لماذا الوسواس القهري: أسباب الوسوسة القهرية1 ::
الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 16/02/2010
أصبح الكلامُ عنْ أسباب المرض في الطب النفسي مختلفًا بشكْلٍ ملفتٍ في السنوات الأخيرة، فبعد أن كانَ الأمرُ متعلقًا بالتفسيرات التي تقدمها مدارس علم النفس المختلفة كمدرسة التحليل النفسي والمدرسة السلوكية إلخ...، أصبحَت التفسيراتُ المعاصرةُ متعلقةً بالتغيرات الكيميائية وربما التركيبية في المخ، ولعل لذلك عددا من الأسباب ذكرنا أهمها في مقالنا القديم عن أسباب الأمراض النفسية، وقد فاجئني اكتشاف أن مجانين رغم الكلام الكثير الذي قلته وقاله زملائي مستشارو مجانين عن الوسواس القهري ليس يحوي مقالات عن أسباب الوسواس القهري فقررت أن أضع لكم هنا شيئا من الكلام العلمي في الموضوع..... أقدَّمُ في النقاطِ التالية نظرةً سريعَـةً مُجْـملَةً لنتائجِ البحثِ العلمي والنظريات النفسية المختلفة حتى وقتِ كتابة هذه السطورِ فيما يتعلقُ بأسباب الوسواس القهري إضافةً إلى المعطيات الفكرية التي أستطيعُ النفاذَ إليها من هذه النتائج العلمية في حدودِ قدراتي بالطبع محاولا الإجابة عن سؤال لماذا؟، ثم أضيفُ بعد ذلك محاولات الفهم المختلفة المسماة بالسيكوباثولوجيا محاولا الإجابة عن سؤال: كيف؟:
أولاً: الأسباب (العِـلِّـيَّـةُ، لماذا؟)Etiology : (1) الناقلات العصبية: يتصدَّرُ الكلامُ عنِ الناقل العصبي السيروتونين Serotonin ما يزال معظمَ الكلام المكتوب عن أسباب الوسواس القهري منذُ ما يزيدُ على عقدٍين من الزمان وإنْ كانَتْ هناكَ عبارةٌ يضيفها العقلاءُ هيَ: "أن كون تغيرات السيروتونين هيَ السببُ المباشرُ أو لا غيرُ معروفٍ حتى الآن"، لكنَّ الأبحاثَ العلمية المستمدَّةَ من التجارب على الأدوية تؤكدُ أنَّ استعمالَ الأدوية التي تزيدُ من تركيز السيروتونين في المخ يؤثر تأثيرًا إيجابيا في تحسين حالة المريض، وآخرُ هذه التصورات العلمية لسبب تحسن أعراض المريض باضطراب الوسواس القهري بعد فترةٍ من استخدامه لعقَّـارٍ يثبطُ استرجاعَ السيروتونين من المشابك العصبية هوَ أن هناكَ خللا ما في عمل السيروتونين في المشابك العصبية لهؤلاء المرضى، وهذا الخللُ قد يكونُ زيادةَ حساسية Hypersensitivity مستقبلات السيروتونين البعمشبكية Post-Synaptic 5-HT receptors أي مستقبلات "5-هت" البعمشبكية إذا أردنا أن ننحتَ لها اسمًا عربيًّا، ويرونَ في ذلكَ تفسيرًا لتأخرِ التأثير الذي يحسُّهُ المريضُ على الأعراض لمدةٍ ربما وصلت إلى عشرة أسابيع وربما أكثر، في حين أن التأثير الفارماكولوجي للعقار يحدثُ بعد ساعاتٍ من تناوله، كما أن التحسن الذي يحدثهُ نفس العقار في معظم الحالات في مرضى الاكتئاب الجسيم إنما يجيءُ بعد أسبوعين أو ثلاثة من استخدام العقَّار الدوائي بانتظام، وهناكَ دراسات تشيرُ إلى وجود نقص في ناقل عصبي آخر هو النورأدرينالين Noradrenalin وهناك علماءُ يرونَ أن البحثَ المستقبليَّ في أسباب الوسواس القهري قدْ يتناول ناقلات عصبيةٍ أخرى كالدوبامين Dopamine والأستيل كولين Acetylcholine.
(2) دراسات تصوير المخ: يجيءُ الكلامُ بعدَ ذلك عن تصوير المخ الوظيفيِّ مثـلاً "التصوير الطبقي للمخ بقذفِ البوزيترون Psotiron Emession Tomography" ومن خلال استخدام النظائر المشعة Isotope Scanning وحديثًا باستخدام التنظير الطيفي باستخدام الرنين المغناطيسي Magnetic Resonance Spectroscopy وكذلك التصوير الوظيفي باستخدام الرنين المغناطيسي Functional Magnetic Resonance Imaging وهذه التقنياتُ تعطي فكرة عن معدل النشاط "عمليات الأيض أو معدل تدفق الدم" في مناطق المخ المختلفة وقد أظهرت الدراسات زيادة في معدل نشاط فصوص المخ الأمامية ومعدل نشاط النوى القاعدية خاصة النواة المذنَّبَة أو المذيلة Caudate Nucleus وكذلك منطقة الحزام Cingulum في مرضى اضطراب الوسواس القهري مقارنة بغيرهم من الناس، وأوضحت بعضُ الدراسات أيضًا أن العلاج الدوائي وكذلك العلاج السلوكي للحالة يعيد نشاط هذه المناطق إلى حالته الطبيعية، كما أن نتائج هذه الدراسات التصويرية الوظيفية جاءت متماشية مع نتائج الدراسات التصويرية التركيبية.
ويوضح الشكل (1) مقارنةً بين صورة المخ في الإنسان الطبيعي وفي المريض بالوسواس القهري، وتشيرُ كثافةُ اللون الأحمر إلى حد النشاط الأقصى للمخ، وأكثرُ المناطق الحمراء هي الفصوص الأمامية للمخ، كما يوضحُ شكل(2) مقارنة بين صورتي المخ بقذف البوزيترون قبل وبعد العلاج
شكل (1) مقارنةٌ ما بين صورة المخ في الإنسان الطبيعي وفي المريض بالوسواس القهري
شكل(2) مقارنة بين صورتي المخ بقذف البوزيترون قبل وبعد العلاج
وما تزال تقنيات تصوير الدماغ تتطور وتحسن القدرة على التصوير الوظيفي والتركيبي حتى وصلنا إلى من يعرضون إمكانية التعرف على وتشخيص المخ المصاب بالوسواس القهري عبر أحد فحوص تصوير المخ هو تصوير المخ الكلي الوظيفي باستخدام الرنين المغناطيسي Whole-Brain Magnetic Resonance Imaging وذلك دون مقابلة إكلينيكية ومما يعضد تلك الإمكانية أن دراسة أجريت ظهر فيها أنه كلما كانت أعراض الوسواس القهري شديدة كلما كان ظهورها في ذلك الفحص أسهل وكذلك ظهرت علاقة طردية بين درجات الشخص على مقياس يل براون للوسواس القهري Y-BOCS ووضوح صورة النمط الوسواسي في مخه (Soriano-Mas, et al., 2007) كما تبين الصورة التالية:
(3) العوامل الوراثية: بينت دراسات عديدةٌ وجود تأثير واضح للوراثة في اضطراب الوسواس القهري فهوَ أكثرُ في التوائم المتماثلة (33% - 63%) عنه في التوائم غير المتماثلة (7%)، وإن كانتْ بعضُ الدراسات قد أشارت إلى غير ذلك، وتكون العواملُ الوراثيةُ أكثرُ وضوحًا في الحالات التي يبدأُ فيها ظهور الأعراض قبل سن الرابعة عشرة، كما أن نسبة الإصابة بالوسواس القهري في أفراد عائلة المريض أعلى منها في أفراد المجتمع العاديين حيث وصلت إلى 35% في الأقارب من الدرجة الأولى مقارنة بـنسبة 1%-3% في أفراد المجتمع العاديين، كما أن نسبة وجود اضطراب الوسواس القهري في آباء وأمهات الأطفال الذين يعانون من الوسواس القهري تصل إلى 18%.
إلا أن هذه الدراسات بالطبع لم تستطع حتى الآن الفصل بينَ ما هو وراثة خالصة متعلقة بالمادة الوراثية "الجينات"، وبين ما هو ناتج عن ظروف بيئية أو ثقافية لعائلة معينة، خاصةً وأنهُ لم تُجْرَ حتى الآن دراساتُ التبني Adoption Studies (وتعني أن يربي والدٌ موسوس أطفالَ والدٍ غير موسوسٍ أو العكس)، التي ربما تعطي بعضَ الإشارات على هذا الموضوع، وأما محاولاتُ إيجادِ ارتباطٍ بأحد المواقع الجينية فلم تعطِ حتى الآنَ نتائجَ واضحة أو أكيدة نظرًا لصعوبة هذا النوع من الدراسات إضافةً إلى تضارب نتائجها سواءً في وراثة الاضطراب نفسه أو المادة الجينية المسئولة عن تشكيل مستقبلات السيروتونين(Bella et al.,2002)، وأيضًا (Samuels, 2009).
ومن تراثنا العربي يقولُ البلخي (850-934 ميلادية): (أن الوسواس عرضٌ ليسَ بمعروف السبب وليس بالحقيقة علةٌ موجبةٌ وإنما هو شيءٌ يقعُ في طباع بعض الناس من قبل مولده (أبو زيد البلخي 1984)) فكأنَّه يشيرُ منذ القرن التاسع/العاشر الميلادي من طرفٍ خفيٍّ إلى عامل الوراثة كمسبب للوسواس القهري.
(4) دراسات الفسيولوجيا العصبية أو علم الفسلجة العصبي Neurophysiological Studies : تظهر دراسات رسم المخ أثناء النوم Sleep EEG في مرضى الوسواس القهري سرعة دخول المريض في نوم حركة العين السريعة REM Sleep وهو ما يحدثُ أيضا في مرضى الاكتئاب الجسيم، كما أظهرت دراسات رسم المخ وجود اختلافات في نشاط المخ الكهربي بينَ مريض الوسواس القهري وبين الأشخاص العاديين وقد قام أحمد عكاشه بدراسة عن نمط النوم(Okasha etal 1996) لدى مرضى الوسواس القهري كما قام بدراسة التخطيط المخي (Okasha & Raafat 1990,1991) لمرضى اضطراب الوسواس القهري في دراستين متتاليتين وأظهرت نتائجُ الدراستين وجود اختلافات في نشاط المخ الكهربي لدى أولئك المرضى، كما قامت جيهان النحاس ضمن أطروحتها للدكتوراه بدراسة فرق الجهد الحثي Evoked Potential في هؤلاء المرضى(3) وكذلك أجريت دراسةٌ في جامعة الزقازيق فرع بنها تمت فيها دراسة المسح الطبوجرافي لمرضى اضطراب الوسواس القهري (Oransa , 1992) وكل هذه الدراسات تشيرُ إلى وجود اختلافات في النشاط الكهربي لأدمغة مرضى اضطراب الوسواس القهري إلا أن هذه الاختلافات لا تصل إلى مستوى الثبات والتكرار اللازم لاعتبارها سمة مميزة لاضطراب الوسواس القهري.
(5) التغيرات الهرمونية: وهنا تعيدنا المعطيات إلى احتمال وجود علاقة بين الوسواس القهري والاكتئاب حيثُ تشابه استجابة مريض الوسواس القهري لمادة الديكساميثازون استجابة مريض الاكتئاب الجسيم فلا يحدثُ الهبوط المنتظر في هرمون الكورتيزون في الدم بعد حقن المريض بالديكساميثازون وذلك في نسبة تصل إلى 25% من مرضى الوسواس القهري، يضافُ إلى ذلك ملاحظاتُ العديد من الأطباء النفسانيين على المريضات باضطراب الوسواس القهري اللاتي تظهرُ عليهن الأعراضُ لأول مرةٍ أثناءَ الحمل وربما يكونُ تفسيرُ ذلكَ هوَ التغيرات الهرمونية المصاحبة للحمل.
وتشير الدراساتُ الحديثةُ (British Columbia Reproductive Mental Health Program, 2002) إلى نوعٍ من الزيادةِ في عدد النساءِ اللائى يعانين من أعراضِ اضطراب الوسواس القهري مرتبطًا بالحمل بنسبة 1% أو بالولادةِ (أي خلال فترة ستة أشهرٍ بعد الولادة) بنسبة 2- 3% ودونَ أن يكونَ مصحوبًا بأعراض اكتئاب جسيمٍ أو أيٍّ من اضطرابات القلق (أي في غياب التواكب المرضي Comorbidity المشهور مع الاكتئاب أصلاً بعد الحمل)، ومعنى ذلك أن النسبةَ أكبرُ من النسب المذكورةِ أصلاً، وإن لم يكنْ معروفًا حتى الآن إن كانَ ذلك يمثلُ زيادةً حقيقيةً؟ أم أنهُ تعبيرٌ عن زيادة وعيِ النساء باضطراب الوسواس القهري، لكن الباحثين ينصحونَ كلَّ سيدةٍ حاملٍ لها تاريخٌ مرضي مع الوسواس أو لأسرتها تاريخٌ مرضيٌّ مع الوسواس أو أنها أصلاً تعاني من الوسواس أن تدخلَ أي برنامجٍ علاجي للوسواس سواءً كانَ دوائيًّـا أو معرفيا سلوكيا لأنها إن لم تفعل فأعراض وسواسها ستزيدُ حدةً طوال الحمل وينصحونها أيضًا بأن تهتمَّ بالعلاجِ خاصةً وأنَّ نسبةَ تعرضها لاكتئابِ جسيمٍ ما بعد الحمل أعلى بكثيرٍ من المرأة التي لا تاريخَ لها مع اضطراب الوسواس القهري.
المراجع: 1. وائل أبو هندي (2003): الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، عالم المعرفة إصدار يونيو 2003 عدد 293.
2. Soriano-Mas C, Pujol J, Alonso P, Cardoner N, Mench�n JM, Harrison BJ, Deus J, Vallejo J, Gaser C (2007): Identifying patients with obsessive-compulsive disorder using whole-brain anatomy. Neuroimage. 2007 Apr 15; 35(3): 1028-37
3. Bella, D.D, Cavallini, M.C. & Bellodi, L. (2002) : No Association Between OCD and the 5-HT1Dβ Receptor Gene.Amer. J. Psychi.V.159, P : 1783-1784.
4. Samuels, J.F (2009): Recent Advances in the Genetics of obsessive-compulsive disorder. Current Psychiatry Reports 2009, 11:277–282.
5. أبو زيد البلخي (1984): مصالحُ الأبدان والأنفس، معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية( يصدرها فؤاد سركية )، جامعة فرانكفورت، ألمانيا.
6. Okasha, A., Omar, A. M., Lotaief, F. Ghanem, M., Seif el Dawla, A. & Okasha ,T.(1996): Comorbidity of axis I & axis II diagnoses in a sample of Egyptian patients with neurotic disorders. Comprehensive Psychi. V.37,P97-106.
7. Okasha , A. and Raafat , M. (1990) : Neurophysiological Substrate of Obsessive Compulsive Disorder : an evidence from topographic EEG. Egyptian Journal of Psychiatry, vol. 13 , page 97-106.
8. Okasha , A. and Raafat , M. (1991) : The Biology of Obsessive Compulsive Disorder : an evidence from topographic EEG. Arab Journal of Psychiatry, vol. 2 , page 106-117.
9. Oransa , A. T. (1992) : Brain Mapping in OCD master thesis , Banha Faculty of Medicine , Zagazig University. 1-110.
10. British Columbia Reproductive Mental Health Program (2002) : OCDs. http://www.bcrmh.com/disorders/ocd.htm.
الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 16/02/2010
|
|