إغلاق
 

Bookmark and Share

شكراً سيدتي الأولى على الزيارة ::

الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 30/08/2008


يوم 18 أغسطس 2008، وبالتحديد في الخامسة مساءً سمعت أصواتاً عالية تأتي من الشارع فخرجت إلى الشرفة أستطلع الأمر، فوجدت بزحفٍ جماهيريٍّ لم أشهده من قبل في شارع البحر في مدينة المنصورة، راح الناس يتساءلون في حيرة: ماذا حدث؟.. هل قامت الثورة؟!.. ومرّ وقت دون أن نعرف، لكننا بدأنا نشاهد من بعيد سيارات ضخمة يتجمع حولها الناس يأخذون منها مواداً غذائية كالسكر والزيت والأرز، وقد كتب على هذه السيارات بخط كبير: "والغذاء أيضاً للجميع".

لفت نظرنا أن عدد هذه السيارات يتزايد، وكلما أفرغت إحداها حمولتها جاءت سيارة أخرى لتحل محلها والناس في دهشة شديدة: من أين؟! وممن؟! وكيف؟! ومتى؟!، شوهد الناس يتوجهون ناحية ميدان الشيخ حسانين في وسط المنصورة، فقد انتشر خبر أن "سيدة مصر الأولى" موجودة هناك وسط الناس، وأنها حضرت بشكل مفاجئ دون أي ترتيبات أمنية لتزور أهل المنصورة قبل شهر رمضان بأيام وأحضرت معها سيارات ضخمة بعضها فيه كتب وقد كتب عليها الشعار المعتاد "القراءة للجميع"، وبعضها الآخر فيه مواد غذائية وقد كتب عليها كما ذكرنا "والغذاء أيضا للجميع" وقد انصرف الناس-كعادتهم عن عربات "القراءة للجميع" إلى عربات "والغذاء أيضا للجميع" وكاد زحامهم وتدافعهم على تلك العربات أن يقتلهم، ووقفت السيدة الأولى تنظر إليهم في شفقة وسماحة وعيناها الهادئتان تفيضان أمومة وحباً وتطالبهم بالهدوء وتطمئنهم بأنهم سيحصلون جميعاً على مايحتاجون، ولكن يبدو أن الناس لم يكونوا يسمعون أو أنهم يسمعون ولا يصدقون، فقد تدافعوا كموجات بشرية هائلة تجرف في طريقها أي شيء، وحاول رجال الأمن مخلصون فعلاً أن ينظموا هذه الجماهير المندفعة ولكنهم لم يستطيعوا، وحين فكروا أن يستعينوا بخراطيم المياه لتفريقهم وتخفيف زحامهم رفضت السيدة الأولى وطلبت منهم عدم التدخل وأن يتركوها هي والناس في هذا اليوم دون تدخل أمني وأنها ستحاول تهدئة الناس بطريقتها.

ولم يقتصر اندفاع الناس نحو عربات الغذاء، وإنما اندفعوا أيضاً نحو السيدة الأولى يعرضون عليها مطالبهم واحتياجاتهم، وهنا أسقط في يد رجال الأمن فهم لا يستطيعون أن يقفوا متفرجين بينما الناس يندفعون نحو السيدة الأولى بشكل خطر يكاد يهدد سلامتها بل وحياتها، وربما اندس في وسطهم مغرضون يحاولون أن يفسدوا هذه الزيارة أو أن يمسوا السيدة الأولى بسوء، فحاولوا حمايتها ولكن عن طريق رجال أمن سريون من قوات مكافحة الشغب، لكن السيدة الأولى فهمت ما يحدث فحذرتهم مرة أخرى من الحيلولة بينها وبين الناس وذكّرتهم بأن حب الناس لها هو الذي يحميها، ثم إن الأعمار بيد الله، وكيف تخاف على نفسها وهي بين أبنائها وبناتها وأخواتها وإخوانها، إنها أم لكل المصريين!.

وهنا أدرك أهل المنصورة مسؤوليتهم في حماية السيدة الأولى فتطوع عدد من شباب الحسينية والحوّار والسيدة عيشة وانضم إليهم متأخراً عدد من شباب مسجد التوحيد وشباب الإخوان، ووزعوا أنفسهم لتنظيم حركة الجماهير المتوافدة حول السيدة الأولى، واستمرت سيادتها تستمع إلى الناس وترد عليهم وتداعبهم على الرغم مما بدا عليها من إجهاد في ذلك اليوم.

ومرت على محل عصير الحسين وأقسم صاحب المحل أن تشرب من يده كوباً من العصير وأن تسمح له بصورة على الموبايل يكبرها ويضعها في واجهة المحل فسمحت سيادتها بكل شيء إلا شرب العصير حيث كانت صائمة في ذلك اليوم– كما اعتادت في أيام شهر شعبان المباركة.

ومرة أخرى اقترب منها أحد المسؤولون في زي مدني ويبدو أنه قيادة أمنية كبيرة وأخبرها بخطورة الوضع من الناحية الأمنية وأن سلامتها تعتبر من مهامه الرئيسية وأنها مسألة أمن قومي وشيء يخص سمعة البلد وجهازها الأمني وصورة الاستقرار فيها، وأن إصابتها بسوء سيكون له معنى سياسياً عالي التكلفة في الداخل والخارج. وبعد مداولات أقنعها بالكف عن السير في الشوارع وسط الناس وطلب منها أن تتوجه نحو استاد المنصورة الرياضي لتلتقي بالجماهير في مكان متسع وفي نفس الوقت يمكن تنظيم حركة الجماهير فيه من خلال بوابات الدخول والخروج، وهذا ما حدث حين زار عمرو خالد المنصورة فجأة في يوم من الأيام وتدافعت نحوه جموع الشباب من مريديه فاضطر الأمن أن ينقل هذا الاحتفاء الشعبي بالداعية الشاب إلى استاد المنصورة.

ووافقت السيدة الأولى على مضض بشرط أن تقطع المسافة نحو استاد المنصورة سيراً على الأقدام في شوارع المنصورة الرئيسية وسط الجماهير. واتجه الموكب نحو "المشّاية" وهي الشارع المطل على النيل مباشرة وهو من أجمل شوارع المنصورة وأفخمها وأحدثها، وقد لاحظت السيدة الأولى أن اسم السيد الرئيس مكتوب على هذا الشارع ولكن الناس ما زالوا يطلقون على الشارع اسم "المشّاية" فتغيرت ملامحها ولم تعلّق، وحين اقتربت من نادي الحوّار استوقفتها لوحة كبيرة على الجانب الأيسر من مدخل النادي مكتوب عليها: "هدية السيد الرئيس لشعب المنصورة محطة الصرف الصحي"...!!.. فاستاءت كثيرا من هذه اللافتة واستاء معها جموع المرافقين، وبدا أن كاتب هذه اللوحة تنقصه اللياقة في التعبير (وهذه اللوحة مازالت في موضعها حتى هذه اللحظة).

واستمر الموكب يجوب "المشّاية"، ولا حظت السيدة الأولى كثرة اللوحات الإعلانية التي تحمل صور السيد الرئيس فسألت عن سر ذلك فأسرّ أحد الناس في أذنيها بأن أصحاب المحلات والشركات يتحايلون بذلك لينشروا إعلاناتهم في أماكن حيوية وبأحجام كبيرة دون أن يدفعوا رسوماً أو مصاريف إضاءة لأن الإعلان يحمل صورة السيد الرئيس ولا يجرؤ أحد على إزالة هذا الإعلان أبداً! فتبسمت وتعجبت وانصرفت.

ورأت عدداً من العمال ينزعون صور المحافظ القديم الذي ترك منصبه منذ فترة قصيرة ويضعون صور المحافظ الجديد فأشفقت على القديم والجديد، ولكن الناس قالوا لها إن هذه عادة أهل المنصورة أن يضعوا لوحات إعلانية تأييدية في كل مكان، واللوحة تحتوي على صورة للسيد الرئيس بحجم كبير وبجواره أو خلفه أو تحته صورة للسيد المحافظ بحجم صغير، وأنهم يغيّرون هذه الصور كلما تغيّر السيد المحافظ ولكن تبقى صور السيد الرئيس هي العامل المشترك في كل اللوحات الإعلانية... فنظرت في حيرة واستغراب ومضت في طريقها نحو مسجد السلاب حيث كان أذان المغرب قد حان فدخلت المسجد وتوضأت وأفطرت على تمرات كانت معها وطعام خفيف كان يحمله لها أحد مرافقيها ورفضت الوجبات التي أحضرت لها من مبنى المحافظة ومن محلات الكبابجي الوحيد ومن فندق رامادا ومن كنتاكي وكووك دور ومؤمن وبيتزا والشويحي وغيرها.

وبعد صلاة المغرب حاول ممثلو الحزب الوطني دعوتها لزيارة وافتتاح عدد من المشروعات الصناعية والمدارس والمستشفيات والكباري في محافظة الدقهلية ولكنها اعتذرت لهم بأدب جم وذكرت أن هذه المشروعات قد تم افتتاحها قبل ذلك أكثر من مرة وبواسطة أكثر من مسؤول رفيع، فضلاً عن أنها حضرت هذه المرة للناس البسطاء وليس للمشاريع. وانطلقت في طريقها إلى استاد المنصورة بناءً على نصيحة رجل الأمن (الحازمة) ولكنها مرت في طريقها على شارع الجلاء وعزبة الصفيح وعزبة الشحاتين وسوق ستّوته وميدان مشعل والحسينية والحوّار والعبّاسي والشيخة عيشة والسكة الجديدة، والناس من حولها يغنون ويرقصون ويدعون لها بطول العمر.

حتى شباب مسجد التوحيد على الرغم من اختلافهم في مسألة جواز وجود السيدة الأولى هكذا وسط الرجال والنساء وهي تلبس إيشارباً فقط وليست منتقبة كما يجب إلا أنهم تجاوزوا أو أجلوا هذا الخلاف حتى لا يفسدوا المناسبة على الناس، وقد شاب من الإخوان في أذن أحدهم بأن السيدة الأولى في سن أمهاتنا ولا يعقل أن ينظر إليها أحد غير أنها أم وأن الحجاب الذي ترتديه ولو أنه يظهر بعضاً من شعرها إلا أنه أفضل بكثير من عدمه وطلب منهم ألا يتوقفوا كثيراً أمام مسألة الحجاب وأن يفكروا أكثر في مصالح الناس في دنياهم وأخراهم وأن كسب ود السيدة الأولى يعتبر سنداً كبيراً لقضايا الأمة؛

وهنا هدأ شباب مسجد التوحيد (على الرغم من عدم قناعتهم بما يقوله الشاب الإخواني)، خاصة وأنهم قرروا أن يرفعوا إليها بطلب للسيد المحافظ أن يسمح للشيخ محمد حسان شيخهم المحبوب وابن المنصورة البار والداعية الإسلامي العالمي ذائع الصيت أن يعود لخطبتي العيدين في استاد المنصورة مرة أخرى فقد كانت خطبته في الأعياد أحد أهم مباهج أهل المنصورة، وقرروا أيضاً أن يطلبوا منها أن ترجو السيد المحافظ أن يمنع لافتات الحزب الوطني التي اعتاد الحزب أن يضعها في مصلى العيد في استاد المنصورة وهي لافتات تحمل أسماء أعضاء الحزب وقياداته وشعارات، وقد دأبوا على وضعها حول المصلى بل وفوق رأس الخطيب وفوق القبلة وحولها، وهذا موضع لا يصح فيه ذكر أي بشر بل الذكر كله يكون لله وقد وثق شباب مسجد التوحيد من أن السيدة الأولى ستحمل مطالبهم إلى السيد المحافظ الجديد وهم يتوسمون الخير في الجميع بل ويرجون أن يحضر السيد المحافظ وقيادات المحافظة صلاة العيدين خلف الشيخ محمد حسان كما حدث من قبل في أحد السنوات- ويكون هذا دليل على أن المسؤولين يشاركون الناس في مناسباتهم ويحبون من يحبونهم، خاصة وأن الشيخ حسان ليس معارضاً سياسياً ولا داعية ثورياً بل هو على علاقة طيبة بالقيادات الأمنية في المحافظة ولم يعمد في حياته إلى إثارة الشغب وليست له أطماع سياسية أو انتخابية حزبية وليس منتمياً إلى جماعات محظورة.

وقد تقدم أحد المثقفين من السيدة الأولى وشكا لها من أن المحافظ السابق أتى بتماثيل مزيفة للفراعنة ووضعها في أماكن مهمة بالمدينة على الرغم من أن تاريخ المنصورة مرتبط بالحروب الصليبية وبهزيمة الجيوش الغازية وفيها دار ابن لقمان التي أسر فيها لويس التاسع وأن تلك التماثيل الفرعونية مقحمة على المكان وليس لها علاقة تاريخية بالمدينة وهي خارج السياق التاريخي والثقافي للمدينة.

وجاء أحد أقارب أيمن نور وسألها:
- متى سيخرج أيمن من السجن؟
* لو كان بيدي ما دخل السجن أصلاً.
- ولكن سيادتك السيدة الأولى!.
* أقول رأيي فقط ولا أتدخل في شؤون السياسة أو القضاء.
- مجرد توصية منك للسادة المسؤولين.
* أعدك بأن أفعل و وسأزور أيمن في محبسه كأم لكل المصريين.

واقتربت منها امرأة عجوز واحتضنتها وقالت باكية:
- ابني في المعتقل منذ عشر سنوات أخذوه من المسجد وأوشكت أن أموت دون أن أراه وليس لي أحد غيره.
* هل ارتكب جريمة؟.
- أبداً دا بيخاف من خياله! وهو بس كان بيتكلم عن موضوع منع المذيعات المحجبات من العمل في التليفزيون وقال إن ده مخالف للدستور ومخالف لعادات المجتمع المصري اللي أكتر نساؤه محجبات.
* أنا فعلاً مستغربه من القرار ده! طيب ماهي القنوات الفضائية فيها مذيعات محجبات ناجحات جداً. ثم إيه دخل الحجاب بعمل المذيعة هايعطلها في إيه.. وكل واحدة حرة، اللي تتحجب تتحجب واللي ما تتحجبش ده اختيارها الشخصي.. عموماً أنا ها أثير الموضوع ده في المجلس القومي للمرأة لأنه فيه تحيز ضد المرأة المحجبة، واحنا بنناهض أي صورة من صور التحيز والتعصب.. إحنا كلنا مصريين. أما موضوع ابنك فأنا هاكلم المسؤولين وإن شاء الله لو ما كانش عليه حكم قضائي أتمنى يرجع لك قريب جداً.

وتشجع رجل في منتصف العمر يسكن في شارع البحر وهو جار لنا فاشتكى لها من القيادة الجنونية للسيارات في شارع البحر ومن كثرة الحوادث بعد إزالة المطبات الصناعية التي كانت تحد من السرعة الجنونية للشباب المتهور، كما اشتكى من مواكب الأفراح الصاخبة والعابثة في هذا الشارع ومن "تخميس" الشباب بالسيارات بصورة غير حضارية فضلاً عن أنها مزعجة جداً للسكان، وهنا مال عليها أحد رجال المرور وأخبرها بأن المطبات الصناعية في هذا الشارع أزيلت أثناء الزيارات السيادية لأسباب أمنية، ووضح لها أن الانفلات في القيادة وعمليات "التخميس" ومواكب الأفراح المخالفة تأتي غالباً من أبناء وأقارب الضباط والمستشارين وأعضاء الحزب، وأنهم يتحاشون الدخول في مشاكل معهم قدر الإمكان، فنظرت إليه السيدة الأولى في عتاب، وطلبت منه أن يطبق قانون المرور على الكبير قبل الصغير وأوضحت له أنها لا تقول له ذلك بصفتها الشخصية ولكنها أوامر السيد الرئيس.

ووصل الموكب الشعبي دون أي حراسة أمنية إلى استاد المنصورة (مع أن عربات الأمن المركزي انتشرت في الشوارع والحواري المحيطة بالمكان ولكن بشكل خفي حتى لا تغضب السيدة الأولى فهي لا ترغب في أي إجراءات أمنية تزعج الناس أو تحول بينهم وبينها)، ووقفت في وسط الاستاد تصافح الناس وتستمع إليهم، وقد لا حظت شحوب وجوههم وذبول بشرتهم وانكسار نظراتهم وتواضع ثيابهم وظهور آثار أمراض الكبد والكلى عليهم، وعرفت لماذا اختار الدكتور محمد غنيم إقامة معهد الكلى في المنصورة بالذات وشكرته (وكان هو أحد المرافقين لها) على اهتمامه بالفقراء وعلى تفانيه في العمل من أجلهم دون ضجيج إعلامي زائف.

وجاء إليها الناس يشكون غلاء الأسعار فزجاجة الزيت ب 14 جنيه، وكرتونة البيض ب 20 جنيه، وكيلو البطاطس ب 4 جنيه، حتى الفول والعدس (طعام الفقراء) لم يعد بمقدورهم شراءه، والأمراض تستشري فيهم ولا يملكون تكلفة علاجها والمستشفيات الحكومية خالية من أي إمكانات علاجية، والضرائب تتضاعف كل يوم، والفقراء يزدادون فقراً والأثرياء يزدادون ثراءً... وهي تستمع إليهم وتربت على أكتافهم وتمسح دموع أعينهم وتعدهم بأنها ستفعل كل ما بوسعها لتخفف عنهم.

وقد سرّ الناس سروراً عظيماً حين علموا أن سيارات المواد الغذائية وحتى سيارات الكتب جهزتها السيدة الأولى من مالها الخاص وجاءت بها إليهم كهدية بمناسبة قرب حلول شهر رمضان المبارك. واستمر هذا اللقاء الشعبي الدافئ والحميم حتى أذان الفجر، وهنا استيقظت على طرقات عنيفة على باب شقتي الكائنة بشارع البحر بالمنصورة فقمت فزعاً ودار في ذهني كل الاحتمالات المفزعة، وفتحت الباب لأجد من يطلب مني إزالة سيارتي المركونة موازية للرصيف فقلت له إنها في موضع غير مخالف، فقال في حزم حركها في أي مكان آخر وإلا سحبها الونش ورماها في أي مكان، وهنا عدت بذاكرتي إلى زيارات سيادية سابقة حيث كانت تسحب السيارات ومعها سيارتي من أماكنها المشروعة الموازية للرصيف لتلقى في أي مكان، وكنا نقض عدة أيام حتى نجدها وقد تفسخت أثناء سحبها.

وحين زالت عن عيني غشاوة النوم عرفت أن اليوم هو موعد زيارة "السيدة الأولى" حيث أخليت شوارع المنصورة الرئيسية من السيارات تماماً، ومنعت سيارات الميكروباص وسيارات الأجرة القادمة من خارج المنصورة من الدخول وأغلقت غالبية الشوارع وخلت من المارة إلا فيما ندر، وبدت المنصورة وكأنها مدينة أشباح أو مدينة مضروب عليها حظر التجول، وكان رجال المرور ورجال الأمن يجوبون الشوارع بكثافة عالية، وهم في حالة ضغط وتوتر شديدين، وتبدو عليهم علامات الإرهاق فهم في حالة طوارئ منذ أن أعلن عن الزيارة، ومنذ انتشرت لوحات الترحيب والإستقبال في كل مكان في شوارع المدينة وخاصة حول مبنى المحافظة.

وقد أجبر الكثيرون من أصحاب المحلات والورش التي يحتمل أن يمر عليها موكب الزيارة أن يغلقوا محلاتهم وورشهم في هذا اليوم، وليس هذا فقط بل وأن يضعوا لافتات ترحيب أو لافتات تغطي واجهات الورش حتى لا يراها المشاركون في الموكب، وحين اعترض أحدهم قال له الموظف المسؤول:
* احمد ربنا ها تاخد لك يوم راحه تقعد فيه مع عيالك!!.. بس إياك ما تروحش تقضيه على القهوة... وعلى فكرة القهاوي كمان قافله النهارده.. ربنا يقفلها في وشك علشان نرتاح منك ومن أمثالك.
- ياعم أنا راجل أرزقي بعيش يوم بيوم, واليوم اللي باقفل فيه الورشة عيالي ما يلاقوش اللقمة ياكلوها، وأنا ذنبي إيه في الزياره دي واستفدت منها إيه؟.
* طب اسكت بقى أحسن أعمل لك قضية إشغال طريق وقضية تعدي على موظف عام.
- دا رمي جتت بقى، هي ناقصة، دي الحكاية ماشية بطلوع الروح... روح يا شيخ الله..
* كده انت دخلت في الغويط.. روح بيتك واقعد في وسط عيالك أحسن لك واقفل عليك بابك، وما اشوفش وشك في الشارع لحد ما الزيارة دي تخلص على خير، أنا بقى لي كام يوم ما نمتش ومش مستحمل كلمة من حد.
- أمال هي الست جايه تزور مين؟.. مش المفروض هي جايّه علشان الشعب!، ماهو احنا الشعب! انتوا مستعرين منا ليه؟ هو احنا بقينا عورة بتدارونا عن عيون الزوار والمسؤولين؟.. ما تسيبوهم يشوفونا زي ما احنا يمكن قلبهم يحن علينا ويرخصوا الأسعار ويخففوا الضرايب وياخدوا بالهم مننا شوية.. حسبي الله ونعم الوكيل فيكم يا شيخ.
* ياد روّح بيتك واقفل عليك بابك بعد ما تحط فراشه تداري ورشتك العفشة دي وما توجعش دماغي أنا مش ناقصك مأنا في الهم زيّك.
- أمال هي سيادتها هاتقابل مين بقى في الزياره دي، إذا كانت الميكروباصات اتمنعت والعربيات اللي جاية من الأرياف رجعوها، والبياعين أخدوا منهم البضاعة ومشوهم، وما عدش حد في الشوارع؟.
- ياد افهم.. هي ها تروح المحافظة وتقابل أعضاء الحزب، والقيادات المسؤولة علشان تناقش معاهم أحوال الناس الغلابة اللي زيك.
* طب ما تناقشنا احنا على الطبيعة وتشوف أحوالنا زي ماهي من غير زواق ومن غير دهان الأرصفة وزرع الشجر، ومن غير تخبية الناس اللي بجد!.. طب تصدق أنا ما عرفتش المنصورة النهارده.. دي كأنها بلد تانية غير اللي احنا عايشين فيها، ويبقى كده الست كأنها بتزور بلد تانية غير بلدنا.. ما تسيبوها تشوف البلد وهي عمرانة ومليانة بالناس وتشوف الزحام والأسواق والبيّاعين السرّيحة والشحاتين والعيال اللي نايمة على الأرصفة وتحت الكباري، مش همّا دول احنا؟ ها نتبرى من نفسنا ليه؟ ما تسيبوها تشوفنا زي ما احنا.
- بقى انت عايزها تشوف منظرك الجربان ده وانت واقف تشتغل في ورشتك؟! انت والعيال الهفتانين صبيانك؟.
* هو انا مش من أهل البلد دي ولا إيه؟ يعني علشان فقير وهدومي مزيّتة؟.

وانتهى الحوار بأن وقف الأسطة "شحاته" ليعلق لافتة الترحيب يخفي بها ورشته القديمة، ثم يذهب إلى بيته قبل أن يأتي الموكب، وقد أخذ المسافة من طلخا إلى جديلة ماشياً على قدميه لأن المرور منع الميكروباصات الداخلية من الحركة داخل المنصورة في هذا اليوم... وكان يتمتم طول الطريق وهو غارق في عرقه وهمومه قائلاً: حسبي الله ونعم الوكيل.

وانتهت الزيارة "الرسمية جداً" ولم يسمح للناس الحقيقيين ليخرجوا ويصطفوا على جانبي الشوارع يهتفون بحياة السيدة الأولى، واختفى رجال المرور من أغلب الشوارع والميادين ربما كرد فعل لإرهاقهم الشديد طوال الأيام السابقة للزيارة، وخرج الناس "الحقيقيون" من مخابئهم الجبرية بعد زوال الإجراءات الأمنية المفرطة، واختفى الناس الرمزيين والاعتباريين والحزبيين من الشوارع بعد أن أدّوا أدوارهم، وحدثت اختناقات مرورية هائلة بسبب اندفاع السيارات المحتجزة في الشوارع الجانبية وعلى حدود المنصورة منذ الصباح الباكر وهي محملة ببضائع توصلها إلى المحلات التجارية بمناسبة قرب حلول شهر رمضان المعظم أعاده الله عليكم وعلينا بالخير والبركات، والجميع يتقدمون بالشكر للسيدة الأولى على زيارتها، ويعتذرون عن أي أخطاء غير مقصودة تكون قد حدثت أثناء الزيارة!.

واقرأ أيضًا:
ضرب الزوجات للأزواج( العنف العكسي )
/ فن اختيار شريك الحياة (5) الشخبطة السياسية  / الزوج المسافر(4)  / قادة العالم واضطرابات الشخصية(2)  / قراءة في شخصية زويل(2) / إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ(3) / سيكولوجية الرجل / أزمة النمو في شعر عبد الرحمن الأبنودي(7) / هل فعلها المجنون في بني مزار / ظاهرة العنف في المجتمع المصري(3)  / بين الإبداع والابتداع / الذوق والجمال في شخصية المسلم المعاصر / الجانب الأخلاقى فى شخصية المسلم المعاصر / جمال حمدان: المحنة ... العزلة ... العبقرية1 / أسباب فشل الحياة الزوجية / كيف تعاملين زوجك / مؤتمر العلاج بالقرآن بين الدين والطب / الدوافع ودورها في النجاح والتفوق / العادة السرية بين الطب والدين(2) / حين يصل الفساد لمواطن العفة(1) / المعارضة.. من النفس إلى الكون(2) / الباشا والخرسيس / الجنسية المثلية بين الوصم والتفاخر / الزملكاوية!  / الانتصار البديل في الساحة الخضراء / التحول الجنسي بين الطب والدين / شيزوفرينيا / الفهلوة اللغوية العصبية / من المحلة إلى مارينا وبالعكس / الطلاق المتحضر (تسريح بإحسان) / من أين تأتي الأحلام؟ / شورى مهببة.



الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 30/08/2008