إغلاق
 

Bookmark and Share

اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع: الأسباب ::

الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 04/03/2008

 

ليست أسباب أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع معروفة على وجه التحديد أو الدقة، وكل ما هنالك هو بعض النظريات والفرضيات وطرق الفهم لتلك الأعراض، فهناك نظريات نفسية وهناك نظريات بيولوجية وكلها محاولاتٌ لتفسير سبب تلك الأعراض ولماذا تستمر عند بعض الناس دون آخرين؟، وقديمة هي الفكرة التي تقول: عندما يتعرض الأشخاص الطبيعيون إلى خطر محدق مهدد للحياة أو يرونه كذلك فإن بعض أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع تحدث لكل واحد منهم تقريبا، .... هذه الفكرة القديمة أثبتتها الدراسات حديثا (Noyes & Kletti,1977).....حتى أصبح من المعقول اعتبار بعض تلك الأعراض استجابة إنسانية طبيعية للخطر المحدق... ومن الجائز أن يكون حدوث ذلك في بعض الأشخاص من ذوي استعداد معين مؤديا إلى السقوط في براثن اضطراب اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع، وقد يصح أن بعض الناس أكثر حساسية لتلقي علامات الخطر.... ومن المنطقي كذلك أن تفجر نوبات القلق أو الخوف الشديد أو الشعور بتهديد الموت أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع وقد تكون الأخيرة عابرة وقد تستمر....

وتجمع النظريات النفسية (Sedman, 1970) والبيولوجية (Sierra & Berrios, 1998) على اقتراح أن نقطة البدء في أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع هي أن الاستجابات الانفعالية الطبيعية تغلق بشكل أو بآخر (أو تنغلق عن الشخص وهو ما نراه فصلا كاملا أو جزئيا عن الوعي بالمشاعر أي انغلاق الوجدان
de-affectualisation ) ويصاحب ذلك الانغلاق فقد لطعم مشاعر الشخص بذاته Depersonification   وبجسده desomatisation و/أو بمحيطه في الواقع المعاش derealisation ..... معنى ذلك أن انغلاق الوجدان (أي انغلاقه عن صاحبه) هو ما يربك وعيه بذاته و/أو جسده و/أو محيطه فتنشأ خبرة اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع مع ما يصحبها من شعور بالاستغراب وفقدان الألفة، وما لم تكن تلك الخبرة عابرة وغير متكررة (ومفسَّرة لدى الشخص) أي إذا أصبحت الخبرة مستمرة فإنها تولد القلق في صاحبها ويؤدي القلق مع محاولات الاستبطان لما في الوجدان إلى مزيدٍ من الشعور بالتغير والاستغراب وفقدان الألفة وتكتمل الحلقة المفرغة بين اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع والقلق في أي من أشكاله، وهذا الفهم للعلاقة بين اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع والقلق هي حجر أساس العلاج المعرفي السلوكي الحديث لهذا الاضطراب (Hunter et al, 2003).

النظريات البيولوجية:
بينت تقنيات التصوير الوظيفي للمخ الحديثة (Phillips et al, 2001) وكذلك الأبحاث النفسية الفسيولوجية
psycho-physiological أيضًا (Sierra et al, 2002) وجود دليل موضوعي على استجابة فسيولوجية غير طبيعية في المخ متماشية مع تقارير مرضى اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع حول فقدانهم لصدى مشاعرهم (انغلاق الوجدان)، ويفترض أن مناطق المخ المسئولة عن انغلاق الوجدان هي (Sierra & Berrios, 1998) مناطق المخ قبل الجبهية prefrontal regions التي تثبط بعض أنحاء الجهاز الحوفي limbic areas خاصة اللوزتين amygdale إضافة للتأثير المتبادل لكل من الجزء الظهري الجانبي الأيمن للقشرة المخية right dorsolateral prefrontal cortex والقشرة الحزامية الأمامية Anterior Cingulate Cortex وتلعب الأخيرة دورا هاما في تنظيم الاستجابة الانفعالية (Drevets, 2000)، ومن خلال هذه الدراسات وغيرها نستطيع القول بأن هناك تراكما للدلائل التي تشير إلى دور مناطق القشرة المخية قبل الجبهية في تثبيط الاستجابة الانفعالية الطبيعية في مرضى اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع إلا أن التفاصيل التشريحية الدقيقة لما يحدث ما تزال تنتظر معرفة علمية أكبر، وأما محاولات البحث عن دور للهرمونات في أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع فقد بينت أن زيادة شدة الأعراض يقابلها نقص في مستوى النورأدرينالين في البول (Simeon et al, 2003) بينما أعطت محاولات دراسة تغيرات مستوى هرمون الكورتيزون نتائج متضاربة (2005 ,Medford et al).

النظريات النفسية:
يعتبر كثيرون من علماء النفس والأطباء النفسانيين أن الخلل الأساسي في أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع إنما هو خلل في وظيفة الإدراك
perception وهذا هو أكثر الآراء شيوعا (Korkina, 1971) و(Jaspers, 1932)، كذلك أرجع البعض الخلل الأساسي إلى خلل في وظيفة العواطف emotions وأجريت دراسات تثبت أنها هي العامل الأهم ونقطة البدء لخبرة اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع (Sedman, 1970) وكذلك أن ارتباطها قوي جدا بالحالة الوجدانية وسمات الشخصية بغض النظر عن معطيات الحالة الإكلينيكية (Sedman & Reed,1963)، كذلك رأى آخرون أن الخلل الأساسي خلل في وظيفة الذاكرة فمنهم من رأى فيها نشاطا مفرطا للذاكرة في مقارنة الذات المتغيرة كل لحظة بصورة الذات الأولية (Janet, 1908)، ومنهم من رأى أهمية مراقبة الذات واستبطانها حول التفاصيل التافهة (Schilder, 1914)، وأما الرخاوي (Rakhawy, 1994) فرآها ظاهرة متعددة الوجوه تنشأ أساسا من تغير في خاصية إدراك الشخص لذاته وللواقع المحيط، ورآها الرخاوي على متصل يبدأ من الشعور المستغرب بتغير الإدراك ويصل إلى الفكرة الوهامية Delusional Thought فإذا اقتصرت على تغير الإدراك اعتبرت اضطراب إدراك، وإذا وصلت إلى حد الاقتناع الوهامي اعتبرت وهام اختلال الإنية delusion of depersonalization وبين هذين يمكن أن نرى حالات كثيرة يسود الاضطراب في المشاعر المتسم بالاستغراب الصورة الإكلينيكية.

إذن لا يوجد اتفاق بين النظريات المختلفة حول ما منشأ الخلل في حالات اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع أي لا توجد إجابة مؤكدة لسؤال ما هي الوظيفة النفسية التي يعتبر اختلالها هو العامل الأول، ولا يوجد اتفاق كذلك بين نتائج الدراسات التي حاولت ربط  اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع بسماتٍ معينة في الشخصية إلا أن كثيرين يجدون رابطا مع سمات الشخصية الوسواسية anankastic personality traits (Videbech, 1975)، وهناك من وجد تناسبا طرديا بين هذه السمات وبين شدة ومعدل حدوث أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع (Skoog, 1965).

نظرية التحليل النفسي
طرحت رؤى عديدة من قبل أتباع نظرية التحليل النفسي حول آلية إحداث واستمرار متلازمة اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع ولكن هذه الرؤى العديدة تتفق على فكرة أن اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع هو حيلة دفاعية ضد أو هو نتيجة لصراع نفسي يهدد السلامة النفسية للذات Ackner, 1954)) ومن الأمثلة على تلك الرؤى رؤية تورش (Torch, 1987) والتي تمثل رؤية التحليل النفسي المكتملة والمعاصرة حيث يؤكد على دور الآباء والأمهات اللحوحين والذين يصعب على الطفل إرضاؤهم فيشعرانه دائما بالنقص مما يشكل لديه شعورا دائما بالنقص وعدمن القدرة على الأداء المستحسن فيسقط في فخ الفحصِ الذاتيِ الاستحواذيِ (الوسواسي)...... وهذا الطرح بالطبع لا يمكن تعميمه على المرضى وأسرهم، ورغم أنني مقتنع بالجزء الأخير (أي فحص الذات الوسواسي كعامل أساسي في مشكلة مرضى اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع) إلا أنني مؤمن بأن أسباب حدوث متلازمة اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع قد لا تكون في السنين الأولى من العمر دائما، هذا بالرغم من أن نتائج دراسة حديثة (Simeon et al, 2001) بينت علاقة بين الضرار العاطفي في الطفولة وحدوث أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع فيما يلي من العمر، وأرى أن نتائجها كانت متأثرة بشكلٍ أو بآخر برؤية اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع شكلا من أشكال الانشقاق متبعين في ذلك توجه التصنيف الأمريكي.

النظرية المعرفية السلوكية:
ينظر إلى اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع من وجهة نظر المعرفيين على أنه أكثر ارتباطا باضطرابات القلق منه إلى الاضطرابات الانشقاقية (Hunter et al, 2003)، فبغض النظر عن أسباب حدوث خبرة اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع الأولى (فقد تكون كربا نفسيا شديدا وقد تكون نتيجة تغير في الحالة النفسية بسبب قلقٍ أو اكتئابٍ أو استخدام مخدر) فإن ما يجعل هذه الخبرة مستمرة ومعيقة هو تفسيرها من قبل المريض على أنها مهددة جدا وهو ما يسمى بالتفسير الكارثي
catastrophic attribution وهو ما يؤدي به لأفكار وسلوكيات يمكن جدا أن تزيد من سخافة وصعوبة الأعراض وتعزيزها واستمرارها بالتالي.

باختصار ليست أسباب اختلال الإنية معروفة حتى الآن ومقارنة النظريات المختلفة بناء على نتائج المحاولات العلاجية المبنية على أساسها تجعل النظرية المعرفية السلوكية تحتل الصدارة لأنها حتى الآن هي الأكثر فائدة في بناء أساليب مناجزة وعلاج. 

المراجع:

Noyes, R. & Kletti, R. (1977): Depersonalization in response to life-threatening danger. Comprehensive Psychiatry, 8, 375–384.
Sedman, G. (1970): Theories of depersonalization: a reappraisal. British Journal of Psychiatry, 117, 1–14.
Sierra, M. & Berrios, G. E. (1998): Depersonalization: neurobiological perspectives. Biological Psychiatry, 44, 898– 908.
Hunter, E. C. M., Phillips, M. L., Chalder, T., et al (2003): Depersonalisation disorder: a cognitive–behavioural conceptualization. Behaviour Research and Therapy, 41,1451–1467.
Phillips, M. L., Medford, N., Senior, C., et al (2001): Depersonalization disorder: thinking without feeling. Psychiatry Research Neuroimaging, 108, 145–160.
Sierra, M., Senior, C., Dalton, J., et al (2002): Autonomic response in depersonalization disorder. Archives of GeneralPsychiatry, 59, 833–838.
Sierra, M. & Berrios, G. E. (1998): Depersonalization: neurobiological perspectives. Biological Psychiatry, 44, 898– 908.
Drevets, W. C. (2000): Neuroimaging studies of mood disorders. Biological Psychiatry, 48, 813–829.
Simeon, D., Guralnik, O., Knutelska, M., et al (2003): Basal norepinephrine in depersonalization disorder. Psychiatry Research, 121, 93–97.
Medford, N., Sierra, M., Baker, D. & David, A.S. (2005): Understanding and treating depersonalisation disorder. Advances in Psychiatric Treatment (2005), vol. 11, 92–100.
Korkina, M. (1971): “The Syndrome of Derealization in Adolescence”. In: Modern Perspective in Adolescent Psychiatry. Edited by John, G., Howells, Oliver-Boyd. Edinburgh.
 Jaspers, K. (1923): “Allgemeine Psychopatologie”. 7th Edition. Heidelberg. Translated (1959) as “General Psychopathology” by J. Hoenig and M. W. Hamilton. Manchester: Manchester University Press.
 Sedman, G. (1970): “Theorien of Depersonalization: A Re-appraisal”. Brit J Psychiat, 117:1-14.
 Sedman, G. and Reed, G. (1963): “Depersonalization Phenomena in Obsessional Personalities and in Depression”. Brit J Psychiat, 109:376-379.
 Janet P. (1908): “Les Obsessions et la Psychathenie”. Paris” Alcan. In Kaplan, H. Freedman, A. and Sadock, B. (1980).
 Schilder, P. (1914): “Selbstbewusstse und personulichkeits Bewusstsein”. Monographien aus. d. Neurologie U. Psychiatric. Berlin: Spring 120. In Slater, E. and Roth, M. (1979).
 Rakhawy, Y. (1994): “Descriptive Psychopathology [with special reference to Egyptian (& Arab) culture]: symptomatology of Psychiatric Disorders”. Draft (III), Evolutionary Psychiatric Association Publications, Cairo.
 Videbech, T. (1975): “The Psychopathology of Anancastic Endogenous Depression”. Acta Psychiat Scand, 52:345-348.
 Skoog, G. (1965): “Onset of the Anankastic Conditions”. Acta Psychiat Scand, 41(Supp1 184):131-133.
Ackner, B. (1954): Depersonalization I. Aetiology and phenomenology. Journal of Mental Science, 100, 838–853.
Torch, E. M. (1987): The psychotherapeutic treatment of depersonalization disorder. Hillside Journal of Clinical Psychiatry, 9, 133–143.
 

اقرأ أيضاً:
اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع: وصف
اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع مقدمة



الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 04/03/2008