قانون الطوارئ الممتد والمتمدد ::
الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 30/07/2008
قانون الطوارئ الممتد والمتمدد (أن ترى الإشارة حمراء دائما)
حين عدت من الخارج عام 1997 ظللت فترة أعاني من إشارات المرور في مصر, فقد كنت تعودت في سنوات الغربة أن أقف فورا حين ألمح الإشارة حمراء, وحين فعلت ذلك في شوارع القاهرة كادت تحدث أزمة في كثير من المرات حيث كنت أتوقف أمام الإشارة الحمراء في حين أن الجميع من حولي يتجاوزونها, وأسمع من خلفي "كلاكسات" السيارات بتنغيمات صارخة وممتدة مع تعليقات ساخرة تشير جميعها إلى سذاجتي وقلة خبرتي بالقيادة وبالمرور في مصر. وبعد فترة تعلمت أنه في مصر ليست هناك علاقة مؤكدة بين الإشارة الحمراء وبين السير أو التوقف, وإنما هي إشارة من يد الجندي (الذي ضربت رأسه أشعة الشمس وامتلأ صدره بعادم السيارات) تحدد لك إذا ما كنت ستتحرك أم لا, ونسيت طبعا مع الوقت الإشارات الأوتوماتيكية التي تنظم المرور في الخارج بسلاسة دون أن ترى عسكري المرور, ومع ذلك فهو يظهر وكأنه خرج من تحت الأرض حين تحدث أي مشكلة فيتخذ الإجراءات بسرعة وحزم ولا يمكن أبدا إثناؤه عن قراره أو شراء ذمته أو استعطافه أو الضغط عليه, فكأنه مثل الإشارة المرورية الأوتوماتيكية المبرمجة.
وبعد فترة من التحسر والألم على الانضباط المروري في بلاد الدنيا الأخرى, بدأت أتأقلم مع الوضع الجديد (القديم), وبدأت أقتنع بأن الإشارات الأوتوماتيكية لا تصلح في مصر حيث لن تقدر بالضبط أن هذا الاتجاه مزدحم أكثر من ذاك فتفتح هنا مدة أكثر نسبيا, ولكن العسكري المروري على الرغم من أن الشمس تضرب رأسه فيقف تائها حائرا منهكا إلا أنه من وقت لآخر ينتبه إلى الشوارع من حوله ويفتح الإشارة حسب درجة الضغط واتجاهه. وبدأت أتعلم (بعد أن كنت نسيت) بأن عسكري المرور المصري لديه مرونة هائلة وطيبة أحيانا كثيرة فهو يمكن استعطافه ويمكن مداعبته ويمكن التفاهم معه, ومع هذا فهو يملك إيقافك ومحاسبتك إذا تجاوزت والإشارة حمراء وساعتها لن تستطيع أن تفتح فمك فالقانون قانون واللون الأحمر هو اللون الأحمر له معنى واحد في كل الدنيا, وهنا تقع في ورطة: أأمشي تبعا للإشارة فأربك المرور وأسمع كلاما لا يعجبني أم أقطع الإشارة وهي حمراء بناءا على إشارة يد عسكري المرور, أم أفعل ماذا؟!!.
آسف للإطالة في هذه المقدمة, ولكنها ضرورية لكي تفهم فلسفة قانون الطوارئ, فالسلطة هنا تشعل اللمبة الحمراء منذ 27 عاما وستمد اشتعالها إلى ما شاء الله, وهي تقول لك لا تقلق واعبر الإشارة فلسنا نقصدك أنت بهذه الإشارة نحن نقصد فقط الإرهابيين والعابثين بأمن الوطن والمهددين لاستقراره والمتربصين به, ثم فجأة ترى من حولك أناسا يختطفون ويعتقلون ويموتون تحت وطأة التعذيب وتحت غطاء قانون الطوارئ فتقلق وتنزعج وتطالب بتغيير الإشارة طبقا لمنطق واضح ومحدد حتى تؤمن على نفسك وعلى من تحب, ولكن الشرطي يقول لك: اطمئن لست أنت المعني بذلك, فيزداد قلقك لأنك رأيت بعينك أناس ظنوا أنهم غير معنيين ومع ذلك أصبحوا معنيين في لحظة ما وفي موقف ما طبقا لتقديرات الشرطي.
وهنا تتحول السلطة من كائن منطقي نعرف ما يغضبه وما لا يغضبه إلى كائن غير منطقي يرضى ويغضب ويعطي ويمنع طبقا لمعايير خاصة به هو, لا تنضبط بالقوانين المعروفة أو المعتادة, وبهذا تصبح سلامتك مرهونة برأي الشرطي فيك ورضاه عنك.
حالة الطوارئ من النفس إلى المجتمع ربما تسألني: وما علاقتك بقانون الطوارئ؟.. أقول لك لقد سألت نفسي هذا السؤال حين اتصل بي أحد الصحفيين يسألني: ما هو التحليل النفسي لإعلان حالة الطوارئ طوال هذه السنين (سبعة وعشرون سنة وما زالت ممتدة إلى حيث لا ندري فنحن لا نعرف بالضبط لماذا تعلن ولماذا تلغى وكيف تلغى ومن الذي سيلغيها؟).. وقد "استسخفت" هذا السؤال منه أو استهجنته أو "استغبيته" إذ كيف نحلل حالة الطوارئ نفسيا؟.. ومالنا نحن كأطباء بحالة الطوارئ بمعناها السياسي؟.. ألا يكفينا طوارئنا الطبية التي تشغلنا ليل نهار؟.. وهنا بدأ يحصل الربط في عقلي بين الطوارئ بمعناها السياسي والاجتماعي والطوارئ بمعناها الطبي, وبدأ الحديث ينساب تحت إلحاح أسئلة الصحفي المثابر والمشاكس, وعلى الرغم من قصر المكالمة, وعلى الرغم من شكي في أنه سوف يكتب ما قلت فقد اعتدت في مثل هذه الظروف أن يسألني الصحفي عن شيء وأرد أنا بما تيسر ثم أفاجأ به وقد كتب ما يريد هو أن يقول, ولكنه فقط وضع اسمي ليمرر به ما يشاء من أفكار, وقد سبب لي هذا ضيقا وحرجا في كثير من الأوقات. على الرغم من كل هذا راحت تداعيات كثيرة تدور برأسي حول معنى الطوارئ في النفس وفي المجتمع وفي الحياة, وإليك بعض هذه التداعيات ولك أن تقبلها أو ترفضها أو تعدلها أو تلغيها كيفما شئت, فما هي إلا اجتهادات شخصية من عقل يحب هذا الوطن وأهله بكل طوائفه وطبقاته ولا تحكمه عقلية الموالاة أو المعارضة.
إن الجسد الحي تحكمه قوانين ثابتة ومرنة طوال الوقت, ولكن هناك أوقات تتغير الأحوال ويفاجأ الجسد بظروف مغايرة تستدعي حالة من الطوارئ لمواجهتها وهنا يتغير الإيقاع ويتم سحب كميات كبيرة من الدم من الأطراف وذلك لضخها في العضلات التي يحتاجها الجسم لعمليات الكر والفر, ولهذا يظهر الوجه والأطراف في حالة شحوب, ويتم إفراز مواد مثل الأدرينالين والنورأدرينالين والكورتيزول, كل هذا بهدف مواجهة حالة الطوارئ. أما جهاز المناعة فإنه يقوى في مرحلة من المراحل, ولكنه يضعف إذا استمرت حالة الطوارئ أكثر من اللازم. وفي ظروف بعينها قد يقوى جهاز المناعة لدرجة أنه يتوحش ويبدأ في مهاجمة عوامل الغزو الخارجي, ولكنه نظرا لتوحشه يهاجم أيضا أجزاء من الجسد نفسه (فكرة النيران الصديقة), ومن هنا ينشأ الروماتيزم والروماتويد نتيجة مهاجمة جهاز المناعة لمفاصل الجسد وبعض أجزائه الأخرى.
وقد تختفي الظروف التي أدت إلى التغييرات الطارئة في الجسد ولكن عمليات الطوارئ تظل مستمرة فيؤدي ذلك إلى تراكم مواد كيميائية سامة للجسم وإلى توحش أجهزة المقاومة فتتصلب الشرايين وتتصلب المفاصل ويرهق الكبد وترهق الكليتين وتتقرح المعدة ويضطرب إيقاع القلب, ويتعرض الجسد لجلطات تسد شرايينه وربما تؤدي إلى إحداث حالات من الشلل هنا أو هناك. والسؤال الآن: ما الذي يجعل حالة الطوارئ تستمر في الجسد على الرغم من انتهائها في الواقع؟.. والجواب هنا في الرأس, وبالتحديد في المخ, حيث يستمر في بث إشارات للجسد بأن حالة الطوارئ مستمرة فيطيع الجسد الأوامر, ويرتب أولوياته طبقا لاحتياجات الطوارئ فيسحب الدم من الجسم ليوفره للعضلات ويعيد ترتيب الطاقة, ويؤجل مطالب كثيرة لأجهزة الجسم على أساس أنه "لا شيء يعلو فوق صوت المعركة" وأننا الآن في حالة دفاع عن البقاء فلا يصح أن نتحدث في أشياء تبدو كمالية أو ثانوية أو أقل أهمية في معركة البقاء.
ثم يعاود السؤال إلحاحه بشكل آخر: وما الذي يجعل المخ يستمر في إضاءة اللمبة الحمراء ودق صفارة الإنذار أكثر مما يجب؟.. والإجابة هنا هي أن المخ لديه مشكلة في سلاح الإشارة والتنبيه حيث يرى أخطارا هائلة في أشياء هي في الأصل طبيعية ويمكن التعامل معها بالقوانين العادية للجسد, ولهذا يبالغ في التعامل بحذر وشك وسوء طوية خاصة إذا تمت برمجة هذا المخ في ظروف مرضية جعلته شديد الإحساس بالخوف من أي شاردة وواردة, ولهذا يبالغ في الأخذ بالأحوط.. واستمرار حالة الطوارئ –من هذا المنظور الطوارئ- تمثل الأحوط حتى ولو أدت إلى هلاك الجسم وتأجيل أو إلغاء احتياجاته الأخرى أو أدت إلى تيبس مفاصله وركود عملياته الحيوية الأخرى لحساب احتياجات الطوارئ. والجانب النفسي وراء هذه البرمجة الخاطئة يكمن في مشاعر عدوان داخلية يسقطها المخ على الواقع الخارجي ويستقبلها كعوامل تهديد قادمة من الخارج فينشط الهاجس الأمني وتتحفز آليات الهجوم فتصطف الخلايا المقاومة وتنتشر في أماكن توقع الخطر بكثافة أكثر من اللازم (إذ القانون هنا أن الاحتياط واجب) ثم تنقض على أي نبضة أو حركة لتشلها في الحال مهما كانت النتائج. وطالما توجد مشاعر العدوان بالداخل وتؤدي إلى إحساس مزمن بعدم الأمان فلا سبيل إلى إطفاء اللمبة الحمراء ولا سبيل إلى إيقاف صفارة الإنذار حيث ستوجد مبررات خارجية لاستمرار ذلك.
وإذا انتقلنا من الجسد إلى النفس نجد نموذجا مشابها.. فهناك بعض الناس ينتابهم اضطراب مفاجئ في بعض الوظائف النفسية مما يستدعي عمل أشياء لمواجهة هذا الوضع فيعطى المريض علاجا طبيا لضبط الوظائف النفسية, وقد يؤدي العلاج إلى فرط الضبط في مرحلة ما وذلك بهدف الحفاظ على سلامة الشخص وسلامة من حوله, وقد يكون هذا مقبولا بقدر لفترة ما, ولكن بعض الأطباء النفسانيين قد يشعرون بالأمان في الاستمرار في فرط الضبط فيستخدمون علاجات كيميائية قامعة أو مثبطة لفترات طويلة, ومبررهم في ذلك هو الوقاية من نوبات اضطراب محتملة, وقد تستمر هذه الاحتياطات المفرطة لسنوات طويلة يفقد فيها المريض نبضه الحيوي ويفقد تموجاته المزاجية الطبيعية ويفقد جولات فكره وسبحات روحه مقابل الحفاظ على حالة استقرار جامدة ومتجمدة وممتدة, والطبيب هنا قد يشعر بالأمان وبالفخر إذ هو قد نجح في قمع النوبات المرضية لسنوات طويلة, ولكنه لا يدري أنه قمع أيضا النوبات غير المرضية, وأنه مثل الدواء الذي يعطى لمهاجمة الخلايا السرطانية فيهاجم معها كل الخلايا بلا تمييز, فهو وإن أوقف (أو تخيل أنه أوقف) نمو الخلايا السرطانية إلا أنه أو قف معها نمو كل الخلايا الهامة.
أما الطبيب النفسي الواثق من مهنته والمواكب لحركة مريضه فهو يعلو ويهبط بجرعة الدواء بما يسمح باستمرار النبض الحيوي واستمرا المسيرة الإنسانية المتطورة لمريضه, ولا يزعجه جنوح بعض الوظائف ما لم يكن فيها تهديدا لسلامة وسلام المريض وبيئته, وقد يغامر بإيقاف العلاج لفترات لإعطاء الفرصة للفطرة الطبيعية أن تعود, وقد يكون في ذلك مغامرة فيها احتمالات عودة بعض الأعراض, ولكن الأمر يستحق ذلك من وجهة النظر الإنسانية الأشمل. ومن فضل الله أن العلماء والمصلحين والأنبياء قد أفلتوا من مقصلة الأطباء النفسيين الخائفين والمهتمين بالتسكين الكيميائي المفرط لكل ما هو مختلف عن السائد من الأفكار والتوجهات والمشاعر, وإلا لتعرضوا لمحاولات إطفاء نبض إبداعهم وإيقاف حركة تطورهم, ولدفعت البشرية ثمنا هائلا لذلك.
بعد هذا الاستعراض البيولوجي والنفسي, هل يمكن تعميم هذه النتائج على الوضع السياسي والاجتماعي بشكل عام وفي المجتمع المصري بشكل خاص؟؟... قد يغري الأمر بإجراء مقابلات بين ما هو بيولوجي ونفسي وبين ما هو سياسي واجتماعي, وذلك بسبب مساحات التشابه وبسبب النظرية التي تقول بأن قوانين الحياة واحدة, تلك التي تحكم نشاط الخلية وتلك التي تحكم حركة الكون في أوسع مداراته, ولكن هناك آراء أخرى يجب احترامها تحذر من الربط بين قوانين النفس وقوانين المجتمع الأوسع ودليلها على ذلك هو وجود ما يسمى بعلم النفس ووجود ما يسمى بعلم الاجتماع, ولكل قوانينه وآلياته التي تحكمه. إذن لك الحق عزيزي القارئ في أن تجري بعض التعميمات أو المناظرات أو ترفضها, ولكن فقط مارس فريضة التفكير فيما يجري في جسدك ونفسك ومجتمعك بل وكونك الأوسع.
الحياة في الخنادق أكثر أمنا: إذن دعونا نخرج من دائرتي الجسد والنفس لنجول في دائرة المجتمع, فحين وافق أعضاء مجلس الشعب "الموقر من الحكومة" على مد قانون الطوارئ لمدة عامين (هو نفس المجلس الذي وافق على غلاء الأسعار وعلى تفصيل الدستور ومستعد للموافقة على استمرار إمداد إسرائيل بالغاز الطبيعي بسعر مدعم ولمدة 15 عام), رحت أتابع آراء المدافعين عن مد هذا القانون الممتد والمتمدد طولا وعرضا وعمقا على أرض مصر دون أن يقول له أحد "توقف", وذلك إيمانا مني باحترام الرأي الآخر حتى وإن خالفته, ووجدت أن هذا الرأي الآخر المنشور والمنتشر والمستنشر في الصحف القومية السيارة يدور حول معنى بسيط أوجزه لك عزيزي القارئ في الصورة التالية حتى تعلم أن وراء كل شيء منطق: تخيل أن صفارة الإنذار راحت تعلن عن وقوع غارة فنزل الناس إلى الخنادق والبدرومات اتقاء لشر الغارة وبأمر من السلطات, ولكن الناس استبطئوا صفارة الأمان حتى يخرجوا, واستمرت صفارة الخطر تعمل بلا انقطاع لمدة 27 عاما وهي ما زالت تعمل, وكلما حاول أحد من الناس أن يخرج من الخندق ليسأل عسكري الدورية: متى تكف صفارة الإنذار كي نخرج ونمارس أعمالنا ونرعى مصالحنا, صاح فيه العسكري قائلا: عد إلى مكانك فلا زال الخطر مستمرا. ثم يرسل العسكري من وقت لآخر من يقنع الناس بأن بقاءهم في الخنادق أكثر أمانا من وجودهم على سطح الأرض فالخطر متربص دائما, والبلد محاطة بالمتآمرين, بل إن المتآمرين داخل البلد نفسها. وشيئا فشيئا تعود الناس الحياة في الخنادق وبدءوا يمارسون شئونهم في حدود ما يسمح به العسكري, وهو ينظر إليهم بشك ويتوقع الغدر منهم أو من بعضهم في أي لحظة فيقرر بقاءهم في هذا الحيز الضيق مدعيا بأنه يحافظ على حياتهم. وقد تكون الحياة في الخنادق فعلا أكثر أمنا ولكنها ليست أكثر سعادة. الأمان الزائد للحكومة ولا أمان لأعدائها: لقد أدى هذا الوضع الخندقي أمانا هائلا للحكومة التي تعيش فوق سطح الأرض وحدها, وأعفاها من سماع صراخ وأنين ومشاغبات الشعب "النمرود" والمتمرد, فاسترخت الحكومة ولم تعد تشغل بالها بأي أعمال سياسية بهدف إرضاء أحد أو رعاية أحد أو استمالة أحد أو إقناع أحد, فالأمر في النهاية تحت السيطرة الأمنية, وإذا ظهرت أي بالدرة لخروج أحد من هذا الشعب الخندقي, فإن الحكومة تضع جدارا عازلا من سيارات الأمن المركزي الزرقاء مدعومة بصفوف متراصة من الخوذات والدروع السوداء, ويظل هذا الاستعراض قائما في الشوارع والميادين إلى أن يعود المتمردون إلى خنادقهم بجوار إخوتهم القابعين في ظلام الخندق حتى فقدت عيونهم القدرة على الرؤية في الضوء. وانتشرت الأمراض والأوبئة داخل الخنادق وخارجها حتى زكمت روائحها الأنوف, ولكن هذا لم يثن عزم الحكومة في استبقاء وضع الطوارئ حيث يحقق لها أمانا أبديا ومطلقا, خاصة وأن تلك الحكومة لديها هاجس أمني مزمن, ولديها مخاوف لا يبددها مائة قانون طوارئ أو قانون إرهاب, إضافة إلى ما لديها من شك وسوء ظن بالشعب المصري النمرود والمتمرد, ولديها فلسفة خاصة في الحكم تعلمتها على مدى السنين وهي أن الشعب المصري لابد وأن يساق بالعصي وأن يحكم بالكرباج (هي نفس الصورة لدى المملوكي القديم والباشا التركي), وأن من يتحدثون عن الحرية لهذا الشعب لا يعلمون أنه شعب له خصوصيته, وأن حكامه أدرى به وبكيفية إدارته وحكمه. وهناك نظريات في علم النفس السياسي مفادها أن أي حكومة في الدنيا تشعر بالأمان الزائد تفقد مع الوقت دافعها وحماسها لإرضاء شعبها ورعايته, فهي لا تحتاج لرضاه وليست معنية برأيه أصلا, فهي ليست مضطرة لأن تسلك سلوكا تلاؤميً تسعى فيه إلى تحسس نبض شعبها أو استرضاؤه أو إقناعه أو التحاور معه. وحين يزول الخوف تماما لدى الحكومة, ويحول الجدار الأمني العازل دون وصول النبضات أو الاحتجاجات أو التهديدات الشعبية فإن السلطة تعمل في صناديق مغلقة تعتقد أنها آمنة, وتلك الصناديق تحجب عنها الضغط الشعبي فتفعل ما تشاء دون الحاجة إلى استشارته أو انتظار موافقته.
حالة الخصاء العام : ولمزيد من الأمان المطلوب قد يتطلب الأمر قتل الذكور الذين يولدون في الخندق, وتجفيف الأنهار حتى لا يوضع طفل في التابوت ويلقى في اليم فينجو من البطش, ثم إخصاء كل الرجال حتى نضمن ضبط النسل الشعبي المتزايد. ولما كانت النساء قد نجت وأصبحت في حماية المجلس القومي للمرأة الحديدية فقد انتقلت المرأة من عصر التحرير إلى عصر التمكين إلى عصر التوحش, وطالت قامتها حتى لم تعد ترى الرجال المخصيين المتآكلين من حولها, وازدادت نسبة العنوسة حيث لم تعد المرأة تجد رجلا تتزوجه. وظهر فرويد يتحدث عن عقدة أوديب وعن خوف الأبناء من آبائهم من أن يجروا لهم عملية خصاء نظرا لما يحملونه من مشاعر مرفوضة تجاه أمهاتهم, وهنا زاد الحديث عن الختان بصورة غير مسبوقة, وتم منع ختان الإناث وزاد التأكيد على ختان الذكور, وخوفا من أن تتوحش النساء تنادى البعض ممن علا صوتهم بتغطيتهن غطاءا شاملا لا يدع شيئا ظاهرا وخاصة العينين فهما محل الرؤية والفتنة. وهرب بعض الذكور من هذا الجحيم بأن وضعوا أنفسهم في توابيت بحرية تنقلهم إلى الشاطئ الآخر فنجا بعضهم وغرق البعض الآخر وما زالت محاولات الهروب مستمرة.
وبعض من هربوا نجحوا هناك ولمع نجمهم, وجاءوا يدعون أهليهم للنجاة ولكن أحدا لم يسمعهم, وراح السحرة يمارسون سحرهم ولم يستجيبوا لدعوة يوم الزينة فقد تعلموا من دروس الماضي, فوسعوا الساحة لثعابينهم حتى يخيل للناس أنها تسعى, وسدوا الطريق على أي ثعبان حقيقي يلقف ما صنعوا. وظهر فرويد مرة أخرى لينصحهم بقتل أي ثعبان حقيقي حيث أنه رمز لعضو الخصوبة في الرجل, وهو مهدد لحالة الأمان السائدة. إذا لم تكن قد فهمت شيئا من هذه الفقرة فهذا خير لي ولك عسى أن ينفعنا (عدم الفهم) أو نتخذه ردءا في وقت الخطوب.
حالة الارتخاء العام: وقد أدت حالة الخندقة الطويلة والممتدة مع سماع صفارة الإنذار الممتدة مع رؤية الإشارة الحمراء الممتدة, مع الظلام الدامس في الخندق أغلب الوقت, مع غياب الشمس المتعمد عن جنبات الخندق, مع صيحات الجنود والجمود, وفرق مكافحة الشغب ومكافحة الشعب ومكافحة الحياة, كل هذا أدى إلى حالة من الارتخاء العام تقطعه رعشات فئوية ضعيفة ومتقطعة هنا أو هناك (يحسبها الظمآن حركة) ما تلبث أن تهدأ أو يتم تهدئتها بمزيد من الضغط على العصب الذي مازال ينتفض. وحاول وحيد حامد فهم أو تفهيم هذه الظاهرة الجديدة من خلال فيلم النوم في العسل, ولكن انقطاع الكهرباء داخل الخندق وقضاء الناس أكثر وقتهم نياما جعلهم لا يشاهدون الفيلم, ولا يعرفون ما معنى العسل, وراحوا يبحثون عن قراطيس عند العطار وحبوب عند الصيدلي لعلها تحدث لهم شيئا مما كان معتادا لدى آبائهم الأولين, وزادت قيمة المنشطات الجنسية حتى وصلت إلى عشرة مليارات جنيه في السنة على أقل تقدير يستهلكها الشعب المصري للإبقاء قدر الإمكان على الحد الأدنى من ذكورته. وتستمر مسيرة الارتخاء العام لتتلاقى مع حالة الخصاء العام مع قتل الذكور من أهل الخندق حتى لا يخرج منهم موسى وبيده عصا تلقف ما صنع العسكر والسحرة خارج الخندق أو فوقه.
والارتخاء العام لم يحدث في يوم وليلة, وإنما تراكم عبر سنين قانون الطوارئ الطويلة حيث اعتاد الناس أن من تظهر عليه بادرة من رفع الرأس تجرى له عملية ردع خاص لكي يستفاد منه في الردع العام, ومع تكرار الردع العام تحول الأمر إلى كبت عام, والكبت درجة أعمق من كل ما سبق حيث أنه عملية تجري لا شعوريا فالشخص المكبوت لا يعرف ماذا يريد ولا ماذا ينقصه ولا ماذا يضره لذلك تراه مبتسما رغم الكوارث والخطوب والمحن, ولكي يتحرك أو يفهم فهو يحتاج للوصول لمحتوى اللاشعور لديه, وهذا أمر أقرب إلى المحال إلا من خلال الأحلام أو الجنون, وحتى إذا رأى نفسه في الحلم يفعل شيئا فسيظهر الشيخ "س" على شاشة الفضائحيات مظهرا وقارا مصطنعا وبجانبه فتاة ليست حسناء لكي يفبرك الحلم ويزيف الوعي بتفسير تخديري ملفق ومحبوك, أما إذا حدث الجنون فشركات الدواء ومعها الأطباء الكيميائيون سيقومون بمهمة القمع الكيميائي لنبض الجنون وهمس الجنون ومعهما نبض الحياة وحركة التطور.
اللامبالاة اللذيذة: ونظرا للتضخم والتوحش في جهاز المناعة وانتشار كرات الدم البيضاء وعربات الأمن الزرقاء وخوذات الجند السوداء , ونظرا لأن الحرية أصبحت في يد هؤلاء يمنحونها من يشاءون ويحجبونها عمن يشاءون طبقا لمعاييرهم وتقديراتهم الخاصة جدا والسرية جدا جدا عن الأمن والسلامة فقد انحصر المواطن المذعور المرتخي في ركن لقمة العيش وتقلصت احتياجاته (أو قلصت) في الحصول على عشرة أرغفة في طابور عيش بطول سنوات الطوارئ , وتقلص وجوده في نطاق الاحتياجات البيولوجية الضرورية لبقاء نباتي بدائي شديد الذاتية والأنوية. أما النخبة فقد تم احتواء بعضها , وإغواء البعض الآخر, واغتصاب فريق ثالث, والتحرش بفريق رابع, ثم بقي الفريق الخامس ليقف في طابور طويل (أيضا بطول سنوات الطوارئ) يستخدم في الإعلام للترويج لأزهى عصور الحرية والديمقراطية وليدافع في برامج تليفزيونية عن غلاء الأسعار وعن صداقتنا لإسرائيل وعن ولائنا لأمريكا وعن خطورة إيران وتركيا وسوريا وحماس وحزب الله وحزب الغد على الأمن القومي المصري والعربي, وعن مؤامرات المعارضين الذين يستغلون موجة الغلاء العالمية لتسخين أهل الخندق ومحاولة إخراجهم من القمقم الذي عاشوا فيه سنينا حتى ألفوه , وأصبح خروجهم منه مهددا لوجودهم . ومن لم يطفأ وعيه بكل الوسائل السابقة فعليه بالبانجو والحشيش يدغدغان مشاعره فيشعر مع الوقت أن لا شيء يستحق القلق أو الانشغال وأن الحياة على المقاهي (المنتشرة بكثافة غير معهودة في جنبات الخندق) أفضل بكثير من الحياة أمام ماكينات المصانع أو في المزارع تحت وطأة الشمس المحرقة.
ولكي تستمتع بحالة اللاوعي اللذيذة أكثر فعليك بمواقع الإنترنت, وما هي إلا ثلاثة حروف تكتبها سواء بالإنجليزية أو العربية حتى تنفتح لك آفاقا من المتعة واللذة لم تعهدها ولم يعهدها آباؤك وأجدادك من قبل, وسوف تجلس مشدوها فاغر الفم أمام ما تراه, ويمكنك قضاء أوقات طويلة جدا دون أي ملل, وهذا يعفيك تماما من قراءة الصحف أو متابعة الأخبار المحزنة والمقلقة, أو البحث عن عمل أو شقة أو قيمة أو معنى. وإذا كنت من محبي اللهو البرئ فأسهل لك أن تضغط مفتاح التليفزيون وتتجول بين الفضائيات لتقضي ساعات طوال ممدا على الأريكة (خير لك من أن تتمدد في أماكن أخرى) مستمتعا بما ترى وتسمع وتشاهد, مع الوعد بالمزيد من الجديد والمشوق. ومع كل هذه المتع ربما لا تحتاج لأن تتزوج وتتحمل المسئولية, وإذا احتجت شيئا حيا من لحم ودم ففتيات اليوم أكثر كرما من سابقيهم ولا يشترطون علاقات دائمة. كل هذا يعفيك من الحديث عن الطوارئ وعن غيرها فأنت تعلم أن رأيك لن يقدم أو يؤخر فاحتفظ به لنفسك لو سمحت وخذ العبرة ممن قبلك حتى لا تأخذها من نفسك. حالة الانطفاء العام: وجو الخندق المظلم مع أصوات زمجرة العسكر خارجه وعربات الأمن المركزي التي تحجب ضوء الشمس, وأصوات المخطوفين في جنح قانون الطوارئ, كل هذا وغيره أطفأ جذوة الإبداع, وأدى إلى إخماد النبض الحيوي للناس وخاصة المبدعين نظرا لحساسيتهم الخاصة وعدم قدرتهم على مواجهة ضغوط قانون الطوارئ وتداعياته وتأثيراته وتحذيراته, فكان أن وصل المتخندقون إلى حالة من الركود النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والديني, حالة يحسبها الحكام استقرارا حتى إذا بلغوها لم يجدوها كذلك ووجدوا الاستبداد خلفها. وتتراكم موجات الفقر العام وتجري وراء موجات الإحباط العام والغضب العام وبيع القطاع العام والتضحية بالصالح العام حتى نصل إلى شاطئ اليأس العام, وهنا لابد من حيلة دفاعية تخلص المتخندقين من الألم العام, وليس غير الكبت يدفع بكل هذه المشاعر السلبية إلى غياهب اللاشعور, ثم يتوحد المتخندق مع المعتدي (وهذه وسيلة دفاعية أخرى), وهنا تأتي النصيحة بالانضمام للحزب الأوحد, سفينة النجاة الحكومية في زمن الطوفان, وهناك تجد المصالح تتحقق والمكاسب تترى, وتتعلم كل المهارات الحياتية المصرية الحديثة من خلال دورات مجانية يتخرج منها المنتفعون ليشكلوا جدارا حزبيا عازلا يحول بين مصر وبين التحول الديمقراطي والحياة السليمة, ويشكل أغلبية ميكانيكية تسهل مرور أصعب القرارات والصفقات من خلال مجلس الحكومة (وهو ما كان يعرف بمجلس الشعب سابقا حين كان الشعب ينتخبه فعلا). ويتراجع الدور المحلي والدور الإقليمي والدور العالمي, ويغطي الدخان على الصورة فلا يستطيع صلاح جاهين أو عبد الحليم حافظ أن يأخذا لنا صورة, وفي هذا الظلام كثرت الحفر والمطبات, وكثر خفافيش الليل, وترعرع اللصوص, وانتشرت الحيات والعقارب, وضاع الطريق من الجميع.
الفهلوة المصرية الدفينة: ذلك السلاح الذي استخدمه المصري كثيرا ليواجه به بطش السلطة وتحكمها منذ أيام الفراعنة وحتى اليوم, فهو يلعب على كل الحبال, ويدّعي القدرة بلا قدرة, ويرسل النكتة فيضحك عليها حتى تدمع عيناه ويستلقي على قفاه, كي لا يأخذ الموضوع على محمل الجد فيحزن أو يتألم أو يصبح مسئولا. وهو طول الوقت يلعب بالبيضة والحجر, ويخرج الفيل من المنديل, ويمشي النمل طوابير, ويعمل من الفسيخ شربات, ويدهن الهوا دوكو, ويربط الحمار مطرح ما يعوز صاحبه, وهو لا يعرف من الحمار ومن صاحبه وأين يربطه, وإذا ذهب إلى بلد تعبد العجل يحش ويديله, واللي يتجوز امه يقول له يا عمي, وفي محاولة تكيفه مع السلطة غير المنطقية يتحول إلى حالانجي وبتاع التلات ورقات, ويصبح مثل الزيبق, ويأخذ الفلوس ويجري, ويتحول من الفهلوي إلى الانتهازي إلى الهباش. ولا يهتم بالمشروعات العامة أو بالصالح العام بقدر ما يفعل ذلك مع مصالحه الخاصة ومكاسبه الشخصية.
وقد أدى هذا الأمر إلى ضعف الهوية أو تشوهها, وضعف الانتماء, واستتبع ذلك فقد القدرة على التفرقة بين العدو والصديق, وأصبحت الأجندة الوطنية تدور في فلك ألد الأعداء. وفي هذا الجو الفهلوي نشأ الفساد ونمى وترعرع حتى لم يصبح هناك مكانا يخلو من مظاهر الفساد والإفساد. وهذه ليست مسئولية شخص أو أشخاص -كما يتصور البعض- ولكنها مسئوليتنا جميعا.
والفهلوة المصرية تجعل كل شيء ممكنا فهي تعطي لك شكل الأشياء دون جوهرها أو مضمونها, فإن شئت حرية فهاهي في أحلى صورها, وإن شئت ديمقراطية فلديك كل ما يدل على وجود أشكال ديمقراطية, وإن أردت دستورا ومجلسا للشعب وانتخابات فلك كل ما تريد, وإذا لم يعجبك هذا فأرني "شطارتك" وأثبت عكس ذلك.
التراكم السيكوباتي: وفي ظل قانون الطوارئ وصل عدد كبير من ذوي السمات الفهلوية والانتهازية والانتفاعية والسيكوباتية إلى مراكز قيادية في الحزب الحاكم والمتحكم بلا نهاية, وإلى مواقع تنفيذية هامة, ثم انتشروا بعد ذلك وترعرعوا في كل مكان مما مكن للفساد وجعل المنظومة ينطبق عليها كلام المستشار طارق البشري: "الإدارة بالفساد وليس فساد الإدارة". ويوما بعد يوم تجتذب هذه المنظومة الطامعين والهباشين والمنتفعين والمتسلقين, كل ذلك في ظل سيطرة المؤسسة الأمنية التي لا تسمح بالصعود للمراكز القيادية إلا لمن تأمنه تماما طبقا لمعاييرها الأمنية, وليس بالضرورة الوطنية أو الأخلاقية.
وفي ظل قانون الطوارئ اعتاد الطلبة الغش في الامتحانات واعتاد الكبار تزوير الانتخابات, واعتاد الترزية تفصيل القوانين, وامتدت أيديهم إلى الدستور فعدلته تعديلا موجها لتحقيق مهمة محددة هي في النهاية ضد مصالح عموم الناس, وأصبحت تعديلات الدستور وما ينبثق عنها من قوانين تمثل جدارا مانعا لأي تطوير حياتي فضلا عن التطوير الديمقراطي, فقد قام بتفصيله مجموعة من القانونيين السابحين في بحر المنافع والمصالح, والمشبعين بسمات الفهلوة والانتهازية والعبودية لمن بيدهم المنح والمنع.
وقد دلت التجارب الإنسانية على أن الحزب الواحد حين يحكم ويتحكم دون فرصة لأحزاب أخرى ودون فرصة حقيقية لتبادل السلطة فإن النتيجة هي الانهيار المروع, ولنا في حزب البعث في العراق عظة وعبرة. وهذا لا ينفي وجود عناصر وطنية في الحزب ولا ينفي وجود نوايا طيبة وخبرات متميزة, ولكن الإنفراد والركود له قوانينه التي تتجاوز حسن النوايا وتتجاوز بعض الكفاءات الفردية, وتتجاوز الشعارات الوطنية أو القومية.
الشعب النمرود: وشاعت بين العساكر في الأقسام والكركونات وعساكر الدرج أن هذا الشعب "نمرود", وأن أمره لا ينصلح إلا بالعصا الغليظة تهبط على رأسه في مظاهرة في وسط البلد, أو تخترق جسده من أسفل في غرفة مظلمة في أحد الأقسام فتجعله يعترف كما اعترف عماد الكبير. وانبنى على هذا المعتقد حالة من الاحتقار السلطوي لهذا الشعب مع حالة من الخوف والتوجس منه, فهو على الرغم من تظاهره بالطاعة والولاء والاحترام المبالغ فيه للباشا الكبير والصغير ولكل الباشاوات, إلا أنه يخفي خلف ظهره خنجرا يريد أن يطعن به السلطة في أي وقت, ولهذا فهو شعب لا يمكن حكمه أو التحكم به إلا في إطار هذا الوضع الخندقي الطوارئ الممتد والمتمدد بطول وعرض وارتفاع وعمق الوطن, وأن أي محاولة لإطلاق سراحه لا يمكن لأي مسئول عاقل أن يتحمل عواقبها, فهذا الشعب من بين شعوب الأرض قاطبة لا يمكن الوثوق به, أو معاملته بالقوانين العادية التي تحكم سائر البشر.
وبعض علماء النفس (كما ذكرنا سابقا) يقولون بأن ما تفعله السلطة هو نوع من الإسقاط بمعنى أن السلطة الطوارئية هي التي تحمل مشاعر عدائية تجاه هذا الشعب, ولما كان من الصعب عليها الاعتراف بذلك فإنها تسقط تلك المشاعر على الشعب ويظهر الأمر وكأن الشعب هو الذي يكره السلطة (أو يكره الاستقرار الذي تضمنه وتؤكده له السلطة) ويتربص بها, وعلى السلطة أن تكون مفتوحة العينين والأذنين, وأن تكون حاكمة ومتحكمة من خلال قانون الطوارئ الممتد والمتمدد لهذا الشعب الشرير الذي لا يؤتمن. أو أن السلطة الطوارئية ترى أن هذا الشعب من السهل الضحك عليه وتجنيده بواسطة قوى خارجية متربصة به تريد أن تهدم إنجازاته, خاصة تلك القوى الإرهابية التي تفكر ليل نهار في استمالته واستقطابه وتجنيده.
وفي هذا المناخ حدثت بعض التجاوزات الفردية والتي يمكن أن تحدث ببساطة في مثل هذه الظروف, حيث لقي بعض أفراد هذا الشعب النمرود مصرعهم أثناء استجوابهم في جهات أمنية, وهي كما قلنا حالات فردية لا تشوه الصورة العامة لرجال السلطة الساهرين على أمن الحكومة وسلامتها وسياستها, وظروف الطوارئ تتضمن كل هذا, فالتضحية بأمن وحياة بعض المواطنين هي الثمن الذي ندفعه لسعادة ورفاهية واسترخاء باقي الناس, ولكن أكثر الناس لا يعلمون أو لا يصدقون!!.
السلطة .. الجانية والضحية لقد اتفق العقلاء من البشر وبعد تجارب وصراعات مريرة بأن أي مجتمع كي يعيش في سلام واستقرار يحتاج لثلاث سلطات هي: السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية, على أن يكون ثمة توازن حقيقي بين هذه السلطات وأن لا تجور إحدى السلطات على الأخرى أو تنتزع اختصاصاتها. وفي ظروف الطوارئ تعطى السلطة التنفيذية مساحات أكبر بهدف الحفاظ على الأمن والبقاء, على أن يعود التوازن مرة أخرى بعد زوال حالة الطوارئ وذلك حفاظا على صحة وتوازن الحياة في ظروفها الطبيعية, أما إذا استمرت حالة الطوارئ فهذا معناه استمرار حالة عدم التوازن بشكل مزمن وفتتضخم السلطة الأمنية وربما تتوغل في مساحة السلطة التشريعية أو السلطة القضائية وتكون التبعات هائلة وخطيرة. وعلى الرغم من إصرار السلطة التنفيذية على بقاء قانون الطوارئ هذه المدة كلها, وهذا ضد قوانين الحياة وضد حركة المجتمعات, إلا أن هذه السلطة نفسها دفعت ثمنا غاليا, فقد عاشت تحت تأثير الهاجس الأمني المتضخم لديها فحرمها ذلك الهاجس نعمة الأمان والاستقرار. وقد تورطت السلطة في ممارسات قمعية مما جعل صورتها في الخارج تبدو سيئة للغاية إلى حد إصدار البرلمان الأوروبي بيانها يدين فيه ممارسات هذه السلطة ويعتبرها منتهكة لحقوق الإنسان, وإلى حد صدور الكثير من التقارير عن منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية تدين الكثير من ممارساتها وتضع مصر في ترتيب متدن على قائمة حقوق الإنسان, ولكنها للأسف لم تعد تهتم بصورتها في الخارج أو الداخل.
والصورة في الداخل تتعرض لتشوهات كثيرة خاصة مع قدرة وسائل الرصد والإعلام على تسليط الضوء أكثر مما مضى على الممارسات السلبية التي تقع في مناخ الطوارئ المزمن. ونظرا للاعتماد على الحل الأمني القامع دائما فقد فقدت السلطة قدرتها على العمل السياسي وأصبحت ممارساتها في هذا المجال بدائية فجة تفتقر إلى أي حس سياسي أو حتى حس إنساني بسيط. ونتيجة لهذا التراجع في العمل السياسي حدث ضمور (نتيجة عدم الاستعمال) لدي كل قيادات السلطة, إذ لم يتعودوا التحاور مع الناس أو معرفة نبضهم, ولم يتعلموا الاهتمام بهم, فالناس بالنسبة لهم مصدر إزعاج وقلق, والشعب لا تسكته إلا عصا الأمن وحذائه, ولا تردعه إلا سيارات الأمن المركزي المتراصة لإظهار القوة ولقمع أي فكرة أو حركة تطرأ على بال أي شخص أو طائفة.
ومن هنا مات العمل السياسي لسنوات طويلة وفقدت القوى السياسية قدرتها على قيادة الجماهير بشكل صحيح, مما وضع العبء الأكبر على الأجهزة الأمنية والتي وجدت نفسها مسئولة عن كل شيء في ظل انسحاب الجهات والوزارات الأخرى من الساحة. ولم يعد الناس يهتمون بشيء أو يتحركون من أجل شيء ونتيجة للجو الذي رسخه قانون الطوارئ فقد تورط بعض ضباط شرطة في في جرائم تعذيب حتى الموت, وانتهاك أعراض, وهؤلاء الضباط يمكن اعتبارهم جناة وضحايا في ذات الوقت, فقد بعثتهم أسرهم إلى كلية الشرطة ليصبحوا ضباطا يتباهون بهم وتقوى بهم شوكتهم بين الناس, فإذا بهم يتحولون إلى أدوات تعذيب لينتهي بهم المطاف إلى الوقوف في قفص الاتهام, ثم الذهاب إلى السجن ليتحطم حلمهم وحلم ذويهم, ومن لم يتورط منهم في هذه الجرائم يتحمل ضغطا هائلا في عمله حيث يقضي ساعات طويلة في عمل شاق ومرهق يحرمه من كثير من مباهج الحياة الأسرية الهادئة, ولم لا وقد تحمل الجهاز الأمني في ظل قانون الطوارئ عبء إدارة الحياة بكافة جوانبها وعبء مواجهة سلبيات وأخطاء كل الوزارات والجهات.
ومن السهل أن ترصد تغير صورة ضابط الشرطة لدى الناس في السنوات الأخيرة خاصة مع تكرار أحداث التعذيب حتى الموت, ومع ظهور ذلك على الفضائيات في وجود سقف نسبي للحرية يسمح بذلك, لدرجة أن بعض الأسر الآن تخشى تزويج بناتها لضابط شرطة بعد أن كانت هذه الوظيفة في وقت من الأوقات تفتح لصاحبها أبواب كل البيوت الكريمة بلا أي شروط. وعلى الرغم من تدريس مادة حقوق الإنسان في كلية الشرطة إلا أن المناخ العام يمسح أثر هذه المادة ثم يرسخ لفكرة أن المواطن المصري "نمرود" ومخادع وليس له قيمة أو "ديّة", ولا ينصلح حاله إلا بضرب الحذاء, ولا يقول الحقيقة في التحقيق إلا بعد اغتصابه أو التحرش به وبزوجته أو بأمه أو بابنته.
ونحن حين نتحدث عن السلطة فإنما نتحدث عن ناس من أنفسنا فبالتأكيد هم ليسوا سلطة أجنبية, وليسوا غرباء عنا كأشخاص, فمن منا ليس له صديق أو قريب أو جار ينتمي إلى السلطة بشكل من الأشكال, بل إننا في أغلبنا ننتمي إلى هذا الكيان الذي يسميه الناس السلطة فكل موظف حكومي يشكل جزءا من السلطة, ولكن شتان بين سلطة تنفذ وسلطة تقرر وتفرض. وهذا يعني أننا مسئولون جميعا بشكل أو بآخر عن استمرار حالة الطوارئ وقانونها الذي رأينا كيف يؤثر استمراره سلبا على حياتنا, ولا ينطبق هذا فقط على قانون الطوارئ الحالي وإنما ينطبق على أي قانون ولو أخذ مسمى آخر يؤدي إلى نفس النتائج (وهذا ما نحذر منه في قانون الإرهاب الذي يجري تجهيزه ليحل محل قانون الطوارئ) فالقوانين تنشا لكي تنظم حياة الناس لا لتقمعها أو تقتلها أو تكبتها أو تخنقها أو تجمدها أو تصعبها أو تشوهها, وإذا حدث ووجد قانون مثل هذا فمن الوطنية ومن محبة أهلنا وناسنا أن نبين هذا بشكل متحضر وأن نتنادى فيما بيننا إلى الحق والعدل والخير والجمال, وذلك هو حق المواطنة, والسكوت عنه من أخلاق العبيد, وربما نحتاج أن يعلو صوتنا فوق صوت صفارة الإنذار الطوارئية المزمنة, وأن تبرق إشارات تحذيرنا أكثر من لمبة الطوارئ الحمراء التي أعمت أبصارنا.
واقرأ أيضًا: التحليل النفسي لشخصية صدام حسين / بائع الورد : قراءة في شخصية عمرو خالد / أنماط التدين من منظور نفسي إسلامي / برنامج علاجي لحالات الشذوذ الجنسي / قلق الامتحانات / فن المذاكرة / حيرة مريض نفسي بين الطب والغيب / المازوخية / الصحة النفسية للمرأة / نوبات الهلع عند المرأه / الطفل البَكاء / المرأة في القرآن والسنة / صلاح جاهين وثنائية الوجدان / الصمت الزوجي / سعاد حسنى والجرح النرجسي / البراجماتيزم ... دين أمريكا الجديد / شخصيةالطاغية / العلاج بالقرآن من راحة سلبية إلى طمأنينة وجودية / الثانوية العامة .... مرحلة دراسية أم أزمة نمو؟ / الكــــــــــذب / كيف نمحو أميتنا التربوية؟ / سيكولوجية التبني.. الكفالة.. الأسرة البديلة / المكتئب النعّاب / سيكولوجية التعذيب / اضطراب العناد الشارد / الحوار وقاية من العنف / النضج الوجداني / الدردشة الالكترونية وحوار الأعماق/ سيكولوجية الاستبداد (الأخير) / السادو- ماسوشية (sado-masochism) / الجوانب النفسية للعقم عند النساء / الدلالات النفسية لزواج الأمير تشارلز من عشيقته / ستار أكاديمي.. وإزاحة الستر / العلاقة الحميمة بين الجسد والروح (4) / ضرب الزوجات للأزواج( العنف العكسي ) / فن اختيار شريك الحياة (5) / الشخبطة السياسية / الزوج المسافر(4) / قادة العالم واضطرابات الشخصية(2) / قراءة في شخصية زويل(2) / إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ(3) / سيكولوجية الرجل / أزمة النمو في شعر عبد الرحمن الأبنودي(7) / هل فعلها المجنون في بني مزار / ظاهرة العنف في المجتمع المصري(3) / بين الإبداع والابتداع / الذوق والجمال في شخصية المسلم المعاصر / الجانب الأخلاقى فى شخصية المسلم المعاصر / جمال حمدان: المحنة ... العزلة ... العبقرية1 / أسباب فشل الحياة الزوجية / كيف تعاملين زوجك / مؤتمر العلاج بالقرآن بين الدين والطب / الدوافع ودورها في النجاح والتفوق / العادة السرية بين الطب والدين(2) / حين يصل الفساد لمواطن العفة(1) / المعارضة.. من النفس إلى الكون(2) / الباشا والخرسيس / الجنسية المثلية بين الوصم والتفاخر / الزملكاوية! / الانتصار البديل في الساحة الخضراء / التحول الجنسي بين الطب والدين / شيزوفرينيا / الفهلوة اللغوية العصبية / من المحلة إلى مارينا وبالعكس / الطلاق المتحضر (تسريح بإحسان).
الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 30/07/2008
|
|