إغلاق
 

Bookmark and Share

منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري(5) ::

الكاتب: أ. رفيف الصباغ
نشرت على الموقع بتاريخ: 08/11/2008


منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري(4)

المبحث الرابع: مفاهيم وأصول شرعية في بناء الجانب المعرفي وتصحيحه:
لقد عني الإسلام ببناء الجانب المعرفي وتصحيحه لدى الإنسان، وليس أدل على ذلك من اهتمامه في الفترة المكية –التي دامت ثلاثة عشرة سنة- بإرساء الجانب العقدي لدى المسلمين وتصحيح المفاهيم المنحرفة التي كانت في الجاهلية، فكان ذلك الغالب على السور التي أنزلت في مكة المكرمة، التي كثر فيها ذكر التوحيد، والجنة، والنار ونحوها....، ولما رسخت هذه المعاني في القلوب، كان من السهل تغيير السلوك بعد ذلك، والتزام الأوامر والنواهي التي أنزلها الله تعالى في الفترة المدنية بعد الهجرة...

وقد بينت السيدة عائشة -رضي الله عنها- هذا المعنى بقولها: ((...... إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ [أي القرآن] سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ [رجعوا إليه وتمسكوا به] نَزَلَ الْحَلاَلُ وَالْحَرَامُ. وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيءٍ لاَ تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا. وَلَوْ نَزَلَ لاَ تَزْنُوا، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا. لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: ((بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)). وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلاَّ وَأَنَا عِنْدَهُ [يعني في المدينة، والسورتان تشتملان على كثير من الأحكام]...)). [البخاري: فضائل القرآن/ باب تأليف القرآن].
 
ففي هذا الحديث بيان لأثر تصحيح عقيدة الصحابة وأفكارهم، على السلوك الصادر منهم عند توجيه الأوامر والنواهي، حيث كانوا غير مستعدين أبداً للالتزام بالأحكام قبل تصحيح العقيدة، فانقلبوا -بعد التصحيح- إلى التمسك الشديد بتلك الأحكام، كما هو معروف عنهم.

وفي بيان العلاقة المتبادلة بين الأفكار والمشاعر من جهة والسلوك من جهة أخرى، وتأثير كل منهما على الآخر، يقول ابن تيمية -رحمه الله- في "اقتضاء الصراط المستقيم" [1/92]: (ثم إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك، وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال، قد تكون عبادات وقد تكون أيضاً عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب وغير ذلك. وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً).

وعلى أساس هذه العلاقة بين الأفكار والسلوك، وعلى تفسير أن السلوك الخاطئ والمضطرب، إنما هو نتيجة لأفكار غير سليمة عند الإنسان، تم وضع مبادئ العلاج المعرفي للاضطرابات النفسية المختلفة، كالقلق، والاكتئاب، والوسواس القهري، وغيرها.

لهذا سأعرض في هذا المبحث –بعونه تعالى- عدداً من المفاهيم والأصول المستمدة من الشريعة المطهرة، والتي تفيد في تصحيح المعارف المختلة عند الموسوسين، وتسهّل عليهم التخلص من أفكارهم وأفعالهم القهرية.

أولاً: مفهوم العبودية لله تعالى:
لقد خلق الله الإنسان ليكون عبداً له، قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَاْلإِنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات: 56]، وواجب العبد أن يلتزم بأوامر سيده أياً كانت، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً)) [الأحزاب:36]. (فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا، ولا رأي ولا قول). [مختصر تفسير ابن كثير:3/97] وإنما ينال العبد رضا الله تعالى، ويُكرَم بالثواب، على التزامه بالأوامر المطلوبة منه، وهي تختلف باختلاف الأحوال التي يمرّ بها، وقد أنزل الله للمريض أحكاماً تختص به، والموسوس مريض جاء الحكم الشرعي في حقه أن لا يستجيب لوسوسته وشكه مطلقاً، على عكس غير الموسوس الذي يكون لشكه اعتبار في أمور معينة، وإنما يثاب الموسوس على تطبيقه للأحكام المختصة به، لا على ما لم يطلب منه من الأحكام التي تختص بالأصحاء.

-
مثال تطبيقي لهذا المفهوم على وسواس الصلاة:
المريض: أشك في نيتي وعدد ركعات صلاتي.
العلاج: تمضي في صلاتك رغم شكك، وإذا شككت هل صليت ثلاث ركعات أم أربع، قل صليت أربعاً، وهكذا...، وهذا هو الواجب عليك شرعاً.
المريض: أخاف أن يكون عملي ناقصاً وغير مقبول وأدخل النار!
العلاج باستخدام مفهوم العبودية: قل: يا نفس إنما أنا عبد لله أمرني -أنا الموسوس- أن أمضي صلاتي مع الشك، وألا أهتم بما يطرق ذهني، والعبد يفعل ما يطلبه منه مولاه، وأنا أفعل ما يطلبه الله مني لذلك أنا أرجو ثوابه يوم القيامة، إذن: لن أذهب إلى النار إن لم أُعِد صلاتي، بل على العكس، ولا يُهمني ما يأتيني من الشكوك. وإن سألني الله: لمَ صليت ثلاثاً بدل أربعاً قلت له: طاعةً لك يا رب!
عن طريق هذا المفهوم، يخفف الموسوس من قلقه عند عدم الاستجابة، ويجعل علاجه أيسر وأسهل، بل إن الإيمان بهذا المعنى وتمثله هو المفتاح الذي يفتح للموسوس أبواب الاستفادة من جميع العلاجات التي سترد فيما بعد...

ثانياً: مفهوم الكمال في الشريعة الإسلامية:
الكمال في الإسلام: بلوغ تمام الاتباع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه، وليس هو الزيادة المفرطة من الفعل والإيغال فيه بما يؤدي إلى الخروج عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وطريقته. وقد حاول بعض الصحابة أن يُفْرِطوا في زيادة عباداتهم، وترك شهواتهم المباحة، ظانّين أنهم ينالون بذلك رضا الله تعالى فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وأنكر عليهم بشدة، وبيّن لهم أن رضا الله يُنال باتباع طريقته –صلى الله عليه وسلم- السمحة المتزنة في أمور الدين والدنيا، فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ((جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا [وجدوها قليلة بالنسبة للتصور الذي في أذهانهم] فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غَفَرَ الله لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ [أي فهو لا يحتاج لأكثر مما يفعله]. قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَر:ُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ: كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي [أي طريقتي وما أنا عليه] فَلَيْسَ مِنِّي)).[البخاري: النكاح/ باب الترغيب في النكاح، مسلم: النكاح/باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه].

- مثال تطبيقي على وسواس الطهارة (أو النظافة):
المريض: أغسل ثيابي كلما دخلت الحمام، لأني أخشى أن يكون قد أصابتها النجاسة (تلوثت-اتسخت) دون أن أعلم، وأحب أن أفعل الأكمل والأحوط دائماً..
العلاج: عليك ترك ذلك، ولا تغسل ثيابك إلا عند تيقن نجاستها/تلوثها...
المريض: وكيف تدعوني إلى ترك الحيطة والكمال والإتقان، أليست هذه صفة حسنة مرغوبة؟
العلاج باستخدام مفهوم الكمال الشرعي: قل يا نفس أنت تحبين الكمال في أفعالك، وتميلين إلى فعل الأحوط لكن فعلي ليس من الكمال في شيء، بل هو تنطع وإفراط مذموم! لأنه زيادة على ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاذ الله أن يكون فعلي أكمل من فعله، سأحاول مهما كان الأمر صعباً ألا أستجيب لرغبتي في غسل ثيابي، لأصل إلى الكمال الذي أحبه وأطلبه!

ثالثاً: التكليف بالفعل متعلق بالقدرة عليه:
ويعني هذا الكلام: أن الإنسان لا يُكَلَّف بأمر إلا إذا كان قادراً على فهمه أولاً، ثم كان قادراً على أدائه والعمل به ثانياً، بدليل قوله تعالى: ((لا يُكَلِّفُ الله نِفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)) [البقرة:286].[انظر: تقويم أصول الفقه: 2/889]

- مثال تطبيقي على الوسواس في نية الصلاة وتكبيرة الإحرام:
المريض: عندما أريد الصلاة، أبدأ فأكبر فأشعر أني ما كبرت جيداً، وأن نيتي ليست صحيحة، فأظل أعيد النية والتكبير عدداً كبيراً من المرات، مما يشعرني بالضيق والحرج.
المعالج: اِنْوِ الصلاة وكَبّر للمرة الأولى، فإن حدثتك نفسك أنك لم تحسن ذلك، فقل: لا يهمني، فأنا مهما أعدت النية والتكبير لا أحسن أداءهما على نحو جيد، إذن: أنا لست قادراً على الإتيان بهما أفضل مما أفعل، وإذا لم توجد لدي القدرة على إتمامهما على النحو الأفضل، فأنا لست مكلفاً بأكثر مما أفعله، وصلاتي صحيحة، وإذا صحّت صلاتي فلا أحتاج للإعادة، وانتهى الموضوع...!

- مثال آخر على الأفكار القهرية المتنوعة:
المريض: تداهمني أفكار بغيضة، لا يمكنني الخلاص منها (في العقيدة أو غير ذلك).
المعالج: إذا كنت غير قادر على الخلاص منها، فهذا يعني أنك غير مكلف بإزالتها، وأنه لا يترتب عليها حكم البتة، يعني وجودها وعدمها سواء.
المريض: كنت أظن أني قد كفرت، أو جننت، ولكن إذا كان ما تقول صحيحاً فلا داعي للقلق، سأحاول تجاهل هذه الأفكار قدر الإمكان..
وهذا المفهوم يمكن استخدامه في أنواع كثيرة من الوساوس كإعادة غسل اليدين، أو إغلاق الأبواب، أو التأكد من إطفاء الأنوار، ونحو ذلك....، حيث يوقف المريض الاستجابة للأفعال القهرية، بإقناع نفسه أنه لا يكلف بأكثر مما صنعه، وإن لم يقم به على الوجه الأمثل...

رابعاً: اليقين لا يزول بالشك:
لإدراك الأمور عند علماء أصول الفقه درجات:
أولها: اليقين: ويسمى أيضاً: العلم، والقطع، والجزم...، وهو جزم القلب بوجود الشيء أو عدم وجوده بالاستناد إلى الدليل. (يعني يجزم القلب بنسبة 100%) مثال: الجزم بموت الحيوان بعد حزِّ رقبته بالسكين.

ثانيها: غلبة الظن: أو طمأنينة الظن، وهو رجحان أحد احتمالين على الآخر، وطرح الاحتمال المرجوح وعدم إقامة وزن له لشدة ضعفه، وذلك بالاستناد إلى دليل. (النسبة التقريبية: يوجد في القلب بنسبة: 80-99%). مثال: غلبة الظن بموت الحيوان عند سقوطه من رأس جبل، إذ الغالب أن يموت بمثل هذا لكن يُحتمل احتمالٌ ضعيف أن يسقط فوق كوم من الأعشاب، أو الأغصان فينجو من الموت!

ثالثها: الظن: وهو ترجيح أحد الاحتمالين لكن مع عدم طرح الاحتمال المرجوح، (النسبة التقريبية: 51-79%). مثال: ترجيح احتمال رسوب الطالب الذي لم يدرس قبل الامتحان، مع احتمال نجاحه لالتزامه بالدوام أثناء العام.

رابعها: الشك: تساوى الاحتمالين بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر. (أي كل احتمال يمكن وجوده بنسبة: 50%). وهو ظاهر لا يحتاج إلى مثال.

خامسها: الوهم: وهو الجانب المرجوح، (يوجد في القلب بنسبة: 49% فأقل). مثاله: الطرف المرجوح في الأمثلة السابقة. [انظر: شرح القواعد الفقهية: ص79-86]
فإذا كان الإنسان متيقناً من أمر (100%) وشك فيه (50%) فهذا الشك لا يؤثر على يقينه ولا يعمل به لأن الضعيف لا يغلب القوي.

مثال تطبيقي على الشك بطهارة الثياب/أو تلوثها:
المريض: غسلت ثيابي بالأمس، لكن لا أدري ربما أصابها نجاسة/جراثيم وربما لا..، الأفضل أن أغسل تخلصاً من الشك الذي في قلبي... وربما إذا كانت هناك نجاسة لم تصح صلاتي..
العلاج: لا تعمل بهذا ولا يؤثر هذا الشك في صحة صلاتك، لأنك تيقنت طهارة الثوب بغسله، وشككت بحصول النجاسة، واليقين لا يزول بالشك.
ومما لا يعمل به أيضاً: الظن إن تبيّن خطؤه فهناك قاعدة تقول: (لا عبرة بالظن البيّن خطؤه)، مثال:
المريض: أظن أن هذا الثوب نجس/ملوث لأن طفلاً صغيراً كان يلبسه.
المعالج: احتمال قوي، لكن قد تبيّن خطؤه إذ لا نرى على الثوب شيء، ولم يذهب الطفل إلى مكان نجس.
هذا المفهوم أيضاً يمكن استخدامه في أنواع كثيرة من الوساوس، إذ إن الوسوسة هي كثرة الشك الذي يعارض يقين الموسوس من غير دليل.

إلى مفاهيم أخرى في مقال آخر...
                                                         ومازال الحديث مستمراً..... 

المراجع:
- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم: أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية: دار إشبيليا-الرياض: 1998م، تحقيق: د.ناصر العقل.
- تقويم أصول الفقه وتحديد أدلة الشرع أبو زيد الدَّبُوسي: دار النعمان للعلوم-دمشق: 2005، تحقيق: عبد الجليل عطا.
- شرح القواعد الفقهية: أحمد الزرقا: دار القلم-دمشق، 2001م، قام بمراجعته: د.عبد الستار أبو غدة.
- صحيح البخاري: دار العلوم الإنسانية-دمشق: 1993م، تحقيق د.مصطفى البغا.
- صحيح مسلم: دار ابن حزم-بيروت:1995م.
- مختصر تفسير ابن كثير: اختصار وتحقيق: محمد علي الصابوني: دار القرآن الكريم-بيروت: 1401هـ. 



الكاتب: أ. رفيف الصباغ
نشرت على الموقع بتاريخ: 08/11/2008