إيجار قديم ::
الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 12/07/2008
حين ترك قريته وحضر إلى القاهرة ليعمل في مصنع الحديد والصلب بحلوان ربما كان غاية أمله أن يجد غرفة فوق "سطوح" أي بيت قديم في حي شعبي, ولكن يبدو أن الحظ كان مواتيا حيث رأى رئيس الوردية أن عبد الدايم "حمار شغل", وأنه يطيع الأوامر بشكل حرفي, وليس له في السهر أو شرب الجوزة, تلك الأشياء التي اعتادها كثير من العاملين بالمصنع في ذلك الوقت حتى أنهكت قواهم, إضافة إلى ذلك أن ليست له أطماع كبيرة في مرتبه أو وظيفته, لذلك توسط له في استئجار شقة في حي مصر القديمة, وقد فرح عبد الدايم بشقته الجديدة القديمة, ولكنه لم يظهر فرحته خوفا من الحسد من ناحية ومن ناحية أخرى لأنه بطبيعته الجامدة لا يعرف كيف يعبر عن مشاعره في مثل هذه المواقف أو في غيرها, وادّعى بأنه لن يمكث فيها كثيرا فهي أكبر من احتياجاته, إذ ليس لديه أسرة كبيرة تملأ هذه الشقة غير زوجته وولديه الصغيرين, وكان دائما يتحدث عن نيته في الرجوع إلى قريته فور بلوغه سن المعاش ليبني بيتا صغيرا وسط القراريط البسيطة التي ورثها عن والده, وأن يعيش حياة هادئة فيما تبقى له من العمر, غير أن بعض زملائه في العمل كانوا يتعجبون من قوله خاصة وأنهم يعرفون أن عبد الدايم لا يحب قريته ولا يحب أهلها من الفلاحين ولا يحب غيرهم ولا يحب أحدا, وقد تمر سنوات دون أن يفكر في زيارة أقاربه هناك, بل ويتحاشى الحديث عنهم, وليس له أصدقاء من قريته (أو من غير قريته).
وأصبحت الشقة تشغل بال عبد الدايم أكثر من العمل ومن الناس, وكلما خرج منها أو عاد إليها وقف ليتأمل واجهة العمارة العتيقة بواجهتها الممتدة في الفضاء ونقوشها وبروزاتها الأثرية. وعلى الرغم من عدم معرفته بمعنى هذه النقوش أو تلك البروزات ولا بنوع طراز العمارة الكبيرة إلا أنه كان يشعر بالفخر أنها تشبه سرايات الباشوات التي عاش هو وأجداده ينظرون إليها بمزيج من الإعجاب والحسد والرهبة. وعلى الرغم من أن العمارة قديمة إلا أنها تحمل آثار عز قديم, فمدخلها هائل الارتفاع والاتساع ويحمل سقفه أعمدة رخامية ضخمة, ومطلع الدرج يسع لعشرة أشخاص يصعدون معا دون مشقة, وغرفها واسعة وأسقفها عالية, وطراز بنائها يوحي بأن من بناها كانت لديه وفرة من الوقت والمال وراحة البال واتساع الصدر فجعل فيها كل هذه الأعمدة والنقوش والبروزات والتماثيل بما يفوق ضرورة احتياجات المكان للسكنى. وكثيرا ما كان عبد الدايم يتعجب من وجود مثل هذه الأشياء في مكان معد أساسا للسكن وليس للسواح الأجانب, وقد قام بالفعل بتكسير بعض الأعمدة والتماثيل والنقوش البارزة الموجودة في شقته ليتمكن من وضع سرير أو كنبة أو كرسي في مكان يرغبه.
ولم يكن عبدالدايم يدرك معنى كلمة "إيجار قديم" حتى صدر قانون "الإيجار الجديد", والذي يحدد مدة معينة للإيجار يتم بعدها إخلاء الشقة أو تغيير بنود العقد طبقا للأسعار الجديدة, وهنا أدرك الرجل أنه يضع يده على ثروة هائلة, إذ بموجب العقد الذي معه يعتبر وكأنه مالك للشقة طوال عمره, وإيجارها لا يتعدى ثلاثة جنيهات يرميها لصاحب العمارة آخر كل شهر وحين يرفض الإيجار يودعه باسمه في المحكمة, ولا يستطيع أحد مهما علا أن يخرجه من هذه الشقة فالقانون معه. ولأول مرة في حياته يشعر بأنه يملك شيئا ثمينا بهذا الحجم وبهذه القيمة خاصة بعد أن عرض عليه صاحب العمارة إخلاء الشقة مقابل مبلغ كبير من المال وصل إلى مليون جنيه, وهذا مبلغ جديد جدا على سمع عبد الدايم وعلى تصوره للمال. وقد جعله هذا الشعور يصرف نظره عن العودة إلى القرية (تلك العودة التي كان يدّعيها ويشكك في مصداقيتها كثير ممن يعرفونه), خاصة وقد كبر ولديه وأصبح أحدهما يعمل بالتجارة والسمسرة في الحي, وصار وسيطا في أغلب عمليات البيع والشراء في المنطقة, وقد طلب هذا الابن من أبيه تخصيص غرفة من الشقة لتكون بمثابة مكتب سمسرة وغرفة أخرى لتكون مكتبا للاستيراد والتصدير, وتدفقت الأموال على أسرة عبد الدايم, وأيقنوا أن هذه الشقة كانت "وش السعد" عليهم, وما كان يؤرقهم إلا شيئان:
الأول, هو اتجاه الابن الأكبر للدروشة وزهده في الدنيا وجلوسه مع الدراويش حول مسجد الحسين أغلب الوقت, والثاني, هو أن هذه العمارة قديمة وثمة تلميحات بتفكير صاحبها في استصدار قرار إزالة لها وإعادة بنائها , وهذا يستلزم طرد السكان منها.
وعلى الرغم من هذين الشيئين المؤرقين إلا أن عبد الدايم كان يحاول أن يتناساهما ويعيش حياته بشكل سعيد, فاشترى جلابيب صوف وعباءة خليجية وطاقية شبيكة, وراح يعمل بالسمسرة في الحي مع ابنه, ويشتري بيوتا وأراضي حتى تضخمت ثروته وأصبح قادرا على أن يبني لنفسه بيتا مستقلا أو حتى قصرا يعيش فيه هو وأسرته ولكنه كان يرفض هذه الفكرة حرصا منه على الشقة التي رأى فيها أحلى أيامه وانفتحت له من خلالها أبواب "العز" و"السعد". وحاول صاحب العمارة أن يقنعه مرات ومرات بإخلاء الشقة مقابل زيادة "خلو الرجل" بشكل فلكي على أساس أن العمارة فعلا أصبحت آيلة للسقوط ولم يعد فيها سكان غير عبد الدايم وأسرته, إلا أنه رفض كل هذه المحاولات على الرغم من وجود تقارير هندسية تؤكد بأن العمارة على وشك الانهيار فعلا في أي لحظة, وراح من خلال علاقاته في مجلس المدينة يستصدر تقارير مضادة تفيد بأن حالة العمارة جيدة, ويحمل التقارير إلى ساحات المحاكم وهو يعلم أن الاستشكالات القضائية ستأخذ وقتا طويلا.
ولما ثبت أنه لن يترك الشقة طلبت منه رئاسة الحي السماح للعمال والمهندسين ليقوموا ببعض الإصلاحات والترميمات في الشقة فوافق على مضض, ولكن بعد فترة أحس بأنهم يتوسعون في الإصلاحات والترميمات أكثر من اللازم, وأحس أن مسألة الترميمات خدعة يراد بها طرده من الشقة فقام هو بطرد العمال والمهندسين, وأقنع رئاسة الحي أن الترميمات قد تمت وأن الشقة بحالة ممتازة.
ولم يعد عبد الدايم يخرج من الشقة خوفا من أن يداهمها صاحب العمارة أو أهل الحي أو مهندسو الحي خاصة وأن العمارة أصبحت تهدد ما حولها إذا سقطت فجأة, وظل سنوات يظهر فقط من "بلكونة" الشقة أو أحد شبابيكها يراقب حركة الناس في الشارع ويتوجس منهم خيفة, ويتوقع أن كل واحد منهم قادم لإخراجه من شقته, وكثيرا ما كان يظهر ممسكا ببندقية يصوبها نحو من يقترب من العمارة حتى أصبح الناس يخشون المرور من الشوارع المجاورة لها. ولما ازداد خوفه وترقبه استدعى عدد من شباب قريته وأعطى كل واحد منهم "نبوتا" ووزعهم على باب الشقة وسلم العمارة ومدخلها والشوارع المؤدية إليها, وطلب منهم البطش بكل من تسول له نفسه الاقتراب من الشقة أو حتى من العمارة, وعلى الرغم من تهافت صحة هؤلاء الشباب حيث أغلبهم مصاب بالبلهارسيا وأمراض الكبد المختلفة وسوء التغذية إلا أن عددهم وأصواتهم التي كانوا يصدرونها والأقنعة التي كانوا يلبسونها كل ذلك سبب رعبا لأهل الحي فلم يفكروا في الاقتراب منهم.
ولم يكتف عبد الدايم بذلك بل راح يستدعي كل من يعرفه من المحامين الضليعين في معرفة ثغرات القوانين لكي يدعموا موقفه القانوني في التمسك بإيجاره القديم الذي يتيح له الانتفاع بالشقة طوال حياته, وحين ذكرت كلمة "طوال حياته" راح القلق يساوره, إذ ماذا يكون الأمر لو أنه مات؟.. أيأخذون الشقة ويطردون ابنه وزوجته؟؟.. وصار هذا الخاطر يؤرقه ليل نهار, لذلك أصبح بقضي ساعات طويلة مع المحامين الذين يتوافدون على شقته يوميا ليبحثوا كيف ينتقل الإيجار القديم إلى أبنائه وأحفاده, فالشقة بسعر اليوم تساوي ملايين وليس من المعقول أن يفقد هذه الملايين بمجرد وفاته فهي حق لأولاده وأحفاده من بعده (كما يذكر دائما). واختلف المحامون, فمنهم من قال بأن من حق زوجته وابنه الإقامة في الشقة بعد موته دون تغيير العقد, ومنهم من قال بأن موقفهم قد يتغير إذا ثبت أن الابن غير مقيم بالشقة بشكل "دائم" أو أنه قد غير في بنية الشقة وطرق الانتفاع بها. وراحت كلمة "دائم" تدرو في رأس عبد الدايم, وأصبح يحذر ابنه من ترك الشقة لأي سبب من الأسباب حتى لا تأتي لجنة معاينة فلا تراه فيها, واقتنع الابن بذلك وراح يدير أعماله التجارية سرا من داخل الشقة حيث يتجمع أصدقاؤه وشركاؤه في المكتب الذي اقتطعوه من الشقة.
ومن طول الوقت وثبات الموقف كما هو اعتاد أهل الحي على هذا الوضع الغريب وكيفوا حياتهم عليه, كعادتهم, ولكن لوحظ منذ عدة أيام صدور رائحة كريهة جدا من ناحية الشقة, ولوحظ أيضا زيادة أعداد المحامين المتوافدين على الشقة, وعرف أهل الحي بعد محاولات مضنية أن عبد الدايم قد مات وأن زوجته وابنه يرفضون إخراج جثمانه من الشقة خوفا من فقدانهم حق الإقامة فيها بعد موته, وأنهم يتباحثون مع المحامين حول الطريقة التي تتيح للزوجة والابن حق الانتفاع "الدائم" بالشقة على الرغم من موت "الأب" صاحب العقد.
واستمر هذا الوضع عدة أسابيع حتى أصبح أهل الحي لا يطيقون الرائحة الصادرة من شقة عبد الدايم, وحاولوا إقناع الزوجة والابن بضرورة دفن الجثة إلا أنهم رفضوا بإصرار, فما زالوا يحتاجون لبعض الوقت لضبط الأمور القانونية التي تتيح لهم نقل عقد الإيجار القديم إلى الزوجة أو الابن, ولكن أهل الحي لم يحتملوا هذا الوضع على الرغم من صبرهم الطويل الذي اشتهروا به وتسليمهم للأمر الواقع "دائما", وقد أفتى لهم بعض الشيوخ بضرورة دفن جثمان الميت حتى ضد إرادة أهله, وهنا تجمعوا, لأول مرة منذ زمن بعيد, واقتحموا باب الشقة ووجدوا منظرا عجيبا, فقد تمدد جسد عبد الدايم في كل أرجاء الشقة الواسعة, حيث كان رأسه الضخم العنيد وجزعه يملآن الصالة بينما امتد ذراعاه وساقاه كل في غرفة من الغرف, ليس هذا فقط, بل لقد تحول جسده إلى ما يشبه شجرة قديمة متعفنة لها جذور تمتد في كل مكان بالشقة متشبثة بأي شيء يمكن التشبث به, ووجدوا زوجته وابنه منزوين في ركن من الشقة ممسكين بعقد الإيجار القديم.
وهنا دخل أحد المحامين الذين كان يستخدمهم عبد الدايم, وأظهر تنازلا عن العقد بإمضاء وبصمة عبد الدايم وبموافقة صاحب العمارة, وبموجب هذا التنازل تنتقل الشقة إلى المحامي بإيجارها القديم مقابل دفع مبلغ لصاحب العمارة, واندفع أهل الحي, كعادتهم في مثل هذه المناسبة وفي غيرها, وحملوا المحامي الفائز على أعناقهم وطافوا به شوارع مصر القديمة وهو يلوح بعقد الإيجار القديم بعد تعديله.
واقرأ أيضًا: التحليل النفسي لشخصية صدام حسين / بائع الورد : قراءة في شخصية عمرو خالد / أنماط التدين من منظور نفسي إسلامي / برنامج علاجي لحالات الشذوذ الجنسي / قلق الامتحانات / فن المذاكرة / حيرة مريض نفسي بين الطب والغيب / المازوخية / الصحة النفسية للمرأة / نوبات الهلع عند المرأه / الطفل البَكاء / المرأة في القرآن والسنة / صلاح جاهين وثنائية الوجدان / الصمت الزوجي / سعاد حسنى والجرح النرجسي / البراجماتيزم ... دين أمريكا الجديد / شخصيةالطاغية / العلاج بالقرآن من راحة سلبية إلى طمأنينة وجودية / الثانوية العامة .... مرحلة دراسية أم أزمة نمو؟ / الكــــــــــذب / كيف نمحو أميتنا التربوية؟ / سيكولوجية التبني.. الكفالة.. الأسرة البديلة / المكتئب النعّاب / سيكولوجية التعذيب / اضطراب العناد الشارد / الحوار وقاية من العنف / النضج الوجداني / الدردشة الالكترونية وحوار الأعماق/ سيكولوجية الاستبداد (الأخير) / السادو- ماسوشية (sado-masochism) / الجوانب النفسية للعقم عند النساء / الدلالات النفسية لزواج الأمير تشارلز من عشيقته / ستار أكاديمي.. وإزاحة الستر / العلاقة الحميمة بين الجسد والروح (4) / ضرب الزوجات للأزواج( العنف العكسي ) / فن اختيار شريك الحياة (5) / الشخبطة السياسية / الزوج المسافر(4) / قادة العالم واضطرابات الشخصية(2) / قراءة في شخصية زويل(2) / إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ(3) / سيكولوجية الرجل / أزمة النمو في شعر عبد الرحمن الأبنودي(7) / هل فعلها المجنون في بني مزار / ظاهرة العنف في المجتمع المصري(3) / بين الإبداع والابتداع / الذوق والجمال في شخصية المسلم المعاصر / الجانب الأخلاقى فى شخصية المسلم المعاصر / جمال حمدان: المحنة ... العزلة ... العبقرية1 / أسباب فشل الحياة الزوجية / كيف تعاملين زوجك / مؤتمر العلاج بالقرآن بين الدين والطب / الدوافع ودورها في النجاح والتفوق / العادة السرية بين الطب والدين(2) / حين يصل الفساد لمواطن العفة(1) / المعارضة.. من النفس إلى الكون(2) / الباشا والخرسيس / الجنسية المثلية بين الوصم والتفاخر / الزملكاوية! / الانتصار البديل في الساحة الخضراء / التحول الجنسي بين الطب والدين / شيزوفرينيا / الفهلوة اللغوية العصبية / من المحلة إلى مارينا وبالعكس.
الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 12/07/2008
|
|