

الوصاية على السفيه من فتح الباري2 ::

الكاتب: أ.د مصطفى السعدني
نشرت على الموقع بتاريخ: 16/07/2008


من كتاب فتح الباري للعسقلاني2

تابع فتح الباري جزء 4
وقال القرطبي في (المفهم: يرد على تأويل الخطابي بالآيات والأحاديث الواردة في فضل المؤثرين على أنفسهم، ومنها حديث أبي ذر "فضل الصدقة جهد من مقل" والمختار أن معنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال بحيث لا يصير المتصدق محتاجاً بعد صدقته إلى أحد، فمعنى الغنى في هذا الحديث حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله فلا يجوز الإيثار به بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره به أدى إلى إهلاك نفسه أو الإضرار بها أو كشف عورته، فمراعاة حقه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار وكانت صدقته هي الأفضل لأجل ما يتحمل من مضض الفقر وشدة مشقته، فبهذا يندفع التعارض بين الأدلة إن شاء الله.

قوله: "وابدأ بمن تعول" فيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم، وسيأتي شرحه في النفقات إن شاء الله تعالى. ثانيها حديث حكيم بن حزام " اليد العليا خير من اليد السفلى" الحديث، وشاهد الترجمة منه قوله فيه "وخير الصدقة عن ظهر غنى" وهشام المذكور في الإسناد هو ابن عروة بن الزبير، وقوله فيه "ومن يستعف يعفه الله" يأتي الكلام عليه في حديث أبي سعيد بعد أبواب. ثالثها حديث أبي هريرة قال بهذا أي بحديث حكيم، أورده معطوفاً على إسناد حديث حكيم بلفظ وعن وهيب والظاهر أنه حمله عن موسى بن إسماعيل عنه بالطريقين معاً، وكان هشاماً حدث به وهيباً تارة عن أبيه عن حكيم وتارة عن أبيه عن أبي هريرة، أو حدثه به عنهما مجموعاً ففرقه وهيب أو الراوى عنه. وقد وصل حديث أبي هريرة من طريق وهيب الإسماعيلي قال أخبرني ابن ياسين حدثنا محمد بن سفيان حدثنا حبان - هو ابن هلال حدثنا وهيب حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة قال مثل حديث حكيم.

رابعها حديث ابن عمر من وجهين في ذكر اليد العليا، وإنما أورده ليفسر به ما أجمل في حديث حكيم، قال ابن رشيد: والذي يظهر أن حديث حكيم بن حزام لما اشتمل على شيئين: حديث "اليد العليا" وحديث "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" ذكر معه حديث ابن عمر المشتمل على الشيء الأول تكثيراً لطرقه. ويحتمل أن يكون مناسبة حديث "اليد العليا" للترجمة من جهة أن إطلاق كون اليد العليا هي المنفقة، محله ما إذا كان الإنفاق لا يمنع منه بالشرع كالمديان المحجور غليه، فعمومه مخصوص بقوله "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" والله أعلم.

(تنبيه) : لم يسق البخاري متن طريق حماد عن أيوب، وعطف عليه طريق مالك، فربما أوهم أنهما سواء، وليس كذلك لما سنذكره عن أي داود. وقال ابن عبد البر في التمهيد: لم تختلف الرواة عن مالك أي في سياقه، كذا قال وفيه نظر كما سيأتي. وقال القرطبي: وقع تفسير اليد العليا والسفلى في حديث ابن عمر هذا، وهو نص يرفع الخلاف وبدفع تعسف من تعسف في تأويله ذلك انتهى. لكن ادعى أبو العباس الداني في أطراف الموطأ أن التفسير المذكور مدرج في الحديث، ولم يذكر مستنداً لذلك. ثم وجدت في كتاب العسكري في الصحابة، بإسناد له فيه انقطاع عن ابن عمر أنه كتب إلى بشر بن مروان "إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اليد العليا خير من اليد السفلى، ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة، ولا العليا إلا المعطية" فهذا يشعر بأن التفسير من ابن عمر، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال كنا نتحدث أن العليا هي المنفقة.

قوله: "وذكر الصدقة والتعفف والمسألة" كذا للبخاري بالواو قبل المسألة، وفي رواية مسلم عن قتيبة عن مالك "والتعفف عن المسألة" ولأبي داود "والتعفف منها" أي من أخذ الصدقة، والمعنى أنه كان يحض الغني على الصدقة والفقير على التعفف عن المسألة أو يحضه على التعفف ويذم المسألة.

قوله: "فاليد العليا هي المنفقة" قال أبو داود قال الأكثر عن حماد بن زيد: المنفقة، وقال واحد عنه: المتعففة، وكذا قال عبد الوارث عن أيوب انتهى. فأما الذي قال عن حماد المتعففة بالعين وفاءين فهو مسدد، -كذلك رويناه عنه في مسنده رواية معاذ بن المثنى عنه، ومن طريقه أخرجه ابن عبد البر في التمهيد، وقد تابعه على ذلك أبو الربيع الزهراني كما رويناه في كتاب الزكاة ليوسف بن يعقوب القاضي حدثنا أبو الربيع. وأما رواية عبد الوارث فلم أقف عليها موصولة. وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق سليمان بن حرب عن حماد بلفظ "واليد العليا يد المعطي" وهذا يدل على أن من رواه عن نافع بلفظ المتعففة فقد صحف.

قال ابن عبد البر: ورواه موسى بن عقبة عن نافع فاختلف عليه أيضاً، فقال حفص بن ميسرة عنه المنفقة كما قال مالك. قلت: وكذلك قال فضيل بن سليمان عنه أخرجه ابن حبان من طريقه قال: ورواه إبراهيم بن طهمان عن موسى فقال المنفقة قال ابن عبد البر: رواية مالك أولى وأشبه بالأصول. ويؤيده حديث طارق المحاربي عند النسائي قال "قدمنا المدينة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: يد المعطي العليا" انتهى. ولابن أبي شيبة والبزار من طريق ثعلبة بن زهدم مثله، وللطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن حزام مرفوعاً "يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي" وللطبراني من حديث عدي الجذامي مرفوعاً مثله، ولأبي داود وابن خزيمة من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك عن أبيه مرفوعاً "الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها  ويد السائل السفلى" ولأحمد والبزار من حديث عطية السعدي "اليد المعطية هي العليا، والسائلة هي السفلى" فهذه الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية وأن السفلى هي السائلة، وهذا هو المعتمد وهو قول الجمهور.

وقيل اليد السفلى الأخذة سواء كان بسؤال أم بغير سؤال، وهذا أباه قوم واستندوا إلى أن الصدقة تقع في يد الله قبل يد المتصدق عليه. قال ابن العربي: التحقيق أن السفلى يد السائل، وأما يد الآخذ فلا، لأن يد الله هي المعطية ويد الله هي الآخذة وكلتاهما عليا وكلتاهما يمين انتهى. وفيه نظر لأن البحث إنما هو في أيدي الأدميين، وأما يد الله تعالى فباعتبار كونه مالك كل شيء نسبت يده إلى الإعطاء، وباعتبار قبوله للصدقة ورضاه بها نسبت يده إلى الأخذ ويده العليا على كل حال، وأما يد الأدمي فهي أربعة: يد المعطي، وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا.

ثانيها يد السائل، وقد تضافرت بأنها سفلى سواء أخذت أم لا، وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالباً وللمقابلة بين العلو والسفل المشتق منهما.
ثالثها يد المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي مثلا وهذه توصف بكونها عليا علوا معنوياً.
رابعها يد الأخذ بغير سؤال، وهذه قد اختلف فيها فذهب جمع إلى أنها سفلى، وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، وأما المعنوي فلا يطرد فقد تكون عليا في بعض الصور، وعليه يحمل كلام من أطلق كونها عليا. قال ابن حبان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة لا الآخذة بغير سؤال، إذ محال أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل باستعماله، دون من فرض عليه إتيان شيء فأتى به أو تقرب إلى ربه متنفلاً، فربما كان الآخذ لما أبيح له أفضل وأروع من الذي يعطي انتهى.

وعن الحسن البصري: اليد العليا المعطية والسفلى المانعة ولم يوافق عليه. وأطلق آخرون من المتصوفة أن اليد الأخذة أفضل من المعطية مطلقاً، وقد حكى ابن قتيبة في غريب الحديث، ذلك عن قوم ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قوما استطابوا السؤال فهم يحتجون للدناءة، ولو جاز هذا لكان المولى من فوق هو الذي كان رقيقا فأعتق والمولى من أسفل هو السيد الذي أعتقه انتهى.

وقرأت في مطلع الفوائد للعلامة جمال الدين بن نباتة في تأويل الحديث المذكور معنى آخر فقال: اليد هنا هي النعمة، وكان المعنى أن العطية الجزيلة خير من العطية القليلة. قال: وهذا حث على المكارم بأوجز لفظ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله "ما أبقت غنى" أي ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله كمن أراد أن يتصدق بألف فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى، بخلاف ما لو أعطاها لرجل واحد. قال: وهو أولى من حمل اليد على الجارحة، لأن ذلك لا يستمر إذ فيمن يأخذ من هو خير عند الله ممن يعطي. قلت: التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الأخذ على الإطلاق. وقد روى اسحق في مسنده من طريق عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير إن حكيم بن حزام "قال: يا رسول الله، ما اليد العليا؟ قال: التي تعطي ولا تأخذ" فقوله ولا تأخذ صريح في أن الآخذة ليست بعليا والله أعلم.

وكل هذه التأويلات المتعسفة تضمحل عند الأحاديث المتقدمة المصرحة بالمراد، فأولى ما فسر الحديث بالحديث، ومحصل ما في الآثار المتقدمة أن أعلى الأيدي المنفقة، ثم المتعففة عن الآخذ، ثم الآخذة بغير سؤال. وأسفل الأيدي السائلة والمانعة والله أعلم. قال ابن عبد البر: وفي الحديث إباحة الكلام للخطيب بكل ما يصلح من موعظة وعلم وقربة. وفيه الحث على الإنفاق في وجوه الطاعة. وفيه تفضيل الغنى مع القيام بحقوقه على الفقر، لأن العطاء إنما يكون مع الغنى، وقد تقدم الخلاف في ذلك في حديث "ذهب أهل الدثور" في أواخر صفة الصلاة. وفيه كراهة السؤال والتنفير عنه، ومحله إذا لم تدع إليه ضرورة من خوف هلاك ونحوه. وقد روى الطبراني من حديث ابن عمر بإسناد فيه مقال مرفوعا "ما المعطي من سعة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجا" وسيأتي حديث حكيم مطولا في باب الاستعفاف عن المسألة وفيه بيان سببه إن شاء الله تعالى.
                                  وللحديث بقية..........



الكاتب: أ.د مصطفى السعدني
نشرت على الموقع بتاريخ: 16/07/2008