إغلاق
 

Bookmark and Share

القرف أو الاشمئزاز في الموسوسين مقدمة ::

الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 15/03/2008


من الأمور التي استرعت انتباهي منذ سنوات رد فعل الموسوسين لانفعال الاشمئزاز أو القرف Disgust Emotion فكان أول ما لاحظته عند بعضهم هو خلطهم بين مشاعر الضيق من تصرف شخص ما ومشاعر القرف أو الاشمئزاز من ذلك الشخص وكل ما يخصه... حيث تصبح كل متعلقات ذلك الشخص محدثات لأحداثٍ عقلية تسلطية Obsessions محورها القرف، مع ما يستتبعه ذلك من أفعالٍ قهرية Compulsions وطريقة تفكير من النوع السحري Magical Thinking.... وليكون الكلام واضحا أعطي مثلا:

"بعد سنوات من معاناتها هي وأسرتها من وسواس قهري مزمن محوره الخوف من العدوى والمرض على خلفية شخصية قسرية دون محاولة علاج لسنوات ثم محاولات لم تكتمل..... تزوج زوجها بأخرى.... وبدأت تعيش سلسلة من أفعال التجنب القهرية Avoidance Compulsions لزوجها وكل ما قد يلامسه بل أحيانا ما تقع عيناه عليه... وتظهر كأنها تتحاشى عدوى ما مثلا من الكرسي الذي جلس عليه... أو من كرسي سيارته الجديدة التي جاورته فيه زوجته الثانية بل وصل الأمر إلى حدوث استجابة القرف من مجرد ذكر اسم المحافظة التي ينتمي لها زوجها... ثم باستفهام سبب أفعالها منها تجد لا ما يشير إلى الخوف من عدوى أو من خطرٍ ما وإنما تجد ما يشير إلى الاشمئزاز أو القرف"..... فهل الضيق مولد طبيعي للاشمئزاز أو القرف؟....... بالتأكيد ليس الضيق مولدا للأفعال القهرية في الإنسان... بينما قد يكون القرف أحيانا مولدا معقولا لأن تغسل يديك أكثر من مرة!، ومثالٌ آخر ذلك الشاب الذي عرفت منه بعد ستة أشهر من رحلة علاجية توالي نجاحها بفضل الله، فاجأني بعدما بدأت أستفهم منه ومعه عن دور القرف في حالته أن البداية الأولى لأعراضه وهو طفل في الابتدائية كانت بسبب القرف المفرط! 

سألته كيف قال "يا دكتور أنا كنت متفوقا كنت الأول دائما على كل المدرسة وكنت المقدم دائما لمسابقات أوائل الطلاب لأمثل المدرسة ثم المحافظة وهكذا.. وكان الكل يهتم بهذا الموضوع... لا أدري كيف أيامها كنت أشعر بالقرف ممن لا يذاكرون وأشعر أنني لو جلست مكان أحدهم لأصابني ما فيه من عدم المذاكرة".... قلت له: هل هي عدوى تخاف منها... قال: "لا لكن ما شرحته لي من أن المعدة التي تضطرب واللعاب الذي يتزايد والشعور بالغثيان من أهم ما نفرق به بين الخوف والقرف، هذا يساعدني الآن أن أقول لك أنه قرف أكثر منه خوف هو هذا ما كان يدفعني إلى فعل ما عرفت منك بعد ذلك أنها أفعال قهرية أنا حياتي اتخذت مناحٍ غريبة وتعذبت كثيرا وكان المحور الأول هو القرف نعم وليس الخوف".   

دفعني ذلك إلى التساؤل عن مثيرات القرف أو الاشمئزاز في الإنسان الطبيعي ثم مثيراته في الموسوس... وطرق الاستجابة للقرف Disgust Response في كليهما..... فأما مثيرات الاشمئزاز أو القرف في الإنسان فتشمل:
1- ما يتعلق بالحيوان Animal Related : فبعض الحيوانات المعروفة بقذارتها أو قذارة بيئتها أو مأكولها كالخنازير مثلا مثيرة للقرف، وبعض الحيوانات الصغيرة كالصراصير والفئران كذلك مثيرة للقرف مثلما غيرها، وكذلك جسد الحيوان الميت بغض النظر عن تعفنه.

2- ما يتعلق بالمأكول Food Related : كالطعام الملوث بشكل أو بآخر أو الطعام أو الشراب المستقاء أو المتفول بعد تذوقه أو مضغه أو الطعام الفاسد أو المتعفن.

3- ما يتعلق بالجسد Human Body Related :
- كل إفرازات الجسد تقريبا يمكن أن تكون مثيرة لقرف بعض الناس.... فالعرق والرائحة واللعاب والمني والبول والبراز والصديد والدم ودم الحيض وكل ما يفرزه الجسد -باستثناء الدموع ربما لأنها تستثير فينا التعاطف-
- ما يتعلق بهتك غلاف الجسد كالجروح أو تقطيع أعضائه أو تشويهه بشكل أو بآخر أو الجسد الميت (الجثث بشكل عام).

4-
الجنس المنحرف Culturally Deviant Sex بشكلٍ أو بآخر داخل تقاليد ثقافة ما كاللواط والسحاق وغيرهما.

5- المُشَبِّه السحري Sympathetic Magic ويعني هذا المفهوم قدرة ونزوع مثيرات القرف بالنسبة لشخص ما إلى نقل خاصية إثارة القرف لأشياء كانت من قبل لا تستثيره عند ذلك الشخص، ويضم هذا المفهوم أشكالا كثيرة تبدأ من رفض أطفال ما بين الرابعة والثامنة من العمر أكل الشيكولاتة إذا قدمت لهم على شكل براز الكلب (رغم معرفتهم أنها الشيكولاتة التي يحبون) فكونها تقدم على شكل براز يستثير لديهم الشعور بالقرف... أو رفض بعض أطفال المصريين في سن ما بين الرابعة والثامنة أكل نوع من الفاكهة بسبب أنه يسمى "كاكا" وهو نفس الاسم الذي يطلق على البراز!، أو رفض السيدات طبخ القلقاس بسبب ما يفرزه من مادة غروية لزجة.. أو قرفهن من لعبة طفل لها ملمس مخاطي... كذلك فإن مثيرات القرف بين الشخصاني أو القرف الأخلاقي تمتلك نفس القدرة والنزوع.... بما يوصل إلى حد رفض كثيرين ارتداء رداء نظيف لمجرد أن مجرما أو شاذا أو مذنبا بشكل أو بآخر كان يرتديه.

6- سلوكيات مستهجنة اجتماعيا Culturally Unaccepted Behaviors فالناس يشعرون بالاشمئزاز تجاه سلوكيات كالنفاق والخيانة والقتل والتفرقة العنصرية.

وبشكل عام يصنف الغربيون أربعة مجموعات لمثيرات القرف هي:
1- مثيرات القرف الأساسي أو الجوهري Core Disgust Elicitors: وهي التي تتصف بكونها قذرة في ذاتها ويمكنها إحداث تلوث أو أذى يخشاه الإنسان ويتحاشاه كالطعام المتعفن أو الملوث والقاذورات والحيوانات المقرفة.

2- مثيرات قرف الطبيعة الحيوانية Animal Nature Disgust Elicitors: وتشمل ما يذكرنا بطبيعتنا الحيوانية (حسب وجهة النظر الغربية) ومن ذلك كل ما يتعلق بالموت والجثث أو انتهاك الجسد البشري أو أعضائه بشكل أو بآخر وكذلك إفرازات الجسد.

3- مثيرات القرف بين الشخصاني Interpersonal Disgust Elicitors: وهي مثيرات القرف التي تنتج عن التفاعل بين الأشخاص وتختص بالغرباء أو بالأشخاص المكروهين أو غير المرغوب فيهم بشكل أو بآخر فيشمئز الإنسان من ملامستهم جسديا (أو حتى بصورة غير مباشرة كالجلوس مكان الشخص المقرف أو الشرب من نفس الإناء الذي شرب منه) وهناك نوع من أنواع التفكير السحري في الاستجابة لهذا النوع من المثيرات (Rozin et al., 1994) وهو أيضًا مختلف عن النوعين السابقين في كونه يختلف من أسرة لأسرة ومن شخص لشخص.

4- مثيرات القرف الأخلاقي الاجتماعي Socio-Moral Disgust Elicitors : كثيرا ما يساوي الناس بين الخلق المشين والقرف ويبدو هذا توجها بشريا شائعا عبر الثقافات المختلفة (Haidt & Hersch, 2001)، فعندما تسأل أحدهم عن الأشياء التي تستدعي قرفه تجد أشياء مثل النفاق أو اللواط أو غير ذلك من الأخلاقيات والسلوكيات المرفوضة دينيا أو اجتماعيا، إلا أن مثيرات هذا النوع من القرف تختلف باختلاف الثقافة (Haidt et al., 1994) والدين.

إلا أن تأمل هذه المثيرات أو مجموعاتها يعطي الانطباع بأننا نتحدث ربما عن أكثر من نوع من أنواع مشاعر الاشمئزاز أو القرف فبينما نجد القرف من النوعين الأولين (مثيرات القرف الجوهري وقرف الطبيعة الحيوانية) مصحوبا غالبا بمشاعر الخوف من التلوث (Olatunji, et al., 2005) نلحظ ارتباطا واضحا بين القرف من النوعين الأخيرين (مثيرات القرف بين الشخصاني والقرف الأخلاقي الاجتماعي) وبين مشاعر الغضب وربما الحزن (Simpson, et al., 2006).

وكان أيضًا مما بحثته الأصل العربي لكلمة "القَرَف" ذلك أن القواميس (إنجليزي/عربي) تترجم كلمة Disgust بكلمة اشمئزاز... فكان أول ما توقعته هو أن تكون كلمة قَرَف هي كلمة عامية مصرية... وحين فتحت مختار الصحاح لم أجد من المعاني المتعددة للأصل قرف ما يناسب المعنى المراد في ذهني إلا معنى مداناة المرض.... وأما في لسان العرب فقد وجدت كثيرا من المعاني من بينها: العدوى (أقرف الجرَبُ الصحاح: أعداها) والوباء ومداناة المرض وملابسة الداء.... وأيضًا وجه مُقْرِفٌ أي غير حسن..... ولم أجد المعنى الدارج عندنا في مصر مباشرة ولا وجدت الأصل العربي لتسمية أي منطقة للمقابر في مصر "قرافة" ولا أدري هل لذلك علاقة بالقرف أم لا؟؟.... بمعنى آخر هل هناك علاقة بين القرف والموت؟ هل رد فعلنا تجاه كائن ميت سواء كان بشرا أو حيوانا هو بالضرورة القرف والاشمئزاز؟

بعد ذلك بدأت أبحث على الشبكة العنكبوتية عن الأبحاث العلمية والأدبيات في الموضوع فوجدت كثيرا من المفاهيم والمعلومات التي كانت تنقصني بالفعل، ومنها أن هناك علاقة بالفعل بين ما يذكرنا بالموت وبين الشعور بالقرف والاشمئزاز، وهو ما ولد لدي تساؤلا آخر هو أين بدأ أصلا هذا الربط؟ هل من العرب؟ من المسلمين؟ من المصريين أو ما الذي يفسر وجود معنى في عامية المصريين (على قدر علمي) ثم تجده يقدم لك في الأدبيات الغربية على أنه نتاج التفكير الغربي المدعوم بطرق البحث الموضوعية... أيا كان سنشرح تفاصيل انفعال القرف أو الاشمئزاز وما هو متاح عنه علميا حتى الآن -وهو الذي وصفه بعض الباحثين بأنه الانفعال المنسي في الطب النفسي (Phillips et al. 1998)- ومن ضمن ذلك علاقته بالوسواس القهري OCD وبعض أنواع القلق الرهابي Phobic Anxiety Disorders .

المراجع:

- Rozin, P., Markwith, M., & McCauley, C. (1994). Sensitivity to indirect contacts with other persons: AIDS aversion as a composite of aversion to strangers, infection, moral taint, and misfortune. Journal of Abnormal Psychology, 103(3), 495-504.
- Haidt J., & Hersch M. A. (2001). Sexual morality: The cultures and emotions of conservatives and liberals. Journal of Applied Social Psychology, 31, 191-221.
- Haidt, J., McCauley, C. R., & Rozin, P. (1994). Individual differences in sensitivity to disgust: A scale to measure disgust sensitivity. Personality and Individual Differences, 16(5), 701-
- Olatunji, B. O., & Sawchuk, C. N. (2005). Disgust: Characteristic features, social manifestations, and clinical implications. Journal of Social and Clinical Psychology, 24(7), 932-962.
- Simpson, J. Carter, S. Anthony, S.H. Overton, P.G (2006): Is disgust a homogeneous emotion?. Springer Science+Business Media, Inc. 2006
- Phillips, M. L., et al. 1998. Disgust: the forgotten emotion of psychiatry. Br. J. Psychiatry 172:373–75.



الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 15/03/2008