إغلاق
 

Bookmark and Share

فقه المُسْتَنْكَح!: سلاسلُ ذهبيةٌ في علاج الوسواس ::

الكاتب: أ.د. وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 11/08/2008


أرسلت رفيف الصباغ (33 سنة، طالبة دكتوراه في الفقه الإسلامي، سورية) تقول: مشاركة حول الوسواس القهري

إلى إدارة الموقع المحترمة والدكتور وائل أبو هندي حفظه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
لقد اطلعت على موقعكم وأعجبني ما فيه من التزام بالعلوم الشرعية والتفسيرات القائمة على النصوص الصحيحة في الكتاب والسنة وكتب الفقهاء، ولقد قرأت بعضا من المواضيع المتعلقة بالوسواس القهري فأعجبت بالتحليل الدقيق لهذا الأمر وما فيه من أفكار، والحقيقة أني كنت بدأت بإعداد بحث صغير عن الوسواس القهري (وهو غير رسالتي في الدكتوراه) لأجل سؤال طرح أمامي من قبل طبيب نفسي فيما إذا كان من الجائز للموسوس أن يتيمم إذا كان وضوؤه يستغرق الوقت المحدد للصلاة المفروضة؟..

ولأجل التساؤلات التي كانت تدور في ذهني عن تعامل الفقهاء مع هذا الموضوع علما بأن اتباع الأحكام الشرعية الواردة بشأن الناس الأصحاء في بعض أمور الصلاة والطهارة... إلخ كانت تزيد مرض الموسوسين، وهذا مخالف لمنهج الشريعة في النظر إلى مآلات الأفعال، وفي أنها تعطي للمريض من الرخص إذا كانت العبادات تؤثر في مرضه ما لا تعطيه لغيره من الأصحاء.

وكنت أرى في القواعد الشرعية ما يطرد الوساوس الدينية عموما إذا أحسن المريض فهمها وتطبيقها غير أن بعض الأحكام توقع المرء في حيرة، فعندما بحثت في نصوص الفقهاء وخاصة المالكية وجدتهم يعطون أحكاما خاصة لمن كان وسواسه قهريا ويسمونه المستنكح، أي الذي قهره الوسواس فلم يعد يستطيع دفعه، فهم يقولون بوجوب بناء المصلي الموسوس الذي يشك في عدد ركعات صلاته على الأكثر في ظنه وليس على الأقل كما هو شأن السليم، وإذا شك في أنه هل غسل وجهه أم لا في الوضوء يبني على أنه غسله خلافا للسليم وهكذا....

إضافة إلى أن فقهاء آخرين نصوا على أنه يجوز للموسوس تتبع الرخص في المذاهب إلى أن ينتهي من مرضه وهو خلاف المعروف في حق الصحيح، مع اتفاق الفقهاء جميعا على أن الموسوس يجب أن لا يعمل بمقتضى وسواسه وهذا مطابق للعلاج النفسي له، إضافة إلى قواعد شرعية تدل على أن الشريعة وضعت حلا لهؤلاء كي تجعلهم يتخلصون من الشعور بالتقصير تجاه الله عز وجل وأن ما يحصل معهم وما يفعلونه هو المطلوب منهم فقط وأن الله راض عنهم إن هم فعلوا ما بوسعهم وإن كان في ظنهم غير كامل وغير صحيح، والأمر يطول ولا مجال لسرده هنا......

وأنا لم أكمل بعد استقصاء المادة العلمية، غير أني لما وجدت الاهتمام البالغ في موقعكم بالشريعة وأحكامها وتطبيقها على الحالات المرضية وشرحها شرحا علميا لا يمكنني أن أصل إليه أحببت أن أعرف فيما إذا كنتم اطلعتم على نصوص الفقهاء وما فيها من علاج فعال في حق الوساوس الدينية أم لا، وأحببت -فيما إذا لم تكونوا اطلعتم عليها من قبل- أن أساهم في هذا الموضوع وأضعها بين أيديكم وأتخلى أنا عن الكتابة في هذا الموضوع لأنه من المؤكد أن ما تكتبونه بعد أبحاثكم الكثيرة وخبرتكم الواسعة أفضل بكثير مما سأكتبه.

وقد أحببت أن أطلع على كتابكم الوسواس القهري بين الدين والطب النفسي ولكني لم أفلح بالحصول عليه من الإنترنت، فإذا وجدتم فيما كتبته شيئا يمكن أن يفيد المرضى والبحث في هذا المجال فأنا على استعداد لإكمال جمع المعلومات من مصادرها وإرسالها إليكم لتستفيدوا منها، وخاصة أن هذه المعلومات كان لها الأثر في علاج بعض من يعاني من الوساوس وذلك لأنه لم يعد يخاف من وساوسه ولا يأبه بها مما ساعد على تحسنه وذلك لأنه لم يعد يخاف من أن يكون مذنبا وهذا عائق أظنه كبيرا في طريق من يعانون من الوساوس الدينية بالذات.
هذا ما في جعبتي حول هذا الموضوع وأعتذر من الإطالة والسلام عليكم.

3/8/2008

تعليق الأستاذ الدكتور وائل أبو هندي:

أهلا حللت وسهلا نزلت يا رفيف.... ما أروع ما قدمته رسالتك هذه لمجانين ومرتاديه موسوسين وغير موسوسين .... أولا أعطي ردا فقهيا أو في صورة الفقه مع الاعتراف بأني تفقهت في طب النفوس والعقول وليس في الفقه الإسلامي.... ردا على سؤال الطبيب النفساني (فيما إذا كان من الجائز للموسوس أن يتيمم إذا كان وضوؤه يستغرق الوقت المحدد للصلاة المفروضة؟..)...

لما كان أحد مُبررات التيمم إضافة إلى غياب الماء هو ثبوت الضرر على البدن من التعرض للماء، فإن ثبوت الضرر في حالة وسوسة الوضوء يجعل التيمم جائزا..... خاصة وفي خلفيتنا حديث سيد الخلق محمدٌ صلى الله عليه وسلم {إن للوضوء شيطانا يقال له: الولهان; فاتقوا وسواس الماء}... فرغم ضعف درجة الحديث فإن فيه ما يدفعنا إلى محاولة اتقاء وسواس الماء.... وتخفيفا على الموسوس وفي ظروفٍ ربما لا تسمح له بالعلاج (مثلا امرأة ملتزمة يمنعها زوجها الملتزم من العلاج النفسي وهذا في مجتمعاتنا كثير مع شديد الأسى)... في مثل هذه الظروف ربما يُفتى بجواز التيمم عوضا عن الوضوء... لأن المرأة الموسوسة في الوضوء دون علاج كثيرا ما يصل بها إلى الحال إلى عدم القدرة حتى على خدمة أطفالها ناهيكم عن الزوج!... هذا كلام أستطيع قوله مستندا إلى ما تعلمت في السعودية في مراهقتي من فقه (على مذهب ابن حنبل)... وإلى ما أقرأ بين الحين والآخر من كتيبات الفقه ومن الفتاوى المنشورة وبعض كتب الفقه الحديثة المشهورة كفقه السنة... وهذا ما لدي يا فقيهتنا المبدعة الموفقة إن شاء الله...

لكن من المهم هنا أن أقول شيئا تعلمته أثناء عملي مع مرضاي من الموسوسين وهو أن فكرة أو مفهوم الرخصة بجواز التيمم للموسوس في الوضوء إنما هي للتوضيح والتمثيل وبيان أن قيمة الوضوء ليست في تفاصيله وإنما في حكمته فيضرب المثل هكذا:
المعالج: هل تعرف ما هو التيمم؟ وما هي الأحوال التي يجوز فيها؟
المريض/المريضة: نعم أعرف عندما ينعدم الوصول إلى الماء للوضوء.
المعالج: فقط للوضوء؟
المريض/المريضة: ماذا تقصد؟
المعالج: التيمم يجوز لرفع الحدثين الأصغر (خروج الريح أو التبول أو التبرز...إلخ) والأكبر (ممارسة الجنس كاملا أو التقاء الختانين). وهو ما يعني أن التيممَ يساوي الوضوء وما يتحقق من الأخير يتحقق من الأول، ونفس الكلام ينطبق على الغسل فالتيمم أيضًا يمكن أن يساوي الغسل وما يتحقق من الأخير يتحقق من الأول، المهم هو تحقق التهيؤ للوقوف بين يدي الله عز وجل (في صورة التطهر).... المهم هو هذا وليس التفاصيل.. وهذا يعني أن التفاصيل التي تغرق أنت/أنتِ فيها ليست ذات قيمة!... هل تتفق معي؟
المريض/المريضة: حسنا أتفق ولكن الحمد لله الماء موجود وسأحاول أن أسمع ما نصحتني به.
المعالج: ألا تعرف أن بعض الفقهاء أجازوا للمستنكح (فقهيا= الذي تمكن منه الوسواس عند المالكية) أشياء كثيرة لا تجوز لغير الموسوس؟
المريض/المريضة: لا هذه جديدة
المعالج: أنا فقط أردت أن أبين لك مدى أهلية قناعتك بأنك يجب أثناء الوضوء أن تستجيب لوساوس تتعلق بالتفاصيل والكمال وخروج الريح... إلخ... فهذا غلو وتعمق وليس من الدين في شيء إلا أنه وسوسة ابتلي بها صاحبها فتجعل الوضوء والصلاة يتغيران معه من أفعال تجلب الراحة والطمأنينة إلى النفس إلى أفعال تعذبهم وتضنيهم حتى يفقد الواحد منهم خشوعه ويبقى في دوامة من الوسوسة مُقِلا في وضوئه مرة (فيكتفي بوضوء واحد لأكبر عددٍ ممكن من الصلوات، ويبقى بالطبع ماسكا على دبره وقبله!).... ومفرطا ومكررا مرات ومنهم من يترك الصلاة عندما يكتئب! هل تستطيع تفهم أن هذا لا قدر الله يمكن أن يكون مآل الموسوسين في الوضوء والصلاة حين يستجيبون لوساوسهم؟

لكنني يا رفيف لا أعطي هذا الترخيص لمرضاي لأن من أهم أساسيات العلاج المعرفي السلوكي التعرض للمثير (وهو هنا الماء) الذي يستفز الأحداث العقلية التسلطية أي الوساوس وبالتالي فأنا أرى أن التيمم سيكون نوعا من أنواع التحاشي أو التجنب للماء وهو سلوك مذموم علاجيا يؤدي إلى حلقة إدامة مفرغة Avoidance Maintenance Cycle تديمُ المشكلة قائمة بسبب أن فكرة المريض "أنه لا يستطيع أن يواجه الماء وفي نفس الوقت لا يستجيب لأحداثه العقلية التسلطية بأداء الفعل القهري" هذه الفكرة ستبقى دون اختبار وبالتالي ستبقى المشكلة قائمة... لكنني في العلاج على العكس أطلب من الموسوس أن يتوضأ لكل صلاة ولكن مثلا أن يغسل كل عضو مرة واحدة لا ثلاثة لأن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم توضأ أحيانا بغسل العضو مرةً وأحيانا مرتين وإن كان الغالب ثلاثة مرات... وهكذا.

نحن في مجانين يا رفيف لا نتفق مع قولك (أن أساهم في هذا الموضوع وأضعها بين أيديكم وأتخلى أنا عن الكتابة في هذا الموضوع لأنه من المؤكد أن ما تكتبونه بعد أبحاثكم الكثيرة وخبرتكم الواسعة أفضل بكثير مما سأكتبه)... بالعكس نحن نود أن تضعي ما لديك في شكله الفقهي المبسط هنا على مجانين ونسأل الله أن يمكننا من نقاشه معا هنا أيضًا على مجانين... نحن نرى وقد عبرنا عن ذلك أكثر من مرة أن العمل على وضع أسس العلاج المعرفي السلوكي المناسب لأهلنا وأهل ثقافتنا يجب أن يضم الفقهاء مع الأطباء..... يعني نحن نعرف جيدا أن الفقهاء كانوا فيما مضى على أمتنا (أقامها الله من عثرتها الطويلة).. يقومون بدورٍ يفترض أن الطبيب النفساني يقوم بجزءٍ منه على الأقل في هذه الأيام... ولكن الطبيب النفساني هذه الأيام غالبا –بل ربما أكثر من غالبا- عنده نقص في العلم الشرعي... والعكس صحيح فدارس الفقه عنده نقص في العلم الطبي.. وفي اجتماعهما خير خاصة ونحن في مرحلة التأسيس أو قولي إعادة التأسيس لأن فقهاءنا من قبل أسسوه وعندنا مقالات على مجانين نشرها أخي أ.د. مصطفى السعدني هنا على مجانين عن تاريخ اضطراب الوسواس القهري... فاقرئيها أيضًا من فضلك لأن فيها من الخير الكثير...

وأما ما لديك يا رفيف فنحن في أمس الحاجة إليه... ولكن فضلا أرسلي ما تودين التصدق به من فقه في شكليه الخام والمبسط في هيئة ملفات مرفقه على بريد الموقع  Maganin@maganin.com نحن إذن ننتظر خيرا على يديك لكل الموسوسين خاصة وأنك ودونما قصد غير ضرب الأمثلة قد وضعت على مجانين سطورا كأنها سلاسل الذهب قيمة في علاج الموسوسين... ولعلنا إذا هدانا الله للعمل معا نجعلها سلاسل من نور؟ في انتظار متابعتك والتواصل معك....

اقرأ أيضاً:
تاريخ اضطراب الوسواس القهري  
اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية
تاريخ اضطراب الوسواس القهري(12)  
هل هناكَ أنواعٌ من اضطراب الوسواس القهري؟  
هل اضطراب الوسواس القهري اضطرابٌ نادر؟  
الاستبصار واضطرابُ الوسواس القهريِّ 



الكاتب: أ.د. وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 11/08/2008