إغلاق
 

Bookmark and Share

اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع: وصف ::

الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 27/02/2008


الصورة المرضية لمتلازمة اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع


بينت دراسة ضمت أكبر مجموعة حالات حتى الآن (Baker et al, 2003) أن متوسط السن الذي تبدأ عنده أعراض اضطراب اختلال الإنية هو سن 22,8 سنة رغم أن 30% من أفراد العينة ذكروا بداية لأعراضهم عند سن 16 سنة...... وعادة ما تكون الأعراض في بداية الأمر نوبية في صورة نوبات قصيرة متقطعة بينها فترات من السواء النسبي...... وبالتدريج تصبح النوبات أطول وأشد قوة وإرباكا إلى أن يصبح الوعي باختلال الإنية و/أو تبدل الواقع شاملا وغير منقطع..... وإن وصف بعض المرضى فترات من تغير شدة الأعراض زيادة ونقصا لكن دونما غياب كامل للأعراض كالذي عرفه البعض في بداية المرض؛

ويصف بعض المرضى أشياء أو أوضاع أو مواقف تزيد أعراضهم سوءًا فبينما تزيد الإضاءة الصناعية والغيوم من شدة الأعراض فإن التريض البدني وشرب بعض الخمر قد يقلل من وطأة الوعي بالأعراض وقد يصبح بعض المرضى مدمني خمرٍ جراء ذلك وإن لم يكن هذا شائعا حسب دراسة غربية
(Baker et al, 2003).... وأحيانا يذكر المرضى أن فترات الكرب النفسي Psychological Stress من أهم مفجرات Precipitants أو معززات الأعراض......... ويربط بعض المرضى بداية الأعراض باستعمال أحد أنواع المخدرات خاصة الحشيش أو البانجو إلا أن مسار حالاتهم المرضي لا يبدو مختلفا عن غيرهم من المرضى حسب دراسة غربية (Medford et al, 2003)

ونستطيع أن نقول أيضًا أننا في حياة هؤلاء المرضى كثيرا ما نجد عددا من العوامل التي قد تعتبر يوما في الأدبيات العلمية عوامل مهيئة 
Predisposing Factors فمثلا:
- نجد أحد أفراد الأسرة
(قريبا من الدرجة الأولى أو الثانية) مصابا أو أصيب بحالة مشابهة في نسبة ربما تقارب 10%
- التعرض في الصغر لشتى أنواع الضرار المعروفة في الأطفال كالتحرش الجنسي والحرمان العاطفي والضرار الجسدي والتعرض للعنف مشاهدة، هو تاريخ شخصاني كثيرا ما يكون موجودا في مرضى اضطراب اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع
- وجود تاريخ مرضي لاضطراب قلق أو اكتئاب أو كليهما ربما في نصف المرضى أو أكثر.
- كثيرا ما يعطي المرضى تاريخا مرضيا للشقيقة (الصداع النصفي Migraine headache ).
 
وفي الحالات التي يكون فيها عرض اختلال الوعي بالجسد
Desomatization  (الفصل عن الشعور بالجسد أو أعضائه أو حرمان الشخص من الشعور السهل بجسده أو بأحد أعضائه بشكلٍ جزئي أو كامل) عرضا طاغيا يصل الأمر ببعض المرضى إلى إحداث إيذاء متعمد للجسد طلبا للشعور بوجوده وإن كان ذلك نادرا ما يحدث بصورة منتظمة في غير مضطربي الشخصية، إلا أن شكوى هؤلاء من خدر المشاعر أو انعدامها قد يتجاهله المعالجون في خضم الاهتمام بالاضطراب النفسي الأعمق أو الأكبر.

ومن المهم في الحالات التي يصف أصحابها نوبات متطابقة من أعراض اختلال الإنية أو تبدل الواقع مع ارتباك سلوكي معرفي مطابق أيضًا في صورة نوبات يكون المريض صحيحا فيما بينها، من المهم في هذه الحالة تقصي احتمال وجود اضطراب صرْعي من نوع صرع الفص الصدغي
Temporal Lobe Epilepsy (فالنوبات الصرعية هي حالات نوبية تتكرر دائما بنفس الشكل وبين النوبة والنوبة يكون المريض صحيحا خاليا من أي عرض، بينما مريض اختلال الإنية المعني بهذا المقال هو مريض دائم المعاناة مزمنها).... ورغم ذلك فإن متوسط المدة التي تمضي فيها معاناة مريض اختلال الإنية حتى تُعرضَ الحالة على طبيب نفسي يشخصها تشخيصا صحيحا كان 12 سنة في الدراسة الغربية (Baker et al, 2003) وتبدو قلة الوعي بالاضطراب سواء لدى الطبيب العام أو حتى أطباء الطب النفسي العام سببا في ذلك.

وتضاف إلى إشكالية فُقدان كثير من حالات اختلال الإنية الفوز بانتباه المعالجين النفسانيين لعرض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع كعرض مرضي مستقل يستحق الالتفات والدراسة، تضاف عدة قضايا تزيد من عمق الإشكالية ولعل أهمها
-بعد صعوبة التعبير عن الخبرة نفسها من قبل المريض بما يجعل الأمر غير مفهوم لعامة الناس- ما يلي:

(1) كثيرا ما يظهر المرضى أعراضا وسواسية تتمثل في المراقبة الوسواسية للذات Obsessional Self-Observation أو الفحص الذاتي الوسواسي obsessional self-monitoring فيصف المريض تساؤلات متعلقة بأعراضه مثل: "إذا لم أكن أنا فعلا أنا، فمن إذن أكون؟؟" أو "كيف تكون مشاعري موجودة وغير موجودة في نفس الوقت؟؟" أو "أحيانا أحتاج أن أتأكد من أن اسمي هو اسمي بأن أنظر في رقمي القومي تخيل يا دكتور؟!" أو "أحيانا أحتاج للمرآة لأتأكد أنني موجود وحيٌّ ما زلت"... أو "كيف تكون الأشياء حقيقية وواقعية وتبدو لي غير ذلك؟؟" وتظهر سمات تفكير المريض الوسواسية بشكل يوجه المقابلة الإكلينيكية في اتجاه اعتبار اختلال الإنية جزءًا من تشخيص آخر، خاصة وأنه في بعض هذه الحالات بل كثيرا ما توجد أعراض اضطراب وسواس قهري أو شخصية قسرية (وسواسية)....

وهذا ما يسرق تركيز كثيرين من الأطباء النفسانيين فيشخصون الوسواس القهري أو الشخصية القسرية
(الوسواسية).... ويزيد الصورة ارتباكا أن نسبة تواكب اضطراب الوسواس القهري مع اضطراب اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع تصل إلى 6% وربما أكثر، كما أن معظم مرضى اضطراب اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع المزمنين يظهرون سمات وسواسية ولو لم ترقى شدتها لدرجة تسمح بتشخيص وسواس قهري.

(2) يعتبر عرض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع عرضا مبكرا في حالات الاكتئاب الجسيم (فيشتكي المريض مرحليا من ضحالة أو ضعف مشاعره أو تغيرها بشكل أو بآخر إلى أن تطغى عليه أعراض الاكتئاب بعد ذلك) وفي حالات اضطرابات القلق المختلفة.... فمثلا يعتبر اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع أحد الأعراض الشهيرة لنوبة الهلع والتي كثيرا ما تكون بداية لأي من اضطرابات القلق الرهابي أو الوسواسي أو المتعمم، مثلما يمكن أن تكون بداية لاضطراب اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع......

ومما يزيد الصورة ارتباكا أن نسبة تصل إلى 43% (Baker et al, 2003) من مرضى اضطراب اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع يعطون تاريخا مرضيا لأحد اضطرابات القلق أو لنوبة هلع وأحيانا نجد من التزامن الوقتي ما يسمح باعتبار أعراض اضطراب القلق أو نوبة الهلع صورة من صور بداية اضطراب اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع.... حيث لا توجد أعراض اضطراب القلق أيا كان نوعه ويركز المريض وتتمحور شكواه حول أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع، بينما نجد تواكبا بين أعراض اضطراب اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع وأعراض أحد اضطرابات القلق في نفس المريض في نفس الوقت وفي هذه الحالة يبدو كلا الاضطرابين وكأنه يعزز الآخر ويشد من وطأته على المريض، فيغذي الشعور بالغرابة والانفصال عن الكيان النفسي أعراض وعلامات القلق النفسي ويزيد الأخير من وقع الأول.... وبالتالي فإن الطبيب النفسي أحيانا يجد نفسه أمام أكثر منن تشخيص في نفس الحالة.

(3)
كثيرا ما تؤدي طريقة وصف المريض لأعراض اضطراب اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع إلى تشخيص أو الاشتباه في تشخيص اضطراب ذهاني بحجم الفصام، فمثلا يجد المريض صعوبة في توضيح كيف أنه يشعر أنه غير موجود في الواقع المعاش أو أنه أصبح شخصا آليا أو أنه "لا يعرف نفسه أو وجهه في المرآة" أو كيف يشعر بأن العالم لم يعد حقيقيا... أو الأشياء تبدو أصغر أو أكبر أو أكثر أو أقل وضوحا من ذي قبل..... وربما لو صاغها بشكل تقريري أو لم ينتبه طبيبه لقولة "كأن" As if  التي تميز خبرات اختلال الإنية تبدل الواقع، أو استخدم المريض كثيرا من التعبير المجازي مستخدما التشبيهات والاستعارات كمن يقول: "أشعر أنني أصبحت نصفين نصف يراقب الآخر"، أو  "أنا أصبحت شبحا غير موجود" فمثل هذا الأسلوب التقريري إذا لم يتحقق الطبيب النفساني من أنه شعور أو وعيٌّ قابل للنقاش، وليس اعتقادا راسخا (فكرة وهامية Delusional Thought) بحدوث هذا التغير، إذا لم يتأكد الطبيب النفساني من سلامة استبصار الشخص بالواقع فإن كثيرين يشخصون فصاما بالخطأ وغالبا ما تؤدي مضادات الذهان إلى تدهور الأعراض.

(4) عندما تقتصر أعراض اضطراب اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع على تشويهات الإدراك البصري مثلا أو تطغى أهمية مثل هذه الأعراض على شكوى المريض، كأن يجد المريض الألوان أقل حيوية أو يرى الأشياء مسطحة ثنائية الأبعاد (أي بل عمق) فيعرض نفسه على أطباء العيون ويوجد في مجتمعاتنا منهم من يتحرج من تحويل المريض إلى التخصص النفساني، وقد رأيت من مرضى اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع من ساقه تركيزه على فقدان إحساسه بنسمة الصباح إلى عرض نفسه على أطباء الأنف والأذن والحنجرة...

المراجع:

Baker, D., Hunter, E., Lawrence, E., et al (2003): Depersonalisation disorder: clinical features of 204 cases. British Journal of Psychiatry, 182, 428–433.
Medford, N., Baker, D., Hunter, E., et al (2003): Chronic depersonalization following illicit drug use: a controlled analysis of 40 cases. Addiction, 12, 1731–1736.



الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 27/02/2008