|
|
|
منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري(7) ::
الكاتب: أ. رفيف الصباغ
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/12/2008
منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري(6)
هذا المقال تتمة للمفاهيم والقواعد التي تم عرضها في المقالين السابقين، وقد بقي منها أربعة:
- مقاصد التشريع وأثر الوسواس عليها: خلق الله تعالى الإنسان، وأراد سعادته في الدنيا والآخرة، فأنزل له الشرائع التي تساعده على تحقيق ذلك، وختم الله تعالى تلك الشرائع بشريعة الإسلام، وقد ظهر –بعد استقراء أحكام الإسلام- أن تلك الأحكام تدور حول مقاصد خمسة تؤمن مصالح الإنسان وتدفع المضار عنه، وهذه المقاصد هي: حفظ الدين، وحفظ النفس [الذات البشرية]، وحفظ العقل، وحفظ النَّسْل، وحفظ المال.
فلحفظ الدين: جاء الأمر بالإيمان بالله وحده، وحَرُم عبادة ما يهين الإنسان من الأصنام وغيرها... ولحفظ النفس: أبيح الطعام والشراب، وحَرُم القتل وفُرضت عقوبات على القاتل... ولحفظ العقل: شُرع تناول الأغذية التي تعين على بقائه -كما شرع ذلك لحفظ النفس-، وحَرُم تناول المسكرات... ولحفظ النسل: شُرع الزواج وأنزلت الأحكام التي تضمن حقوق الزوجين والأطفال، وحَرُم الزنا وشرعت إقامة الحد على الزاني... ولحفظ المال: أبيحت التجارة وأنواع المعاملات المختلفة، وحرمت السرقة وعوقب عليها... [انظر: ضوابط المصلحة: ص131-133، أصول الفقه الإسلامي: ص78-83] وعلى الإنسان -أثناء ممارسته لأعماله المختلفة- أن يعمل على مراعاة تلك المصالح والحفاظ عليها، فإذا فعل ما يعاكس أحد هذه المقاصد ويخلّ بها، علمنا أن عمله هذا غير مشروع، لأنه مخالف لأهداف التشريع وغاياته ومقاصده.
فهل الأعمال التي يقوم بها الموسوس، تحفظ هذه المقاصد الخمسة وتقوِّيها، أم أنها تعارضها وتهدمها؟ الملاحظ -وبكل وضوح- أن الوسواس يعارض جميع مقاصد التشريع وليس واحداً منها فقط! فهو يعارض مقصد حفظ الدين، لأن الموسوس في أمر الصلاة والطهارات غالباً ما يصل به الأمر إلى ترك الصلاة بالكلية، والموسوس في العقيدة يظن نفسه كافراً فيؤثر ذلك على التزامه بالأحكام، والموسوس بغير ذلك يضيع وقته في وساوسه على حساب ما يُصْلِح دينه بل ودنياه أيضاً... وهو يعارض مقصد حفظ النفس، لأنه يضر بصحة الموسوس بطريقة أو بأخرى،كالضرر الجسدي الحاصل في حالة وسواس نتف الشعر ونحوه، وكالآفات الجلدية التي تنجم عن كثرة التنظيف في وسواس النظافة، وغير ذلك.. وهو -أيضاً- يعارض مقصد حفظ العقل، بما يسببه من تشويش في الفكر، وقلق، وأفكار غير منطقية لا يقرّ بها عاقل...
وكذلك الأمر في مقصد حفظ النسل: فالناس يبتعدون عن الزواج بالموسوس أو الموسوسة، وإذا حصل زواج فقد ينتهي بالطلاق عند اشتداد الوسواس، وإصرار شريك الحياة عليه... ولا يختلف الأمر في مقصد حفظ المال، فوسواس النظافة والطهارات، فيه هدر للماء والمنظفات..، ووسواس التسوق وجمع الأشياء القديمة فيه إضاعة للمال أيضاً، وشغل الوقت بالأعمال الوسواسية يؤثر في العمل اليومي فيؤخر عنه، ويقلل من كفاءة الموسوس، بل ويقعده عن العمل كله أحيانا..
ولو لم تكن علّة –في جميع أنواع الوساوس- إلا الاشتغال بها عن الأعمال النافعة التي تسعد الإنسان لكفى ذلك في ذمها شرعاً وعقلاً! فما رأيك أيها الموسوس؟! ألا يقنعك هذا بأن تثابر على العلاج، وتقطع استجابتك للوساوس مهما تسبب لك ذلك بالقلق والمعاناة؟ وهل اقتنعت أن فعلك ليس أكمل من فعل الناس، وأنهم يحسنون القيام بالأعمال أكثر منك، فأنت تناقض مقاصد التشريع على العكس منهم؟ وألا يقنعك هذا أن التخفيفات الشرعية الخاصة بك صحيحة ويجب عليك العمل بها إلى أن يكرمك الله بالشفاء؟ وإن اقتنعت، فهل تترك قناعاتك لأجل مشاعرك الوهمية، أم أنك مستعد لإهمال مشاعرك في سبيل ما اقتنعت به، علماً بأن هذا هو سبيل شفائك؟ قرر من الآن فليس هناك وقت للتردد...
-درء المفاسد أولى من جلب المصالح: يعني إذا خُيّرْنا بين فعلين، في أحدهما جلب لمصلحة، وفي الآخر دفع لمفسدة، -ولا يمكننا فعلهما معاً-، اخترنا فعل ما يدفع المفسدة، وتركنا ما يجلب المصلحة، وهذا مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) [البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة/ باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم 4/2497 (6858)، مسلم: الفضائل/باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله 4/1460 (1337)].
فالمنهيات (وما يتبعها من مفاسد) يجب تركها بغير شرط، وأما المأمورات (وما يترتب عليها من مصالح) فتفعل بشرط الاستطاعة. فيؤخذ من هذا أن الشرع اعتنى بأمر المنهيات ومفاسدها، أكثر من المأمورات ومصالحها، لهذا نقدم درء المفسدة عند تعارض المصلحة مع المفسدة. [انظر: المدخل الفقهي: ص74، شرح القواعد الفقهية: ص205].
- تطبيق على وسواس الترتيب: - الموسوس: أحب الترتيب جداً لما فيه من جمال، ولما يحدثه في النفس من ارتياح، وغير ذلك من الفوائد والمصالح...، ولكني أقلق جداً إذا لم تكن الأمور في غاية الترتيب، وأمضي جلّ وقتي وأنا أرتب وأنظم الأشياء. - المعالج: اهتمامك المبالغ فيه بالترتيب يجلب لك فوائد ومصالح جمالية، واجتماعية مختلفة، لكن أنت لا تستطيع ترتيب أمورك وأشيائك إلا من خلال أفعال تضر بك، وتُضيِّع وقتك، وتعيقك عن أشياء أخرى أهم من الترتيب، وهذه كلها مفاسد، ومعلوم أن (درء المفاسد أولى من جلب المصالح)، فيلزمك إذن ترك زيادة الترتيب دفعاً للمفاسد، وإن كانت تُفوِّت عليك المصالح الجمالية التي تحبها.
-إذا تعارضت مفسدتان، روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما: كانت القاعد السابقة في الكلام على تعارض مصلحة ومفسدة، وهذه القاعدة تتكلم على تعارض مفسدتين، أحدهما أكبر من الأخرى. ففي هذه الحالة نهتم بشأن المفسدة الكبيرة فنفعل ما يدفعها، وإن كان ذلك يترتب على فعل مفسدة أخرى أقل منها ضرراً. وفي معنى هذه القاعدة قاعدة: (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف)، وقاعدة: (يُختار أهون الشرّين). [انظر: المدخل الفقهي: ص72]. - تطبيق على وسواس الصلاة: - الموسوس: يؤسفني أن أقول لك: إني تركت الصلاة لأني لا أستطيع فعلها كما ينبغي، فأنا أمضي الوقت كله في محاولات فاشلة لأدائها على نحو صحيح ولكني لا أشعر أني أحسنت فعلها، فصرت أخاف من الصلاة وتركتها! - المعالج: وما رأيك؟ أيهما أهون، أن تترك الصلاة بالكلية أم أن تصلي صلاة غير كاملة؟ - الموسوس: ولكن الصلاة غير الكاملة، تعني أني لم أصلي، فما الفائدة؟ - المعالج: إن الشريعة في هذه الحالة أمرتك أن تصلي -ولو صلاة ناقصة- واختارت لك أهون الشرّين، حماية لك من أعظمهما –أعني ترك الصلاة-، وما أمَرَتْك به الشريعة هو المطلوب منك، فكيف يكون غير صحيح؟؟ إذن: صلاتك الناقصة صحيحة، فلا تتعب نفسك في إعادتها، وهي خير لك مما أنت فيه الآن من ترك الصلاة، فما رأيك؟
-المشقة تجلب التيسير: هذه القاعدة من أمهات القواعد التي تدور عليها معظم أحكام الشريعة، وهي تعبّر عن مضمون آيات كثيرة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ((يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) [البقرة:185]. وقوله: ((وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) [الحج:78]. فالله تعالى شرع أحكاماً تيسر للناس أمورهم حتى لا يقعوا في المشقة والحرج، كتشريع البيع والشراء لتأمين حاجات الإنسان، وإباحة النظر للخاطبين لتحقيق المودة بين الزوجين، وغير ذلك...
وإضافة للأحكام الشرعية العادية التي تقوم في أساسها على التيسير، هناك أحكام شرعت لمراعاة الحالات التي تعظم فيها المشقة وتزيد عن الحدود العادية، كالأحكام التي شرعت للتخفيف على المسافر، والمريض، وكذلك أحكام التخفيف على الصغير، والمجنون، والناسي، والجاهل المعذور، وغير ذلك، وتطبيقات هذه القاعدة أكثر من أن تحصى... [انظر: الأشباه والنظائر: 1/194-209، شرح القواعد الفقهية:ص157-162].
وإذا كانت الشريعة قائمة على التيسير، فليس من المستغرب، أن يذم الشرع الوسواس، ويطلب الانتهاء عنه، لما فيه من الحرج العظيم للناس. وليس من المستغرب أن تُشرع أحكامٌ خاصة بالموسوس تخالف أحكام غير الموسوسين، من باب التخفيف عليهم، والمساعدة على تخلصهم من علتهم. فالموسوس في أمور العقيدة، لا عبرة بما يجري في فكره، ولا تخرجه وساوسه عن الإسلام. والموسوس في الصلاة، لا تبطل صلاته مهما طرأ عليه من شك. وكذلك في الوضوء... والموسوس في الطلاق، لا يقع طلاقه! وهكذا.... [وستأتي النصوص الدالة على ذلك عند ذكر علاج الوسواس بإذن الله]. فارأف بنفسك أيها الموسوس، ولا تشق عليها باتباع الوسواس، واعلم أنه مهما بلغت مشقة مخالفته، ومهما أزعجك القلق، فإنه لا يعدل مشقة استمرارك في وسوستك....، فوطّن نفسك للمجاهدة وطلب العلاج، في سبيل التيسير على نفسك...، واترك التدقيق والتقصي تيسيراً على نفسك...، ولا تكرر أفعالك مهما كانت سيئة –في ظنك- تيسيراً على نفسك، فالله أراد بك اليسر، فلِم تريد لنفسك العسر؟ وقد أعطاك من الرخص ما يعينك به على الشفاء، فلِمَ ترفض هدية الله لك ورخصته؟ أَوَيُعقَل هذا منك؟ فقوِّ إيمانك بهذا المعنى، وثابر على اتباع رخص الله واقنع بها، ولن تكون عاقبتك إلا خيراً بإذن الله تعالى...
هذه بعض المفاهيم والقواعد الشرعية، التي تقوّم الفكر وتصحح مسار العقل، وتعين على علاج الموسوسين، ولا شك أن المفاهيم الشرعية التي تساعد على ذلك كثيرة جداً، لكني اكتفيت بأبرزها، وأكثرها استخداماً، وأيسرها فهماً. ولا شك –أيضاً- أنه إذا تم استخدام هذه المفاهيم بالطريقة المعمول بها في العلاج المعرفي الحديث فإنها ستؤتي نتائج طيبة، وتساهم مساهمة كبيرة في إقناع العقليات المسلمة التي لا تطمئن سوى للمعارف الإسلامية. ومازال الحديث مستمراً..... المراجع: - أصول الفقه الإسلامي: د.محمد مصطفى الزُّحَيلي: جامعة دمشق: 1987م. - الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الشافعية: جلال الدين السيوطي: دار السلام-القاهرة: 1998م، تحقيق: محمد محمد تامر، حافظ عاشور حافظ. - المدخل الفقهي (القواعد الكلية، والمؤيدات الشرعية): د.أحمد الحجي الكردي: جامعة دمشق: 1994م. - شرح القواعد الفقهية: أحمد الزرقا: دار القلم-دمشق: 2001م، قام بمراجعته: د.عبد الستار أبو غدة. - صحيح البخاري: دار العلوم الإنسانية-دمشق: 1993م، تحقيق د.مصطفى البغا. - صحيح مسلم: دار ابن حزم-بيروت:1995م. - ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: د.محمد سعيد رمضان البوطي: دار الفكر-دمشق: 2007م.
الكاتب: أ. رفيف الصباغ
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/12/2008
|
|
|
|
|
|
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com
|
حقوق الطبع محفوظة لموقع مجانين.كوم ©
|
|