إغلاق
 

Bookmark and Share

تاريخ اضطراب الوسواس القهري(11) ::

الكاتب: أ.د مصطفى السعدني
نشرت على الموقع بتاريخ: 10/05/2007

تاريخ اضطراب الوسواس القهري(10)

فصل ومن ذلك الوسوسة في مخارج الحروف والتنطع فيها
ونحن نذكر ما ذكره العلماء بألفاظهم: قال أبو الفرج بن الجوزي: قد لبس إبليس على بعض المصلين في مخارج الحروف فتراه يقول: الحمد الحمد فيخرج بإعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة وتارة يلبس عليه في تحقيق التشديد في إخراج ضاد المغضوب قال: ولقد رأيت من يخرج بصاقه مع إخراج الضاد لقوة تشديده والمراد تحقيق الحرف؛ وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عن فهم التلاوة وكل هذه الوساوس من إبليس.

وقال محمد بن قتيبة في مشكل القرآن: وقد كان الناس يقرؤن القرآن بلغاتهم ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة ولا علم التكلف فهفوا في كثير من الحروف وذلوا فأخلوا ومنهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح وقربه من القلوب بالدين فلم أر فيمن تتبعت في وجوه قراءته أكثر تخليطا ولا أشد اضطرابا منه لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره بغير علة ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز بإفراطه في المد والهمز والإشباع وإفحاشه في الإدغام وحمله المتعلمين على المذهب الصعب وتعسيره على الأمة ما يسره الله تعالى وتضييقه ما فسحه ومن العجب أنه يقرئ الناس بهذه المذاهب ويكره الصلاة بها ففي أي موضع يستعمل هذه القراءة إن كانت الصلاة لا تجوز بها وكان ابن عيينة يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه أو ائتم بإمام يقرأ بقراءته أن يعيد ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين منهم بشر بن الحارث والإمام أحمد بن حنبل وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقتهم وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها وطول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها فإذا رأوه قد اختلف في أم الكتاب عشرا وفي مائة آية شهرا وفي السبع الطوال حولا ورأوه عند قراءته مائل الشدقين دار الوريدين راشح الجبين توهموا أن ذلك لفضله في القراءة وحذقه بها وليس هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خيار السلف ولا التابعين ولا القراء العالمين بل كانت سهلة رسلة.

وقال الخلال في الجامع: عن أبي عبد الله إنه قال: لا أحب قراءة فلان يعني هذا الذي أشار إليه ابن قتيبة وكرهها كراهية شديدة وجعل يعجب من قراءته وقال: لا يعجبني فإن كان رجل يقبل منك فانهه، وحكى عن ابن المبارك عن الربيع بن أنس: أنه نهاه عنها. 
وقال الفضل بن زياد: إن رجلا قال لأبي عبد الله: فما أترك من قراءته قال: الإدغام والكسر ليس يعرف في لغة من لغات العرب، وسأله عبد الله ابنه عنها فقال: أكره الكسر الشديد والإضجاع.
وقال في موضع آخر: إن لم يدغم ولم يضجع ذلك الإضجاع فلا بأس به.
وسأله الحسن بن محمد بن الحارث: أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة قال أكرهه أشد كراهة إنما هي قراءة محدثة وكرهها شديدا حتى غضب.
وروى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها فقال: أكرهها أشد الكراهة قيل له: ما تكره منها قال: هي قراءة محدثة ما قرأ بها أحد.
وروى جعفر بن محمد عنه أنه سئل عنها فكرهها وقال: كرهها ابن إدريس وأراه قال: وعبد الرحمن بن مهدي وقال: ما أدري إيش هذه القراءة ثم قال: وقراءتهم ليست تشبه كلام العرب.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو صليت خلف من يقرأ بها لأعدت الصلاة.
ونص أحمد رحمه الله على أنه يعيد وعنه رواية أخرى: أنه لا يعيد
والمقصود: أن الأئمة كرهوا التنطع والغلو في النطق بالحرف.
ومن تأمل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراراه أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق والوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته.

فصل في الجواب عما احتج به أهل الوسواس أما قولهم: إن ما نفعله احتياط لا وسواس
قلنا: سموه ما شئتم فنحن نسألكم: هل هو موافق لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره وما كان عليه أصحابه أو مخالف، فإن زعمتم أنه موافق فبهت وكذب صريح فإذن لابد من الإقرار بعدم موافقته وأنه مخالف له فلا ينفعكم. تسمية ذلك احتياطا وهذا نظير من ارتكب محظورا وسماه بغير اسمه كما يسمي الخمر بغير اسمها والربا معاملة والتحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله: نكاحا ونقر الصلاة الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فاعله لم يصل وأنه لا تجزيه صلاته ولا يقبلها الله تعالى منه: تخفيفا فهكذا تسمية الغلو في الدين والتنطع: احتياطا .

وينبغي أن يعلم أن الاحتياط الذي ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه: الاحتياط في موافقة السنة وترك مخالفتها فالاحتياط كل الاحتياط في ذلك وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة بل ترك حقيقة الاحتياط في ذلك، وكذلك المتسرعون إلى وقوع الطلاق في موارد النزاع الذي اختلف فيه الأئمة كطلاق المكره وطلاق السكران والبتة وجمع الثلاث والطلاق بمجرد النية والطلاق المؤجل المعلوم مجيء أجله واليمين بالطلاق وغير ذلك مما تنازع فيه العلماء إذا أوقعه المفتي تقليدا بغير برهان وقال: ذلك احتياط للفروج فقد ترك معنى الاحتياط فإنه يحرم الفرج على هذا ويبيحه لغيره فأين الاحتياط ههنا بل لو أبقاه على حاله حتى تجمع الأمة على تحريمه وإخراجه عمن هو حلال له أو يأتي برهان من الله ورسوله على ذلك لكان قد عمل بالاحتياط ونص على مثل ذلك الإمام أحمد في طلاق السكران.

فقال في رواية أبي طالب: والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر بالطلاق فقد أتى خصلتين: حرمها عليه وأحلها لغيره فهذا خير من هذا فلا يمكن الاحتياط في وقوع الطلاق إلا حيث أجمعت الأمة أو كان هناك نص عن الله ورسوله يجب المصير إليه.
قال شيخنا: والاحتياط حسن ما لم يفض بصاحبه إلى مخالفة فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط.
وبهذا خرج الجواب عن احتجاجهم بقوله صلى الله عليه وسلم من ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه وقوله: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقوله الإثم ما حاك في الصدر فهذا كله من أقوى الحجج على بطلان الوسواس فإن الشبهات ما يشتبه فيه الحق بالباطل والحلال بالحرام على وجه لا يكون فيه دليل على أحد الجانبين أو تتعارض الأمارتان عنده فلا تترجح في ظنه إحداهما فيشتبه عليه هذا بهذا فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ترك المشتبه والعدول إلى الواضح الجلي.

ومعلوم أن غاية الوسواس أن يشتبه على صاحبه: هل هو طاعة وقربة أم معصية وبدعة هذا أحسن أحواله والواضح الجلي هو اتباع طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سنه للأمة قولا وعملا فمن أراد ترك الشبهات عدل عن ذلك المشتبه إلى هذا الواضح فكيف ولا شبهة بحمد الله هناك إذ قد ثبت بالسنة أنه تنطع وغلو فالمصير إليه ترك للسنة وأخذ بالبدعة وترك لما يحبه الله تعالى ويرضاه وأخذ بما يكرهه ويبغضه ولا يتقرب به إليه ألبتة فإنه لا يتقرب إليه إلا بما شرع لا بما يهواه العبد ويفعله من تلقاء نفسه فهذا هو الذي يحيك في الصدر ويتردد في القلب وهو حواز القلوب.

وأما التمرة التي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلها وقال: أخشى أن تكون من الصدقة فذلك من باب اتقاء الشبهات وترك ما اشتبه فيه الحلال بالحرام فإن التمرة كانت قد وجدها في بيته وكان يؤتى بتمر الصدقة يقسمه على من تحل له الصدقة ويدخل بيته تمر يقتات منه أهله فكان في بيته النوعان فلما وجد تلك التمرة لم يدر عليه الصلاة والسلام من أي النوعين هي فأمسك عن أكلها فهذا الحديث أصل في الورع واتقاء الشبهات فما لأهل الوسواس وماله.
                                                       
وللحديث بقية............



الكاتب: أ.د مصطفى السعدني
نشرت على الموقع بتاريخ: 10/05/2007