إغلاق
 

Bookmark and Share

منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري(6) ::

الكاتب: أ. رفيف الصباغ
نشرت على الموقع بتاريخ: 29/11/2008


منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري(5)
 

ما زال الحديث في عرض بعض المفاهيم والقواعد الشرعية التي تصحح الجانب المعرفي لدى الموسوس وتعين على علاجه، وقد تم ذكر أربعة منها، وهذه أربعة أُخَر:

- الحكمة من الابتلاء بالوساوس القهرية:
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ، وَأَنْتَ تُرِيدُهَا * صَفَواً مِنَ الأَقْذَارِ وَالأَكْــــدَارِ؟
وَمُكَلِّفُ الأيـَّامِ ضِـــدَّ طِباعِهــــا * مُتَطَلِّبٌ في المَاءِ جَذْوةَ نَارِ!

هذه هي الدنيا، خلقها الله للاختبار والابتلاء، ليظهر صدق الصادق، وكذب الكاذب، وليتميز المقبل إلى الله من المدبر عنه، ولكيلا يركن الإنسان إلى هذه الدنيا، وليظل قلبه معلقاً بالجنة ونعيمها، ويَجْهَد للفوز بها، حيث يعيش بلا تعب ولا نصب. فمن رحمة الله تعالى بعباده أن لا يخلو أحد من بلاء لما في ذلك من حِكَمٍ ومنافع للإنسان! فيرحم الله عباده بالبلاء، وإن رأوه مؤلماً وشاقاً على أنفسهم، كما يرحم الأب ابنه بالشدة عليه ليؤدبه ويعلمه، فيسعد في حياته قبل مماته..[انظر: إغاثة اللهفان: 2/401-402]، ولو كان البلاء نقمة على العباد لما ابتلى الله تعالى أنبياءه وصفوة رسله، بل نجد العكس! فأشد الناس بلاءً هم الأنبياء، ثم الذين يلونهم في المنزلة، كما جاء في الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبيِاءُ، ثم العُلَماءُ، ثمَّ الأَمثَلُ، فالأمْثَلُ)). [المستدرك: كتاب معرفة الصحابة/ محنة أبي ذر 3/343 وهو حديث صحيح].

وسأعدد بعض الحكم التي تتجلى من ابتلاء الموسوسين:
-
إن أكبر حكمة من الابتلاء بالوسواس القهري، أن يستشعر الإنسان ضعفه وعبوديته لله، فهذا عقله الذي يحويه في رأسه، وهذه أفكاره التي هي أخص شيء فيه، لا يستطيع أن يتحكّم فيها! وهذه تصرفاته التي تنبع منه، لا يستطيع أن يسيّرها كيف يشاء! ولماذا؟ إنه اختلال مادة من المواد الكثيرة التي وضعها الله تعالى في جسمه!! فمن أنت أيها الإنسان؟! إن لم يمدك الله بالقوة والقدرة، هل تملك من أمر نفسك شيئاً؟؟ وهل هناك –بعد ذلك- مكان للكِبْر والزهوّ والإعجاب بالنفس؟؟ إنما أنت عبد ضعيف مفتقر إلى الله في كل حركاتك وسكناتك...

وإذا وصل الموسوس إلى هذه الحقيقة –حقيقة ضعفه وعبوديته- فقد فاز فوزاً عظيماً، فما غاية وجودنا في هذه الدنيا إلا لنعرف هذه الحقيقة ونعيشها، قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات: 56]. فالخلق كله والتشريعات والأوامر، إنما المقصود منها أن يلبس المرء ثوب العبودية لله عزَّ وجلّ، ويقف بين يديه يعلن عن ضعفه وافتقاره إليه.

-ومن الحِكَم أيضاً: تكفير سيئات الموسوس، لأن الابتلاءات والمصائب مكفرة للذنوب، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاه)) [البخاري: المرضى/باب ما جاء في كفارة المرض 4/2008 (5318)، مسلم: البر والصلة والآداب/باب ثواب المؤمن فيما يصيبه 4/1582 (2573)]. فإن صَبَر المُبتلى ورضي بقضاء الله نال أجر الصابرين والراضين، زيادة على ما يحصل له من تكفير السيئات. [انظر: قواعد الأحكام: 1/189].

والوساوس والشبهات التي يلقيها الشيطان للإنسان -سواء صاحبها مرض أم لا-، نوع من أنواع الابتلاءات، فإذا دفعها المؤمن ولم يركن إليها أثيب وارتفعت منزلته عند الله، لأنه يُبتلى بها (ليقوى إيمانه، ويعلو عند الله ميزانه بمدافعتها، وردها، وعدم السكون إليها، فلا يظن المؤمن أنها لنقص درجته عند الله). [إعلام الموقعين: 4/440]

-
في الابتلاء بالوسواس مداواة للقلوب والعقول من أمراضها الخفية: فكم من فكرة عقيمة، أو من مفهوم معوَجّ كنت -أيها الموسوس- تحمله وأنت لا تدري، فاجعل من ابتلائك فرصة لتقويم المفاهيم، وتصحيح الأفكار، وهذا هو عين علاجك...!
- هذه بعض من الحِكَم، وحكم أقدار الله لا تنتهي، وكلنا يرى –إذا تأمل- كيف يُسيِّرُه الله تعالى برحمته، وينقله من حال إلى حال، ويلمس الحكم العامة، والخاصة به من خلال ذلك....
فلا تضيّع -أيها الموسوس- ما فتح الله لك من أبواب الخير، واصبر وثابر، وكلما عظمت المشقة، فتذكر ما يدّخره الله لك عنده -من عظيم الأجر والثواب- في جنّات النعيم...
فهل من داعٍ للقلق والخوف من الوساوس بعد ذلك؟!!

- ((
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)) [الشعراء:80]
إن الذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء، وهو الذي بيده الشفاء، فالمرض والشفاء من الله عزّ وجل، وإنما نسب إبراهيم الخليل في هذه الآية المرض إلى نفسه من باب التأدب مع الله عزّ وجل حتى لا ينسب إليه الأمر السيّئ [انظر: تفسير القرطبي: 13/75]، فاطلب الشفاء من الشافي وذلك من خلال أمرين: أولهما: امتثالك لأمره بالتداوي الذي حضَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ((تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً إِلاَّ الْمَوْتَ وَالْهَرَم)). [أحمد في المسند: 30/398 (18455)، ابن ماجه: الطب/ باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء 4/87 (3436)، المستدرك: كتاب الطب/خير ما أعطي العبد المسلم الخلق الحسن 4/198 وهو حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم]
هذا مع معرفتك ويقينك بأن تناول الدواء إنما هو لامتثال أمر الله لا غير، وأن أدوية الدنيا عاجزة عن شفائك إن لم يأذن الله بحصوله لك...
والأمر الثاني الذي تطلب الشفاء من خلاله: كثرة الدعاء والتضرع مع الثقة بإجابة الكريم.

وحينما يرى منك الله تعالى صدق الامتثال بالتداوي، وصدق التوجه إليه والتبرؤ من جميع الأسباب رغم استخدامك لها، حينما يرى منك ذلك، ويرى أنك قد أحسنت الجواب على سؤال امتحانك في هذه الدنيا، فلن يبخل عليك بالعطاء وهو الذي بيده كل شيء، ولن يحرمك من الشفاء وهو الكريم... وإن أخَّر عنك الشفاء لحكمة يعلمها، فلن يحرمك من عطاء آخر يسعدك به، ويكفيك أنك نجحت في الامتحان، وفُزتَ برضا الرحمن، فما الذي تريده بعد ذلك؟!! وإنما الحياة أيام قلائل توشك أن تفارقها لتلقى جزاء صبرك وحسن عبوديتك، ناسياً ما مرّ معك وكأن شيئاً لم يكن.... فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً [أي: يغمس]، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ! وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ، وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَط!)). [مسلم: صفة القيامة والجنة والنار/باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار 4/1715 (2807)]

هذان هما المفهومان اللذان مَنَّ الله تعالى بشرحهما في هذا المقال، وأما القاعدتان فهما:
- الأصل في الصفات العارضة العدم:
صفات الشيء على نوعين: صفات أصلية وهي الصفات التي يشتمل عليها الشيء بطبيعته: كالبياض في اللبن، والبكارة في الأنثى، والنجاسة في الخنزير...، وصفات عارضة وهي التي تحدث بعد أن لم تكن موجودة: كالعلم في الإنسان، والنجاسة في الثوب...

فالقاعدة في الصفات الأصلية أن تكون موجودة (يعني: أن يولد الخنزير وهو نجس، وأن يخرج اللبن من الضرع وهو أبيض)، بينما على العكس: القاعدة في الصفات العارضة أن تكون غير موجودة –أو معدومة- (يعني: أن يولد الإنسان جاهلاً ليست فيه صفة العلم، وأن يكون الثوب طاهراً ليست فيه صفة النجاسة). [انظر: شرح القواعد الفقهية: ص117-120].
* تطبيق:
- موسوس يخاف أن يكون دهس شخصاً ما أثناء قيادة السيارة: نقول: الأصل في الإنسان أن يولد بريء الذمة من الذنب والجريمة، ويبقى هكذا إلى يقترف جريمة بيقين لا يقبل الشك، وحيث عُدِم اليقين في حقك، فإنك ما زلت بريئاً من صفة الجريمة لأن (الأصل في الصفات العارضة العدم) وكذلك هناك قاعدة أخصّ تقول: (الأصل براءة الذمة). فلا داعي لعودتك للتأكد من براءتك لأنها لم تتغير!

- موسوس يخاف من التلوث/ النجاسة، فيغسل الأشياء الجديدة قبل استعمالها: نقول له: الأصل أن تُخلَق الأشياء وتوجد نظيفة طاهرة سالمة من العيوب. وأما التلوث/النجاسة فهي صفات عارضة تطرأ على الأشياء وليست أصلية فيها (والأصل في الصفات العارضة العدم)، فالتلوث/النجاسة غير موجودَيْن إلى أن تعلم وجودهما بيقين، إذن: غسل الأشياء الجديدة إضاعة للوقت في إزالة شيء غير موجود، ومشقة لا داعي لها، فقاوم رغبتك في الغسل لأنه تبين –بعد هذا الكلام- أنه ضرب من العبث، لا يوافقك عليه عاقل.

- الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته:
و(الحادث) هو الأمر الذي قد وجد بعد أن لم يكن موجوداً. والمراد بهذه القاعدة: أنه إذا تأكدنا من وجود شيء لكن لم نعرف تاريخ وجوده، فننسب وجوده إلى أقرب زمان ممكن من وقت علمنا به. [انظر: شرح القواعد الفقهية: ص125-131].

* تطبيق:
الموسوس: قبل أن أذهب إلى عملي صباحاً رأيت في ثيابي شيئاً من النجاسات، ولا أعرف متى حصل هذا، وأريد أن أقضي صلاة يومين، حيث قمت بتغيير ثيابي منذ ذلك الحين.
المعالج: متى دخلت إلى الحمام آخر مرة قبل أن ترى النجاسة؟
الموسوس: قبل ساعتين من رؤيتي لها، عند طلوع الشمس.
المعالج: النجاسة أمر طارئ، حادث، وجد في ثيابك ولم يكن موجوداً عندما لبست تلك الثياب، أليس كذلك؟ وإذا جهلت زمن وجودها (فالأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته)، وأقرب زمن ممكن لحدوث هذه النجاسة: قبل العلم بها بساعتين عند دخول الحمام، وهذا بعد أدائك لصلاة الفجر، فلا داعي لإعادة أي من الصلوات التي صليتها لأن النجاسة لم تكن موجودة أثناء الصلاة –حسب علمنا الذي نُكَلَّف على أساسه-!

وإلى أربعة من المفاهيم والقواعد في مقال آخر...
                                                      
ومازال الحديث مستمراً.....
المراجع:
- إعلام الموقعين عن رب العالمين: محمد ابن قيم الجوزية: دار الأرقم بن أبي الأرقم-بيروت: 1997م، اعتنى به: أحمد عبد السلام الزعبي.
- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: محمد ابن قيم الجوزية: المكتبة التوفيقية-القاهرة، تحقيق: عبد الحكيم محمد عبد الحكيم.
- المستدرك على الصحيحين: الحافظ أبو عبد الله الحاكم النيسابوري (وبذيله: التلخيص للحافظ الذهبي)، دار المعرفة-بيروت، طبعة مفهرسة بإشراف: د.يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
- تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن):أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي: دار الكتب العلمية-بيروت:1988م.
- سنن ابن ماجه: دار المعرفة-بيروت:1997م، تحقيق: خليل مأمون شيحا.
- شرح القواعد الفقهية: أحمد الزرقا: دار القلم-دمشق، 2001م، قام بمراجعته: د.عبد الستار أبو غدة.
- صحيح البخاري: دار العلوم الإنسانية-دمشق: 1993م، تحقيق د.مصطفى البغا.
- صحيح مسلم: دار ابن حزم-بيروت:1995م.
- قواعد الأحكام في إصلاح الأنام: عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام: دار القلم-دمشق: 2000م، تحقيق: د.نزيه كمال حمّاد، د.عثمان جمعة ضميرية.
- مسند الإمام أحمد ابن حنبل: مؤسسة الرسالة-بيروت: 1999م، أشرف على تحقيقه: الشيخ شعيب الأرنؤوط.



الكاتب: أ. رفيف الصباغ
نشرت على الموقع بتاريخ: 29/11/2008