إغلاق
 

Bookmark and Share

منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري مشاركة3 ::

الكاتب: أ‌. رفيف الصباغ
نشرت على الموقع بتاريخ: 28/03/2009


أرسل إنسان (22 سنة، طالب طب، مصر) يقول:

منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري (11)

أ. رفيف الصباغ؛ جزاك الله خيراً على ما تقدمينه في هذا الموضوع الهام.
أود التطرق إلي نقطة، وهي أن الشخص إذا أصيب مرة بالوسواس القهري وكانت وساوسه دينية فإنه في الغالب يظل فترة طويلة وهو لا يعلم ما أصابه، فيظنه من الشيطان وأنه إنسان آثم... إلى آخره، وقد كنت كذلك ثم علمت الأحكام الشرعية، وأن هذا اضطراب وأنه يعالج، وبالفعل لجأت للطب النفسي وزالت الأفكار الدينية التشككية.

لكن لا أدري، تبقى شيء ما؛ عاودت حياتي ولكن ترك الوسواس القهري داخلي شعوراً بالقهر، ذلك الشيء الذي يشعرك دوماً أنك منافق، وأنك لا تعبد الله بإخلاص كما يحب، أنك مراءٍ، وأنك بعيد، أنك... شيء يشعرك وكأنك تريد الصراخ لتقول له ارحمني. لا يتركك هذا الشيء حتى تقتنع أنك كذلك، لتحل أنت مكانه في لومك لنفسك.

ستقولي لي تجاهله وأننا لا بد أن نحسن الظن بالله وسأرد عليك: ونِعْمَ بالله؛ هو الرّحمن وأعلم ذلك جيداً، لكن هذا الشعور لا يفارقني، جزء من ديننا يقول لنا أننا يجب أن نوازن بين الخوف والرجاء، وأعلم أني أغلِّب جانب الرجاء، لكن كلما سمعت داعية ديني يتحدث عن القيامة أو، أو... حتى لو بأسلوب عادي وليس بأسلوب صعب، لا أدري أشعر أنه من الصعب عليّ أن أسمع عن هذه الأمور، وبالتالي تتجاهل التفكير في الموت لأنك ستكون وحدك، ومن يعلم هل قمنا بما علينا كما هو مطلوب أم لا؟!.

لا أعير هذه الأمور اهتماماً بالغاً وأركز في دراستي ومستقبلي وعلاقاتي، ستردين بأن هذا شيء طيب... وسأقول لك فعلاً، ولكن دوماً أنظر إلى نفسي على أني مخطئ، وضعي تحتها خطوطاً عدة.

من الطبيعي أن الفرد الذي يؤدي الصلاة والصيام وأركان الإسلام أن يشعر بالسعادة وبأنه على الطريق الصحيح، لكن من غير الطبيعي أن تقومي بهذا ثم تشعرين بأنك مخطئة! صحيح لا أقوم بطقوس إعادتها لكن يكفي هذا الشعور.

تولد لديّ شعور بأن الالتزام الحقيقي أمر صعب عليّ تحقيقه، وأنني أتبع أهوائي، أنظر بعين الإعجاب لأصدقائي الملتزمين وأتمنى من داخلي أن أكون مثلهم، لكن دائماً أستشعر لديهم الصدق وقوة مجاهدة النفس، وأستشعر في نفسي عدم الصدق في الالتزام الحقيقي، ولا تفهمي من كلامي أني لا أؤدي واجباتنا الدينية كمسلمين.

أتعلمين؟ كم أود أن أرضى عن نفسي وعن عباداتها، الذي يطيع الله لا بد أن يكون مسروراً وقريباً منه، أليس كذلك؟ كم أتمنى أن ترحمني نفسي، لا أدري هل هذا بقايا أيام المرض؟ وهل تغيرت شخصيتي؟ أنا حقاً لا أدري!.

تنظرين حولك وتنظرين في أوضاع مجتمعك العربي والإسلامي ودائماً ما تسمعين أننا متأخرون، أننا مقصرون، أننا ابتعدنا عن منهج الله، لهذا ضعنا... منذ الصغر وهذا ما نسمعه، ترى كيف كانت عبادة الأولين؟ وترى هل نحن جميعاً من الغافلين؟ هل نحن جميعاً من المخطئين الضالين؟ لماذا لم يقولوا لنا أخطأتم في كذا وإصلاحه هكذا؟.

أرجو أن تجيبيني على أسئلتي وتوضحي لي لماذا لا أرضى عن نفسي أو عباداتي؟ حقاً تعبت من هذا التعقيد، لم يجئ الدين إلا لكي نسعد في الدنيا والآخرة، ولكن تأبى نفسي إلا أن تعكر صفو هذه السعادة. دائماً تضعين تساؤلاً: وماذا لو...؟ ماذا لو كنت غير مخلص؟ هل سيضيع عملي كله وأهلك؟ ويأبى بعض الدعاة إلا أن يشعروا المجتمع بأنه من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، كيف أوازن بين التدين الحقيقي وبين المعاملات الدنيوية؟
هي مجرد مشاركة ولكني أعلم أنني ملأتها بالتساؤلات.
عموماً جزيت خيراً على جهدك العظيم.

15/3/2009

السلام عليكم، الأخ الكريم،
إن مما يجعل الوسواس يتسلط على الإنسان ويسيطر عليه، عدم علمه بأنه وسواس وظنه بأنه حقيقة عليه أن يفكر فيها أو يعمل بها، لذلك على من كان عنده استعداد للوسوسة أن يظل يقظاً دوماً ليعرف الأفكار الوسواسية فوراً ويطردها من ذهنه قبل أن تعشعش فيه.

وما تعاني منه حالياً ليس أثر الوسواس وإنما هو (من أوله لآخره) وسواس جديد دخل عليك –لكنه ليس بجديد في عالم الموسوسين- وسيطرته عليك وإزعاجه لك أكبر دليل على ذلك، ويمكنك علاجه بالطريقة المعروفة وهي: إهماله وعدم الخوف منه لأنه لا مؤاخذة به. وإذا حاولت معرفة ما الذي جعلك تقع في براثن هذه الفكرة، غالباً يمكنك رد هذا –بالإضافة إلى الاستعداد البيولوجي- إلى خلل معرفي يتعلق بحقيقة الإنسان والسلوك الإنساني، وبعلاقة العبد مع الله عزّ وجلّ. وهذه نقاط مهمة من المفترض أن تكون أول ما يُعرّف عليه الإنسان من خلال النصوص الشرعية الثابتة، أي علينا أن نتعرف على الله من خلال النصوص التي عرّف نفسه بها، وكذلك على أنفسنا من خلال النصوص التي عرفنا بها حقيقة ذواتنا، وليس من خلال تأملاتنا القاصرة التي قد تتأثر بكثير من الأمور، ولكن -لقدر ما- قد لا يجتمع الإنسان بمن يعرفه على ذلك بيسر وسهولة، فيظل يقلّب فكره ويبحث عن الحقائق أشهراً وسنواتٍ في سبيل التعرف على هذا، والسعيد من وصل وعرف وإن كان بعد تعب ونصب.

الأخ الكريم،
إن القول بأن الإنسان خطّاء، لا يعني أنه مخطئ دائماً بل المعنى أن من شأنه أن يقع في الخطأ، ولكن الله عزّ وجلّ راعى هذه الطبيعة التي خلق الإنسان عليها ففتح له باب التوبة وجعل لكل ذنب ما يصححه ويمحوه، قال صلى الله عليه وسلم: "كل ابن آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون"، ولهذا حكمة بليغة وهو أن يسوقك الذنب للوقوف على باب الله عزّ وجلّ فتنكسر بين يديه وتشعر بلذة العبودية، تشعر بشدة تقصيرك وضعفك، وتقول له: "يا رب أنا مذنب فعلاً، لكنك أنت العفو، وأنت وعدتني بالتوبة إذا أقبلت عليك، فتب عليّ!" وتتعرف على كرم الله ورحمته وفضله حيث يغفر الذنوب مهما كثرت وتكررت، ويوفقك لفعل الطاعات رغم ضعفك وسوء حالك -وحالنا-، فيغمرك الحياء والنشوة والانشراح، وراحة الضمير لأنك تخلصت من أوزارك وأقبلت إلى من يغفر الذنب ويقبل التوب، فعدت نظيف الثوب طاهر القلب...، هذه هي السعادة التي تغمر المسلم المطيع الأواب الذي كلما أخطأ تاب.

أما أن تطالب نفسك بالكمال وعدم الوقوع في الذنب، وتشعر أنها خرجت عن الطبيعة والمألوف إن هي أذنبت، وتظل تجلد نفسك بالسياط وتطالبها أن تكون كالملائكة، فهذا ليس من قانون هذه الدنيا ولا يمكن له أن يتحقق فيك يوماً من الأيام، فالخير لك أن تعترف بحقيقتك وتعمل وفق ما خلقك الله عليه.

إن الله تعالى كل ما يريده منا أن نبذل وسعنا كله في مرضاته، مهما كان قليلاً، وأن نكون خلال بذلنا وعملنا متجهين إليه، قاصدين مرضاته بذلك. وأما أن نبلغ الكمال المطلق في عملنا فهذا ما لا نستطيعه، ولا يحزنك ذلك، فلا أحد يدخل الجنة بعمله ولكن برحمة الله، لأننا مهما فعلنا لا يمكننا أن نقوم بحق الله علينا، ولكنه يقبلنا جميعاً على ما فينا برحمته وفضله. قال صلى الله عليه وسلم: "لا ينجي أحداً منكم عمله، فقال رجل: ولا أنت يا رسول الله؟ فقال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، ولكن سددوا"، فأنت سدد وقارب –أي حاول الاقتراب من الكمال- ولا تطالب نفسك بأكثر من هذا. وإذا فعلت هذا فلا يضرك أنك ربما كنت مخطئاً فأنت لا تحاسب عليه، فحتى كبار المجتهدين والعلماء، يبذلون جهدهم في معرفة الأحكام لكن ليسوا جميعاً موافقين للصواب الذي في علم الله تعالى، وإنما المصيب واحد، ولكن الله تعالى يعطي المصيب أجرين ويعطي المخطئ أجراً واحداً لأجل ما بذله من جهد في سبيل الوصول إلى الحق، ويدخله الجنة كمن وصل إلى الحقيقة والصواب!.

فليس أمامنا جميعاً إلا حسن الظن بالله، فلا أنا أعرف أقبلني الله أم لا، ولا أنت ولا أحد من الناس، ولا أحد يستطيع أن يحكم على غيره من باب أولى.
أمر آخر: إن عدم الشعور بالسرور والانشراح ليس علامة على سوء الشخص دائماً، فأحياناً يكون الأمر على العكس! لأن الذي يطيع الله عز وجل ويصبر على الالتزام بأوامره دون أن ينال لذة عاجلة تسهل عليه العمل، يكون أجره أعظم عند الله عز وجل لعظم مشقته، وهو دليل على إخلاصه إذ يعمل لأجل الله فقط لا لشيء آخر ولو كان هذا الشيء هو حصول لذة الطاعة!

ثم إن قضية التخويف والترهيب يستخدمها الدعاة من أجل أن يتحرك الغافلون، والذين يميلون إلى التساهل والتفريط –وهم أكثر الناس-، أما الموسوسون الذين يميلون إلى الإفراط، ويسبب هذا الكلام عندهم نوعاً من الارتباك والشلل عن ممارسة الأعمال بدل أن يدفعهم إلى العمل، فالأولى لهم أن يعرضوا عن سماع الترهيب، وأن يكثروا من سماع وقراءة ما ورد في فضل الله وكرمه، وكذلك ما ورد في حبه وحب نبيّه صلى الله عليه وسلم، حتى يزول تشنجهم ويستطيعون العمل بارتياح وانشراح.

وأخيراً،
بالنسبة للتوفيق بين العبادات والمعاملات الدنيوية، فأقول لك: إن الدين لم يميز بين الصلاة والصيام وبين البيع والتجارة والدراسة وغيرها من الأعمال..، فكلها في نظر الدين عبادات إذا قصدت بها وجه الله تعالى (ولا تقل لي: ماذا لو كنت غير مخلص، أنت حاول أن تصلي وأن تدرس لأن الله تعالى أمرك بهذا لا لأجل مال أو شهرة، ثم لا يضرك بعد هذا ما ورد على ذهنك من قول: ماذا لو..!). وكان أساتذتنا يقولون لنا: (إن طالب العلم ورده علمه) وهذا لا يفترق فيه طالب العلم الشرعي عن طالب سائر العلوم، فكلهم يقوم بفرض كفاية ويخدم الأمة في ثغر من الثغور. كذلك كانوا يقولون لنا:(إن الفائدة المتعدية أفضل من القاصرة)، يعني أن العلم فائدته تتعدى إلى من حول عالمه وتصل إليه، بينما نوافل الطاعات فائدتها محصورة في صاحبها، فإذا أديت فرائضك، ثم تعارضت النوافل مع طلب العلم ولم تستطع الجمع بينهما قدم طلب العلم على النوافل من الصلاة ونحوها لعموم نفع العلم. وهذا يمكن أن يطبق على كل عمل دنيوي يعم نفعه، كخدمة الوالدين لأبنائهم، والسهر على خدمة المرضى، والقيام بالحراسة في مكان ما، وإحضار البضائع التي تحتاجها الأمة وتأمينها للناس، وهكذا... بشرط أداء الفرائض من العبادات، ونية التقرب إلى الله بالعمل الدنيوي.

وعليك الآن:
1- أن تتعرف على ما يلزمك من أحكام.
2- أن تبذل الجهد الذي تستطيعه في فعل ما يجب عليك.
3- أن تستحضر أن قصدك من ذلك أن يرضى الله تعالى عنك.
4- ثم أهمل كل فكرة تأتي إليك بأنك مخطئ أو مراءٍ ونحو ذلك، لأنها وسواس لا يضرك عند الله، واقطعه فوراً واشغل نفسك بغيره.
5- اصبر على هذا وستزول معاناتك بإذن الله تعالى.
وفقك الله، وتابعنا بأخبارك.



الكاتب: أ‌. رفيف الصباغ
نشرت على الموقع بتاريخ: 28/03/2009