|
|
|
الشراء القهري هل من علاج يناسبنا؟ ::
الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 28/06/2008
الشراء القهري هل من علاج؟!
إذا أردنا وضع حجر أساس لبرنامج علاجي وقائي لمشكلة الشراء المنفلت أو إدمان الشراء بحيث يصلح في مجتمعاتنا نتساءل أولا ما الذي يحدثُ في الكيان النفسي للمشتري القهري أو الاندفاعي أو مدمن الشراء؟ إنه الفشل في إدارة وتنظيم الذات في مواجهة الإغراء بالشراء، ولذا فإننا سنتأمل في البداية ماذا يمكن أن يفسد تلك الآلية التنظيمية الذاتية Self-Regulatory Mechanism للإنسان العربي في السوق الحديث..... وآلية التنظيم الذاتي هي نتاج ثلاث وظائف معرفية هي: وظيفة الانتباه للسلوك والمراقبة الذاتية Self-observation ثم وظيفة تقييم الموقف أمام إغراء الشراء أو العمليات الحكمِية Judgmental Process على سلوك الشراء، ثم رد الفعل الذاتي أو الوظيفة الذاتية التفاعلية Self-Reactive Function أي نتاج تفاعل الذات مع مغريات الشراء طبقا لمعطيات الفرد المعرفية والقيمية والاقتصادية.
ومن أجل تقوية وتحسين الآلية التنظيمية الذاتية بطريقة معرفية سلوكية للإنسان في المنطقة العربية -خاصة الدول النفطية العربية- تحتاج مجتمعاتنا لكثير من التوعية والتنوير.. ويحتاج المهتمون بالتوعية الشرائية والاستهلاكية إلى قنواتٍ لإيصال محتوى كثير من المفاهيم التي يجب إيصالها لأفراد مجتمعات ألقينا بها في الأسواق الحديثة دون تدريب اللهم إلا على الإنفاق باستخدام بطاقات الائتمان.......... هناك آداب للتسوق وهناك معايير لتحديد السفه ونصوص لا جدال فيها لذمه وكل المدروس في الفقه ضمن الضوابط الشرعية للمعاملات بما في ذلك "الحوافز التجارية التسويقية وأحكامها في الفقه الإسلامي" وهو عنوان بحث متاح على الإنترنت لخالد بن عبد الله المصلح أخذناه عن هذا العنوان (www.fiqhiah.com/pics/montag1171735097.doc).... والذي أرى قراءته مهمة إلى حد كبير.
ولتحسين الانتباه للسلوك والمراقبة الذاتية يتم تدريب الأفراد على مراقبة سلوكهم الشرائي (مثل معدل الشراء وخاصية سلوك الشراء واجتماعيته أو قابليته لأن يشتري الإنسان في صحبةٍ لا منفردا (أي ليس فيه ما يخجل أو يجب إخفاؤه)، وكذلك مدى توافق سلوك شراء الفرد مع ضوابط دينه الشرعية، ومع حالته المالية في الأمد القصير والبعيد)... وسنجد بعد قليل كيف أن كثيرا من الآداب والمفاهيم الإسلامية يمكنها أن تكون مادة جيدة للعلاج المعرفي والسلوكي على مستوى مرضى الشراء القهري وعلى المستوى الاجتماعي أيضًا.
وأما العمليات الحكمية على سلوك الشراء أي تقييم الموقف أمام إغراء الشراء، فإن من المهم هنا استدعاء الوعي بالمسئولية عن السلوك من جانب الإنسان واستدعاء ثقته في قدرته على اتخاذ القرار السليم بعدم الاستجابة للإغراء اللحظي والتريث قدر الإمكان طمعا في هدف أبعد.... ومن المهم الإلمام والانتباه والتوعية بأن الحكم الناتج عن التقييم المعرفي قَدْ يُحرّفُ (LaRose, 2001) عبر كثيرٍ من التبريراتِ المعرفيةِ والأخلاقية المَعِيبةِ (كالانتقام من الزوج بنوبةٍ تسوّق مفرطةٍ تقوم بها الزوجة)، أو بتسمية تلطيفية للحقيقة (مثل التسوّق للمرحِ، أو التسوق للمتعة، بدلاً مِنْ التسوق لتفعيل نوبة شراء منفلت أو التسوق للخلاص من إلحاح الرغبة في الشراء)، ويمكن أن يُحَرَّف من خلال مقارنة مفيدة مطمئنة (كمن تُقارنُ نفسها بمدمنات الشراء ألسن كثيرا أسوأ منها؟ هي فقط تعالج مزاجها بنفسها), وأيضًا من خلال إلقاء اللائمةِ بعيدا عن الذات (كمن يَنْسبُ شراءه الاندفاعي أو القهري إلى حوافزِ السوق المسّيطرةِ)، أو يحرفُ باستخدام آلية بخداع النفس (كإخفاء مشتريات لا حاجة لها، وهو ما يسبقه الشراء على انفراد غالبا).
وأما رد الفعل الذاتي أو الوظيفة الذاتية التفاعلية أي نتاج تفاعل الذات مع مغريات الشراء طبقا لمعطيات الفرد، فهي حوافز سلوكيةً ومعرفية ملموسة، مثلا مكافأة الذاتِ على السلوكِ الجيدِ، أَو إعطاء حوافز تقيمية وتقديرية كاحترام النفسِ أَو الرضا عنِ الذات، حيث يخرج الشخص من تجربة التعرض لمغريات الشراء منتصرا وشاعرا بقدرته على ضبط سلوكه وهو ما يرفع تقدير الذات، وعلى الجهة الأخرى أي في حالة الشراء يقوم امتلاك المنتج بإعطاء المكافأة آنيا إضافة إلى كل عواقب ذلك الإيجابية والسلبية على الشخص.. إلا أن العمليةَ التفاعليةَ الذاتيةَ لا تعملُ بشكلٍ إيجابيٍّ إلا إذا تمت عملية الانتباه للسلوك والمراقبة الذاتية وكذلك تمت عملية الحكم عليه بأنه يمثل انحِرافا عنْ المعاييرِ الشخصيةِ أَو الاجتماعيةِ للتصرّفِ السليم.... أي أن إيجابية رد الفعل الذاتي تعتمد على نجاح كل من وظيفتي الانتباه للسلوك وتقييمه والحكم عليه.
فإذا رجعنا إلى مراحل دونالد بلاك (Black, 2007) لدورة الشراء القهريِ وهي: 1) توقع؛ 2) تحضير؛ 3) تسوّق و4) إنفاق...... بحيث نحاول إصلاح الخلل في تنظيم الذات أثناء دورة الشراء القهري بهدفٍ وقفها في أي وقت يستطيعه المريض مع نفسه: في المرحلةِ الأولى حيث يُطوّرُ الشخص الأفكارَ، والحوافز، أَو الانشغال بالحاجة لشيء معيّن، لنجعل الحاجة لشيء معين موجود في السوق هي الدافع المقبول منطقيا للذهاب للتسوق أو لدخول السوق.... ويرفض الشخص سلوكا مثل التسوق لقضاء الوقت أو للترفيه عن النفس أو لتغيير الحالة المزاجية أو التسوق لأجل التسوق حيث يترك الشخص نفسه نهبا لمحفزات الشراء وإغراءاته المتعددة والتي هي -في زماننا هذا على الأقل- نتاج جهود هيئات عالمية ضخمة تسعى لخلق الكائن المستهلك بكل طريقة ولا ينكرُ أصحابها أنهم يعرفون من أين يدخلون للكائن البشري فيصبح كائنا مستهلكا نعم لا ينكرون... لكن ما يحدث واقعيا هو تطبيق سياسة العولمة الاقتصادية وتحويل كل ما يمكن تحويله من العالم إلى أسواق...
يحتاج الإنسان المسلم والواعي هنا إلى تذكر حديث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا» صدق صلى الله عليه وسلم، فهل يعني ذلك أن من تخرج أو يخرج للسوق إنما يكون في أبغض الأماكن إلى الله وهو ما يعني أن المسلم لا يأتيه إلا مضطرا لحاجة! يحتاج الناس إلى الوعي بذلك.....ففي أي إطار يمكن أن يقبل سلوك معظم أهلنا في الخليج وبعضهم في غيره والذي يعتبرُ الخروج للتجول في الأسواق للتبضع أو مجرد الفرجة نشاطا يكاد يكون الترفيه الوحيد عند كثيرين؟؟؟
كذلك يجب تذكر مفاهيم مثل الكنز والتخزين والقناعة وغيرها مما أشرنا إليه من قبل في مقالنا عن التخزين والبخل/الشح من منظور إسلامي... فبعض المفاهيم الأصيلة المرتبطة بسلوك الاستحواذ أو التملك في الإسلام غائبة أو تكاد عن وعي معظمنا وسلوك أغلبنا...... بينما الإسلام على سماحته لا يسمح للمسلم أن يترك نفسه لاهيا في السوق فإذا تأملنا مثلا أنه: يُسَنُّ ذكر الله في السوق بوجه عام فهل يصح أن نترك حبل الهوى على غاربه أثناء ذكر الله.... ويُسَنُّ هذا الدعاء عند دخول السوق: قال صلى الله عليه وسلم: ((من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت، وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألفَ ألف حسنة، ومحا عنه ألفَ ألف سيئة، وبنى له بيتاً في الجنة)) صدق صلى الله عليه وسلم [رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن ابن عمر].... فيا ترى أي مستوى من الانتباه للسلوك يمكن أن يحدثه استهلال التسوق بهذا الدعاء؟... وما تأثير ذلك في سلوك من يعيه من الناس في رفع درجة الانتباه للسلوك وتقييم السلوك طبقا للعقل والتزام القيم الدينية؟
في المرحلةِ الثانيةِ من مراحل دورة الشراء القهري، يَستعدُّ الشخصُ للتسوّق والشراء. وهذه المرحلة يُمْكِنُ أَنْ تَتضمّنَ القرارات متى وأين يذْهبُ، أو ماذا سيَلْبسُ، وهنا تجب التذكرة بضرورة عدم التسوق إلا لحاجة وتجنب التسوق في أوقات التعب أو الإرهاق أو تحت تأثير العقاقير نفسانية التأثير التي تؤثرُ مباشرة في السلوك.
وهناك من يحدد في هذه المرحلة أي بطاقات ائتمان سيستعمل... فينصح هنا بالموضوعية بالنسبة للجميع بحيث لا يقع أحدهم في سقطة شراء اندفاعي ولو لمرة... مثلا تجنبْ حمل بطاقات الائتمان معك، فقط خذ معك ما تقيم أنه يكفي من النقود الورقية قدر الإمكان... فإن كان لابد من حمل بطاقة ائتمان فأقرب ما تكون من قيمة ما تود شراءه... باختصار تذكر أنه غالبا تصرف غير سليم عندما تخرج لتشتري شيئا واحدا تحتاجه فتعود حاملا أكياسا وأكياس وربما ما هو أكبر حجما من أن تحمله بنفسك! من المؤكد أن الإنسان في العصر الحديث لابد يحتاج إلى سلوكيات ترشيدية للإنفاق!
وهناك من يظهر في هذه المرحلة انشغالا مفرطا وبحثا عن إصدارات جديدة، أزياء جديدة، أَو أماكن بيع جديدة.... وهنا نجدُ أنفسنا واقفين على الحقيقة الواقعة والتي تقول بأن الإغراء بإصدارات جديدة هو سمة غالبة على العصر وأن إتاحتها للشخص تستلزم وعيا عاليا بالتكنولوجيا وما تقدمه وهذا الوعي حاضر عند كثيرين في المجتمعات الغربية ولكنه غائب عند الأغلبية العظمى في مجتمعاتنا....
وهنا يبرز السؤال الفقهي المهم عن إباحة الشيء لمن لا يفهم كامل أبعاده؟! وأتساءل هل نهتم بإعداد أولادنا للتسوق هل علمنا أحدٌ آداب التسوق؟ هل هناك برامج لذلك؟ مثلا لتعليم سلوك التسوق الواعي وليس قوانينه فقط ولا مهاراته فقط... كذلك تحتاج مقاومة ولع الإصدارات التكنولوجية المتتالية كبحا هائلا للرغبات لا هو موجود عند المجتمعات الغربية لأن فرط العرض والإتاحة اللا محدودة هي قيم حضارية غربية، ولا هو موجود عند غالبيتنا أصلا اللهم إلا كابح ضيق ذات اليد عند بعض الشعوب العربية.
ومن المؤكد هنا أن المجتمعات العربية ككل تحتاج إلى برامج توعية ضد ثقافة الاستهلاك بشكل عام، خاصة وأن المولات العملاقة أصبحت متعددة في معظم المدن العربية... وكل الفقه المتوفر ضد الإسراف مدعو للتفعيل هنا: فنبدأ بالقرآن الكريم : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (الإسراء:27)
قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67) ، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت، فكانوا لا يزيدون عن المعروف ولم يبخلوا، تحقيقاً لقوله تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً) (الإسراء:29) صدق الله العظيم.
وتَتضمّنُ المرحلةُ الثالثةُ من دورة الشراء القهري تجربةَ التسوّق الفعليةِ، والتي يصفها عديد مِنْ المرضى بأنها تُثيرُهم بحدّة، ويُمْكِنُ أَنْ تُؤدّي إلى حتى شعور بالإثارة الجنسية!،..... وأخيرا تكتمل الدورة بالشراء أي إنفاق المال على المشترى أي بالفشل في مقاومة الإغراء أو الحافز للشراء، وفي أغلب الأحيان يلي ذلك إحساس بالندم أَو الإحباط من النفس.... ورغم ما يبدو من فشل الإنسان في كبح نفسه وفقدان الأمل في كثيرٍ مما سبق من محاولات في تنظيم ذاته، إلا أن التدخل العلاجي ممكن وصائب حتى في فترة مشاعر وأفكار الندم التي تلي الشراء ......... وربما مُنِحت فرصة لوجود عيادتي في القاهرة فوق أحد الأسواق فلم أسلم من لوم كثيراتٍ ومن هنا كان المدخل الاستطلاعي لموضوع الشراء القهري عند كثيراتٍ منهن ومعظمهن كن مكتئبات أو موسوسات... وتمكنت من تحسين سلوكهن الشرائي وتخليصهن من إدمان الشراء معرفيا باستخدام المفاهيم السابقة وسلوكيا من خلال التعرض ومنع الاستجابة ثم المكافأة الذاتية.
ورغم قلة الأعداد المتوقعة في بلدٍ فقيرٍ كمصر إلا أن ظاهرة الشراء للتسلي أو التلهي أو التخلص من مشاعر سيئة أو من دوافع ملحةٍ للشراء موجودة في بعض الطبقات الغنية، والمهم هنا هو أن مرحلة الندم تلك مرحلة يصلح فيها التدخل بداية بالتنبيه والتعريف إلى أهمية الانتباه إلى السلوك في السوق وأهمية وكيفية تنظيم الذات وتفعيل الآليات اللازمة لذلك ومن أهم ما يساعد في التفعيل إحياء الفقه الغائب عن وعي الغالبية، وقد أثمر معي التدخل في ذلك الوقت ثمارا طيبة حتى عند غير المتدينين، ولكنني حتى الآن لم أقابل حالة شراء قهري صافية أو دون اضطرابٍ مواكب، ولم أضع هنا غير بعض اللبنات وما أزال في حاجة إلى جهد المتخصصين في علم النفس لوضع برنامج علاجي سلوكي معرفي يبني على ما سبق ويضعه في شكل يصلح للتطبيق على مجموعات وأرى ذلك من الأهمية بمكان خاصة لسكان الدول العربية النفطية... فمن ذا يشاركني العمل؟
المراجع
LaRose, R.(2001): On the Negative Effects of E-Commerce: A Sociocognitive Exploration of Unregulated On-line Buying. Journal of Computer-Mediated Communication Vol. 6 No. 1
Black D. (2007): Compulsive Buying Disorder: A Review of the Evidence. CNS Spectr. 2007;12(2):124-132
الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 28/06/2008
|
|
|
|
|
|
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com
|
حقوق الطبع محفوظة لموقع مجانين.كوم ©
|
|