إغلاق
 

Bookmark and Share

الهجرة نحو (الإنجليزي)... إجهاض الإبداع! ::

الكاتب: د. عبد الله البريدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 02/08/2008


أكدنا في مقال سابق على أن ثمة فرقاً كبيراًُ بين مفهومي: (تعلم الإنجليزية) و(تعلم بالإنجليزية)؛ ف (تعلم الإنجليزية) يشير إلى أن الإنسان يستخدم اللغة الإنجليزية كأداة تواصل في مواقف تضطره إلى ذلك وبطريقة ملائمة،

أما (تعلم بالإنجليزية) فهو ينصرف إلى حالة فكرية تتجاوز حدود اللغة، حيث (يفكر) الإنسان بأدوات اللغة الأجنبية التي استجابت ل (طلبات ثقافية) تخص المجتمعات التي تتحدث بالإنجليزية، وبالذات الأكثر قوة ونفوذاً منها، هذه مسألة يجب أن تكون مترسخة في أذهاننا بشكل جيد ونحن نهيئ أنفسنا للحديث عن التدريس بالإنجليزية وعلاقة ذلك باغتيال الإبداع!!

المعالجة المنهجية لمسألة علاقة اللغة بالإبداع تقتضي منا تناول العديد من النقاط الجوهرية في هذا الموضوع من خلال المحاور التالية:

1- اللغة هي أداة التواصل فيما بين الناس، فاللغة بما تتضمنه من مفردات ذات دلالات محددة تعين البشر على التفاهم، حيث إنها تنظم عملية الإدراك للواقع وتحول ذلك الإدراك إلى رموز مجردة، قابلة للنقل من خلال مفردات اللغة، وتلعب اللغة دوراًً محورياً في تمكين الإنسان من مراكمة المعارف والخبرات وخزنها في الذاكرة بطريقة مرتبة، مما يسهل عليه استدعاؤها في الوقت الذي يشاء، عبر عمليات الترميز والاسترجاع.

2- اللغة هي أداة التفكير فنحن لا نطيق أن نفكر بلا لغة؛ فالتفكير في أي قضية أو حدث يتم من خلال استخدام الإنسان لمجموعة من الكلمات التي تحمل معاني وأفكاراً وخبرات ملائمة، واللغة هي المسؤولة عن تطوير المفاهيم والتصورات والأبنية المعرفية لدى الإنسان، ومن هنا تتأكد أهمية العناية بإثراء البناء اللغوي لدى الإنسان منذ صغره، فالثراء اللغوي يؤدي بنا إلى تدعيم قدراتنا للحصول على خبرات لفظية ذات معنى الأمر الذي ينعكس إيجاباً على تحسين جودة التفكير، من جراء تطوير عملية معالجتنا للخبرات والمعلومات المخزونة في الذاكرة على شكل رموز لغوية تحمل معاني متعددة ومتمايزة؛ مما قد يؤدي إلى اكتشاف خبرات ومفاهيم وتصورات وعلاقات جديدة بين العوامل التي تحكم الظاهرة أو الموضوع الذي نفكر فيه.

3- يذهب بعضنا - وهم محقون - في أن اللغة ليست مجرد أداة لصناعة الفكر بل هي أيضا القالب الذي يتشكل فيه ذلك الفكر (منهم محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي)، فعقل الإنسان لا يمكن أن يتحرك في فراغ، بل هو يسبح داخل حدود لغوية معينة، تجعله يحلل ويشخص ويقيم ويوازن ويفاضل وفق حدوده اللغوية، وهذه الحدود منها ما يعود إلى اللغة ذاتها التي يتكلمها ذلك الشخص أي أن ذلك يعود إلى بنائها وثراء مفرداتها وميزاتها الوظيفية، ومنها ما يعود إلى حدوده الشخصية أي قدراته هو ومهاراته اللغوية التي يتوفر عليها.

4- التدريس بغير اللغة الأصلية (الأم) يعني أننا نحرّك العقلَ في مسارات خارج حدوده الطبيعية مما يجعله تائها في (جغرافية الآخر) اللغوية الفكرية؛ فهو لا يعرف طرائقها ولا يخبر مساربها، وعملية التحريك تلك تعني أن العقل لا يتمرس على جغرافيته اللغوية الفكرية، ولا يحذق في مسالك ثقافته وتراثه، مما يفقده القدرة على التنقيب عن الكنوز المعرفية المخبوءة في باطن تراثه وظاهر ثقافته، فضلاً عن خسارة اللغة كأداة لتصنيع (المنتجات الدلالية) لتعكس ما تنتهي إليه عقولنا نحن إزاء الأفكار والأشياء والمشاعر التي تخصنا وتتلاءم مع احتياجاتنا ومقاساتنا،

وهذا يعني أن (التعلم بالإنجليزية) يؤدي بالفعل الثقافي إلى حالة متحققة من الفشل في إثراء اللغة وتقوية بنائها وتحصين مناعتها وتحسين أدائها لوظائفها الكبرى، فاللغة المعزولة أو المعطلة عن ديناميكية الحياة هي لغة ميتة أو شبه ميتة، وفي هذا المعنى يقول الدكتور حسن ظاظا - رحمه الله تعالى - (اللفظة في الكلام تشبه إلى حد كبير ورقة النقد في الاقتصاد إذ لابد للورقة النقدية من تغطية قيمتها بالذهب أو غيره لتصبح عملة للتداول وتكسب ثقتها، كذلك فإن الكلمة تكسب دلالتها المعنوية من اتفاق مجموعة من الناس على تداولها وتزداد قيمتها كلما كانت دلالة تلك اللفظة شاملة عامة) (انظر كتابه اللسان والإنسان، ص69). وفي حالة توصلت عقولنا إلى شيء جديد ونحن مأسورون داخل نطاق (التعلم بالإنجليزية)، فإن ذلك يعني أننا نجيّر (إبداعيتنا) للآخر، وقد يكون (ذلك محسوباً لحضارته ومدنيته، ومضافاً إلى ترس صناعته التي يبيعها على هؤلاء التابعين بأغلى الأسعار) (د. أحمد الضبيب، تعجيم التعليم-1، جريدة (الجزيرة)، 29-3- 1428هـ).

5- أن (التعلم بالإنجليزية) - وبالذات في العلوم الاجتماعية والإنسانية - يجعل الثقافة المحلية تتورط في التعارك مع تحيزات الآخر، وتنشغل عن تحيزاتها هي، مما يفقدها للقدرة على الاستجابة الذكية فضلاً عن روح المبادأة في التعاطي مع احتياجاتها المتجددة والوفاء بها، نظراً لأن (الجهاز المعرفي) ُيملأ بالعديد من الملفات المعرفية التي حملناها في أدمغتنا من جراء الأنظمة والأبنية المعرفية للآخر، لدرجة أن أدمغتنا أحياناً تصاب بحالة تشبه الكلالة الذهنية، وربما (التهنيق) لجهاز الحاسوب، مما قد يضطرنا إلى القيام بعملية إعادة تهيئة أو (فرمته) لتلك الأدمغة (المزدحمة) بخرائط الآخر وبوصلته وأولوياته، وهذا يجعلها تستمرئ التبعية وتركن إليها، وربما تبجحت بعض الأدمغة العربية في تبرير التقليدية والجمود، أو السقوط في حالة من (الجبرية الفكرية) التي تقرر أن العقل العربي عقل لا يقوى على الإبداع ولا يصلح له!!

6- التحليل السابق يتأكد بل يصبح ضرورة فكرية لا مناص من تحقيقها؛ حين يكون الحديث منصباً على رفضنا ل (التعلم بالإنجليزية) في ميدان العلوم الاجتماعية والإنسانية، فهي ذات خصوصية ثقافية شديدة، ولقد أشرت إلى ذلك في العديد من المقالات والأبحاث، وقد توصل الكثير من الباحثين الغربيين إلى مثل تلك النتائج وأكدوا على صحتها. وقد يكون من المستحسن أن نضرب بعض الأمثلة ليزداد المعنى وضوحاً ولكي نقيم بعض البرهنة العملية على تأثير التدريس بالإنجليزية على فعاليتنا الإبداعية.

دعوني أضرب أمثلة في بعض تخصصات العلوم الاجتماعية، ولتكن في العلوم الإدارية فهي تخصصي وربما تفلح أدواتي المتواضعة في التقاط أمثلة ملائمة، شاع مصطلح إنجليزي في الساحة الإدارية العربية منذ ما يقارب العقد، وهو مصطلح Professional، وتلقفه العقل العربي كمصطلح يشير إلى معان محددة، وترجمت بعض الأدمغة العربية ذلك المصطلح إلى (مهني) وبعضها إلى (محترف) أو (احترافي)، وبدأنا نسمع من يؤكد على أهمية المنطلق المهني أو الاحترافي Professionalism وحتمية ترسيخها في بيئتنا الإدارية تنظيراً وممارسة؛ كمقوم رئيس للرقي الإداري؛ فماذا يعني للإنسان العربي أن تقول له: (خليك مهني أو محترف أو احترافي)، أو (خليك بروفيشنال)!،

ظللنا فترة طويلة كمحاضرين ومدربين نشعر بأن هذه الكلمة الأجنبية وترجمتها العربية ليست ذات دلالة واضحة أو معنى مباشر داخل الحدود اللغوية للعقل العربي الذي لم يتعلم المعنى المباشر لذلك المصطلح بلغته الأصلية، مما يضطرنا إلى أن نقوم بعمليات تفسير وترجمة، وبعد أن أخذت هذه الكلمة -Professional - (جوازاً) للعبور داخل حدودنا اللغوية بل (إقامة دائمة)؛ عمدت إلى افتتاح (حساب فكري) في (بنكنا اللغوي)، وقامت هذه الكلمة بكل ذكاء بتغطية قيمة الحساب بديناميكية الفكر الإداري الغربي وجاذبيته وتكرار تعرض الأذهان لنظرياته ونماذجه ومصطلحاته وممارساته، حينها أفلحت الكلمة في الظفر بمعنى وربما معاني داخل أبنيتنا الفكرية تتمحور حول الإتقان والامتياز والاحترافية والمهنية... جهود كبيرة صرفت من أجل توصيل تلك المعاني، والحقيقة أننا لا نتوفر على معرفة دقيقة لمنظومة المعاني الجزئية التي تنتظم في حلقة المعنى الكلي لذلك المصطلح، ونحن هنا نتساءل: ماذا لو اشتغل العقل العربي ودار راحه حول الكلمات العربية الأصيلة في هذا السياق والتي منها (الإتقان

إن اشتغال عقلنا الإداري حول كلمة (الإتقان) سيؤدي بنا إلى أن نقطف ثمرات يانعة كثيرة، منها أن استخدامنا لتلك الكلمة العربية:
- سيكون أدعى إلى التفهم السريع لمعانيها دون الحاجة إلى جهود تفسيرية،

- سوف يمكّن ذلك العقل العربي من التعمق في المعاني، والتصرف في مفرداتها وتصريفاتها وتشكلاتها، كيف لا وهو يقرأ في (أساس البلاغة) لأبي قاسم الزمخشري عند مادة تقن (رجل متقن، وتقن، وفلان تقن من الإتقان: موصوف بالإتقان أي حاذق في عمله... أتقن الشيء أحكمه. وفي التنزيل: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ورجل تقن وتقن: متقن للأشياء حاذق بها...)... وهنا نرى كيف يمكن أن تفتح لنا مفرداتنا اللغوية بحدودها وتضاريسها آفاقا جديدة، ومن ذلك المعنى الذي نجده في (لسان العرب)، حيث يقول ابن منظور: (تِقْنٌ وتَقِن مُتْقِنٌ للأَشياء حاذِقٌ ورجل تِقْنٌ وهو الحاضرُ المَنْطِق والجواب)، وهنا نظفر بأن من أبعاد الإتقان وأركانه الأساسية أن يكون الإنسان ذا قدرة عالية على العرض والإقناع بما يصنعه، وهكذا...

- وربما أهم مما سبق، سيعمل العقل العربي على الربط التلقائي بين معاني الكلمة واستحقاقاتها الثقافية، مما يجعله يتذكر قول الرسول العربي العظيم محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، وهذا يعني أن البعد الديني لن يكون محايداً أو مهمشاً في خارطتنا الإدارية، بل سيكون محرضاً لنا على تحقيق الجودة الإدارية، مما يمد الممارسات العملية بمعين لا ينضب من التطوير والتحسين المدفوع بنيل الأجر الأخروي بجانب الامتياز والتفوق والنجاحات والأرباح المادية، وهذا ما لا يمكن أن يحصل إذا استخدمنا مصطلحات أجنبية تعجز عن اكتشاف شفرة معادلة الإيمان.

والأمثلة التي يمكن أن نستعرضها في هذا التحليل كثيرة، غير أن المجال لا يتسع مما يجعلنا نكتفي بما سبق... ونعيد التشديد على أننا بأمس الحاجة إلى المحافظة على هويتنا اللغوية والفكرية والدفاع عن (جنين إبداعيتنا) وتوفير مقومات نموه وتجنيبه المخاطر والمهددات وكافة محاولات الإجهاض، والتي من أهمها تعجيم التعليم والهجرة غير العقلانية نحو الإنجليزية، مما يجعلني أناشد جامعاتنا الموقرة بألا ترتكب مثل هذا الخطأ الشنيع، بل إنني أتوجه لوزارة التعليم العالي والجهات العليا المركزية بعدم السماح للجامعات باتخاذ مثل تلك القرارات الخطيرة على هويتنا وإبداعيتنا، لهذه الحجة أو تلك، فنحن نتوفر على مقومات التغلب على كافة الصعوبات التي ُتساق في معرض تبرير نهج التعجيم، ونحن لسنا بأقل من غيرنا، متى توافرت الإرادة المخلصة!

واقرأ أيضًا:
السنة والشيعة ومفهوم الأمة الواحدة / أقول لهم نصرٌ.. فيقولون شيعة / حوار مع السيد العلامة: محمد حسين فضل الله / متى نشخِّص الثقافة؟ / القابلية للانصياع.. والفتاوى الدينية! / وعينا متوعك!! / المراكز البحثية والباحثون الحقيقيون! / ما وراء (التشخيص الثقافي)! / الثقافة العربية المعاصرة.. (ثقافة قلقة)!  / أسئلة حول (الثقافة القلقة)!  / سمات عَشْر للثقافة القلقة! / حول مكاشفات فضل الله / مستقبلنا يخاطبنا يجب أن تكونوا عقلانيين ومتسامحين / الممارسات الرديئة وفصل الدين عن العلم! / خرافة المفكر - الروائي - الفنان (العالمي)!  / الهجرة نحو (الإنجليزي)... تهديد الهوية!1/ الشيطان... لونه أحمر!! 



الكاتب: د. عبد الله البريدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 02/08/2008