|
|
|
نطاق الوسواس القهري هل لنا أن نفكر؟ ::
الكاتب: أ.د.وائل أبو هندى
نشرت على الموقع بتاريخ: 16/12/2004
المفهوم الحالي لنطاق الوسواس القهري Obsessive Compulsive Spectrum مفهومٌ ما يزالُ في مرحلة التطور والتغير بشكلٍ يجعلُ المرْءَ غير قادرٍ على التعميم اللازم لنحت المصطلحات، لكنَّ الواضح حتى الآن على الأقل أن اعتبار اضطراب الوسواس القهري واحدًا من اضطرابات القلقِ Anxiety Disorders وهو ما حدث في التصنيف الأمريكي الرابع DSM-IV، وحذا حذوه تصنيف منظمة الصحة العالمية العاشر ICD-10، بينما هوَ اعتبارٌ بعيدٌ عن الصواب، لأن اعتبار وجود القلق بوضوحٍ في معظم مرضى الوسواس القهري سببًا كافيا لضمه إلى اضطرابات القلق إنما يجعلُ المرءَ يتساءَلُ لماذا لا نضعُ النسبةَ الأكبرَ من مرضى اضطرابات الاعتماد على العقاقير مثلاً أو مرضى اضطراب الاكتئاب الجسيم أيضًا مع اضطرابات القلق?
والواقع أن تصورَ أي اضطراب نفسي لا يشكل القلق بأعراضه المعرفية والجسدية جزءًا مهما من صورته المرضية هو تصورٌ في منتهى الخيال، ولا وجود له بين المرضى، بل إنني أظنُّ أن اضطرابات أخرى صنفت أيضًا تحت عباءة القلق في ذلك التصنيف، ككل أنواع اضطرابات الرهاب Phobic Disorders، وكذلك اضطراب نوبات الهلع Panic Disorder، أصبحت الآن مرشحةً للتحرك خارجها لتدخل عباءة الوسواس أو نطاق الوسواس القهري. والحقيقة أن من يتأملُ مريض الوسواس القهري نفسه من قربٍ بعد أن يلمَّ بمعطيات البحث العلمي الجديدة، إنما يقفُ حائرًا عند عديد من النقاط، فمثلا نقف عند نقطةٍ كثيرًا ما يعتبرونها الجوهرَ المميز لاضطراب الوسواس القهري وهيَ مقاومة المريض للفكرة التسلطية أو للفعل القهري، إذ كانَ مفهوم بقاء البصيرة عند مريض اضطراب الوسواس القهريِّ مركزيا بالطبع عند الجميع حتى وقتٍ قريب، لكنه اهتزَّ الآن بعنف واهتزت معهُ فكرةُ أن المقاومة ضرورية للتشخيص وأصبحنا نراجعُ الكثير من حساباتنا في الطب النفسي، ومع اهتزاز فكرة المقاومة تلك أصبحت صورة الاضطراب/الاضطرابات المتوزعة على متصل السيطرة الانفلات مهتزةً أيضًا فيما يتعلق بالبعد المعرفي الشعوري المصاحب لأداء السلوك المرضي، وبصورة أوضح أصبح كونُ الفعل ممتعا في حد ذاته "أي انفلاتيا" للمريض كما في الإدمان والعقعقة ومعظمِ اضطرابات العادات والنزوات، أو كونه فقط مسكنا للضيق والتوتر، كما في الوسواس القهري ووسواس المرض وغيرهما من اضطرابات النطاق الوسواسي القهري، أصبح الفرق بين كون المريض راغبا في الأداء (مستجيبا لنزوة) ونادرا ما يقاوم وإن قاوم فكثيرا ما يفشل، أو مضطرا إليه (مجبورا بضيقٍ وتوتر) وعادة ما يقاومُ وينجحُ إذا أراد وعولج، أصبح كل ذلك يتداخلُ تحت مفهوم القهرية، فالمريضُ مقهورٌ في الحالتين!
إذن سيكتشفُ المتأملُ من قربٍ لمشكلة مريض الوسواس القهري أن المشكلةَ أعمقُ من مجرد التحكم والمقاومة، إنما هيَ خللٌ في عملية التحكم نفسها، فمريضُ الوسواس القهري على سبيل المثال كثيرًا ما يتأرجحُ بينَ التحكم والتسيب أو السيطرة والانفلات، وكثيرًا ما نراهُ عاجزًا عن ضبط هذا البعد من أبعاد نفسيته، ومن يتأملُ التاريخ المرضيَّ الحياتي للعديد من حالات الوسواس القهري سيكتشفُ مثلا أن تلك السيدة التي كانَ كل ركنٍ في بيتها يلمعُ كما تلمع المرآة وحياتها كلها كانت تنظيفًا في تنظيف، يمكنُ أن تَتخذَ قرارًا مفاجئًا بالكف عن تنظيف بيتها بل وعدم السماح للآخرين بتنظيفه لأنها ببساطة أصبحت تشعرُ بالقرف من هذا البيت أو من نفسها أو لأنها وقعت فريسةً للتخزين القهري لأكياس القمامة! بل وأكثر من ذلك أننا لو تأملنا طريقةَ الانتحار الذي نادرًا ما يفعلهُ مريضُ الوسواس القهري لوجدناهُ دائمًا من أكثر أشكال الانتحار اندفاعيةً!
واستمرارا للتأمل في عملنا مع مرضى الوسواس القهري، أجد ما يدفعني إلى القول بأن مرضى اضطرابات نطاق الوسواس القهري وليس فقط مرضى الوسواس القهري، لديهم مشكلةٌ في عملية التحكم بالفعل، فمثلا في مرضى اضطراب الشخصية القسرية، ليس الأمر كما يبدو لأول وهلةٍ تحكمًا زائدًا فقط أو رغبةً في التحكم الزائد فقط، فهناكَ إحساسٌ أساسي داخلي بفقد الأمان هو ما يجعلُ من تمسك المريض المفرط بالقواعد محاولةً لمواجهة ذلك الشعور الدفين باللا أمان الأساسي، ومن المفيد أيضًا هنا أن نتأمل الطريقةَ الفريدةَ التي يتعاملُ بها مريض الوسواس القهري مع الأعراف الاجتماعية فهيَ ليسَت دائمًا الالتزام الصلب بالتقاليد والعرف بل إنها كثيرًا ما تكونُ عكسَ ذلك، فهل لذلك من معنى؟ إن مريض اضطراب الوسواس القهري الذي يفرطُ في تنظيف جسده عادةً ما لا يمتلكُ العاداتِ المفضيةَ إلى الصحة الجسدية، كما أن مريضَ الوسواس القهري الذي يصرُّ على الانضباط والنظام في حياته غالبًا ما لا يفعلُ ذلك بغاية تحسين أدائه في حياته وإنما يفعلهُ لأن الانضباط والنظام غايتان في حد ذاتهما!
كما أن متابعةَ حياة مريض اضطراب الوسواس القهري من الطفولة حتى الكهولة كثيرًا ما تُظْهِرُ تباينًا كبيرًا في تحكمه مقابل تسيبه فهوَ متسيبٌ مثلاً جداً في طفولته ومتحكمٌ جدا في كهولته أو العكس، وكانتْ هذه الملاحظةُ ملاحظةً شخصيةً لي حتى اكتشفتُ من الدراسات ما يؤيدُ وجهةَ نظري تلك خاصةً في حالات اضطراب الوسواس القهري المصحوبة أو المصاحبة لاضطراب العرات Tic Disorder حيثُ اتضحَ وجودُ اندفاعيةٍ عاليةٍ بالفعل في هؤلاء المرضى، ونفس الكلام نراه كثيرا في مرضى نقص الانتباه المفرط الحركة Attention Deficit Hyperactivity Disorder فهم غالبا متسرعون متعجلون مندفعونImpulsive، وهم في الوقت ذاته معرضون للوسوسة بأشكالها المختلفة، كما نجد أيضًا في أكثر مرضى اضطراب نتف الشعر Trichotillomania اندفاعية وانفلاتا أثناء عملية النتف، سمات شخصية منضبطة أو حتى قسرية ويعرفه الناس بأنه من أكثر الناس انضباطا والتزاما، أفلا يجعلنا كل ذلك نفكر في كل من طرفي متصل الاندفاعية القهرية المتناقضين ظاهرا، وكأنهما وجهان لنفس العملة.
وفي حين أن كلا من الأفكار التسلطية (الوسواسية)، والأفعال القهرية (المتسلطة) هما السمة المميزةُ لاضطراب الوسواس القهري، إلا أن التفكير الوسواسي، وأسمي أشكاله المختلفة كلها بالوسوسة المعرفية (سواء في صورة انشغال زائد عن الحد -إلى درجة مرضية- أو في صورة تفكير تصويري أو تخيلات كتخيلات الموت والعزاء، -تصل حدا مقعدا-، أو في صورة التفكير التسلطي الاجتراري المصور أو ما نسميه أحلام اليقظة المنفرة والتي لا يستطيع صاحبها مقاومتها أو ترشيدها كما بيننا في استشارة الوسواس القهري وأحلام اليقظة، أو في صورٍ أخرى) ، هذه الوسوسة المعرفية تحدثُ أيضًا في اضطرابات نفسية كثيرة منها الوسوسة المعرفية بـ"كيف أبدو؟!" كما في مرضى وسواس التشوه ومرضى وهام التشوه الجسدي Dysmorphic Delusion، ومرضى اضطرابات الحمية المنحفة Dieting Disorders وغيرهم من ضحايا عبادة الصورة، وكذلك تحدثُ الوسوسة المعرفية بـ"كيف أحس أو أستشعر كياني أو الكون من حولي" كما نجد في مرضى اختلال الإنية Depersonalization، أو بـ"كيف صحتي" كما نجد في مرضى وسواس المرض، أو بـ "كيف أنجو" كما في مرضى رهاب الساحة Agoraphobia،... إلى آخر ما يمكنُ من أمثلة.
ونفس الكلام ينطبق على الأفعال القهرية إذ نجدها في مرضى من غير مرضى الوسواس القهري كمرضى اضطراب العرات (اللوازم الحركية أو الصوتية) Tic Disorder وهم مرضى يكررون حركة ما أو تعبيرا أو صوتا بصورة قهرية، فعادةً ما نسمع من هؤلاء المرضى وصفا لظواهر حِسِّيَّةٌ جسديةٌ Somatosensory Phenomena مزعجة تسبق أفعالهم التكرارية Repetitive Actsوكأنها تأخذُ دورَ الفكرة التسلطية في دفع المريض إلى تكرار العرة (اللازمة) لكي يخفف من انزعاجه الحسي، وأحيانا نجد لدى هؤلاء المرضى وسوسة معرفية بعدم اكتمال الفعل -العرة- والرغبة في تكراره لإكماله، وكذلك نسمع من مرضى اضطراب نتف الشعر Trichotillomania وهو النتف الاندفاعي Impulsive أو القهري Compulsive أو التلقائي Automatic للشعر، لأنه قد يأخذ أيًّا من هذه الأشكال، نسمع من هؤلاء الذين يدمنون نتف شعرهم إلى حد القرع، وصفا لمشاعر تتأرجح على متصل الاندفاعية القهرية ما بين نتفٍ مصحوب بالاستمتاع إلى نتفٍ مصحوب بمجرد التخلص من الضيق إلى نتف يشعرون أنه مهمة لابد أن تنفذَ، وأحيانا يكون سلوك النتف سلوكًا تلقائيا فلا نسمع من المرضى أكثر من أنهم يفعلون ذلك دون انتباهٍ كامل أثناء انشغالهم بالتركيز في أي عمل أو نشاط، ونفس الكلام نجده في مرضى قضم الأظافر Onychophagia بالأسنان، ومرضى اضطراب تشويه الجسد Repetitive Self-Mutilation، ومرضى نقر الجلد المتكرر Psychogenic Excoriation أو نقر الجلد القهري، وغير ذلك مما شرحنا من قبل في مقال نطاق الوسواس القهري :: وساوسُ الحب والرغبة، وأيضا في مرضى الشذوذات الجنسية Paraphilias أو اضطرابات التفضيل الجنسي Sexual Preference Disorders بأنواعها المختلفة.
ولنعد إلى مفهوم نطاق الوسواس القهري لنقول أن الاضطرابات التي تقع داخله بشكل عام إنما تتسمُ أرض الصراع النفسي فيه بتوزع المرضى على عدة متصلات معرفية شعورية بعضها يتوازى وبعضها يتقاطع، وهذه المتصلات المعرفية الشعورية يتأرجح عليها توزع المرضى -بشكل عام- أو المريض بمضي الزمن -بشكل خاص- تأرجحا بين نقيضين شعوريين معرفيين سلوكيين، ولكنه غالبا تأرجح شعوري معرفي يصحب معه تأرجحا سلوكيا، وعلى هذه المتصلات أمثلة كثيرة لعل أهمها: -1- متصل شعوري معرفي سلوكي بين الشك التام والثقة التامة في صحة أو منطقية الفكرة أو الفعل: وهنا نجد أن الأمر قابل للتناول من زاويتين أحدهما هي زاوية اقتناع من يسرف في التنظيف أو العدِّ أو تكرار الفحص لدى الأطباء مثلا بضرورة ذلك الفعل ومنطقيته، في مقابل رفضه لذلك الفعل أو اعتباره فعلا سخيفا أو بلا معنى أو مجرد مسكنٍ للقلق، وأما الزاوية الثانية فهي ما نجدُها مثلا في مرضى الغيرة المرضية حتى مستوى وهام الخيانة الزوجية، حيث يوجدُ من هو على شكٍّ أن زوجته تخونه ويعيش موسوسا بذلك يراقبها ويلاحقها إذا كان مسموحا لها أن تتصل بالعالم في غير جوده، ويضيق عليها في وقت فراغه معها، وهو مجرد رجلٍ غيور كثيرا ما تتحمله نساؤنا، مثلما يوجدُ من يصل به الأمر إلى حد اتهامها اتهاما مباشرا وهو مع الأسف معتقد فيما يقول ولا يشك. -2- متصل شعوري معرفي سلوكي بين الشعور باكتمال الفعل، مقابل الشعور بعدم الاكتمال: وهذا ما نجده واضحا عند تشريح أعراض طقوس التكرار Repeating Rituals لدى عديدين من مرضى الوسواس القهري، كذلك نجدهُ واضحا عند مرضى اضطراب العرات (اللوازم الحركية أو الصوتية) Tic Disorder، حيث يشعر كثيرون منهم بعدم الارتياح الذي يفسرونه عند تكرارهم للعرة الصوتية أو الحركية بأنه شعورٌ بعدم اكتمال الفعلة السابقة والاضطرار لتكرارها بالتالي ويمكننا أن نعدَّ تكرار لا يوقفه إلا الإنهاك العضلي أو الانهماك الذهني في سلوك آخر، ومن بين مرضى الوسواس القهري المسلمين، الذين يوسوسون في تكبيرة الإحرام مثلا من تظلُّ تكررُ التكبيرةَ وتشكُّ في أنها لم تقع في روعها (لم تكتمل) كما يجب، فتكبرُ وتكرر التكبير، وترفع صوتها حتى أنها لتسمعُ كل من في البناية التي تسكنها وتبقى غير راضية عن تكبيرها! -3- متصل شعوري معرفي سلوكي بين الثقة الكاملة والشك الكامل في واقعية الشعور بالذات والواقع المحيط: وهذا ما يعبرُ عنه بجلاء مرضى اختلال الإنية Depersonalization، حيث يصدَمُ الواحد منهم غالبا فجأة بشعورٍ غريب نادرا ما يستطيع وصفه بسهولة خاصة في المراحل المبكرة، ومنهم من يصفه بعدم الواقعية أو اختلاف النظرة، وأهمُّ ما في هذه الخبرة النفسية التي كثيرا ما ترتبط بحدثٍ حياتي من النوع الثقيل ويصحبها على المستوى المعرفي الشعوري اقتحام لفكرة "هل أنا موجود فعلا؟" أو فكرة "هل الأشياء حولي حقيقية؟" أو كلا الفكرتين ومن يبحث في خاصية هذه الفكرة من الأطباء النفسيين غالبا ما يجد لها صفة التسلط على وعي الشخص، لكن أهم ما في هذه الخبرة هو أنها تعني بالنسبة للشخص ابتعادا عن المألوف والطبيعي بالنسبة له وهو الشعور بالثقة الكاملة في واقعيته وواقعية الأشياء، وكثيرا ما نجدُه نتيجةً لذلك الشعور المؤلم بالشك في حقيقته أو واقعيته هو أو الأشياء من حوله أو هو وما حوله، نجدهُ يقع بعد ذلك في براثن الرغبة في التحقق والتأكد من أنه موجود أو أن مشاعره هي مشاعره أو أن ما حوله حقيقي، بنفس طريقة وساوس التحقق (أفكار وأفعال التحقق القهرية Checking Obsessions & Compulsions)، حتى تبدو الصورة المرضية مشابهة تماما لصورة مريض الوسواس القهري، بل إننا كثيرا ما نجد حالات وسواس قهري تبدأ أصلا بظاهرة اختلال الإنية. -4- متصل شعوري معرفي سلوكي بين الرضا الكامل والرفض الكامل للفعل أو الفكرة: ونحن هنا نتكلم عن مفهوم ذي علاقة وثيقة بما ناقشناه من قبل في مقال البصيرةُ واضطرابُ الوسواس القهريِّ، وما نودُّ إضافته هنا هو إعطاء الأمثلة على ما يحاول هذا المقال بيانه فما يلقاه الطبيب النفسي واقعيا وهو يحاور مرضاه هو موقف القبول الرافض وليس دائما قبول المضطر، فإذا أخذنا الأفكار التشكيكية الدينية كمثال -وربما شتى أنواع الاجترار فيما لا طائل من التفكير فيه- لوجدنا المريض متباهيا بأفكاره التشكيكية في نفس الوقت الذي يرفضها فيه، وفي نفس الوقت الذي يطلب فيه الخلاص منها، ولعل هذا ما استفزني لنشر مقال بالسيلوجيزم إثبات وجود الله يقينا، في هذا الباب لأنني وجدتُ فيه جزءًا مما يردُّ به على بعض مرضى الوسواس القهري الذين يتساءلون عن غيبيات ويشككون فيها، ويبررون ذلك برغبتهم في الوصول إلى اليقين. -5- متصل شعوري معرفي سلوكي بين الاستشعار المفرط للخطر تجاه سلوكٍ ما أو مثير ما وتجنبه بالتالي، وبين الإفراط في التعرض للخطر ناهيك عن استشعاره: وهذا المتصل هو المتصل الذي نجدُ مرضى الرهاب بأنواعه المختلفة عند أقصى طرف الاستشعار المفرط للخطر، وتشملُ اضطراباتُ الرهاب أو الخوافِ: الرهاب الاجتماعي Social Phobia ورهاب الساحة Agoraphobia وكنت حتى عهد قريب أرى أن الذي قد تتداخل أعراضه من أنواع الرهاب مع أعراض الوسواس القهري، هو الرهابُ البسيطُ Simple Phobia أو ما أصبحَ اسمهُ الرهابُ النوعي Specific Phobias لأنَّ ما يصاحبُ هذا الاضطراب من سلوك تَجَنُّبِي يشبهُ السلوكَ التَجَنُّبِيَّ لمرْضَى الوسواس القهري، كما أن الموضوعَ الذي يتعلقُ به الخوفُ الرهابيُّ في مرضى الرهاب النوعي يكونُ في كثيرٍ من الأحيان مشابها لموضوع المخاوف الوسواسية في مرضى الوسواس القهري فمثلاً الخوفُ من الإصابة بالعدوى أو من التلوث يمكنُ أن يكونَ موضوعًا لكلا الاضطرابين وكلُّ ذلكَ يجعلُ التفريقَ صعْبًا في كثيرٍ من الأحيان، إلا أن الخبرة الإكلينيكية مع المرضي بعد ذلك علمتني أن رهاب الساحة أيضًا يأخذُ نفس الصورة فهي فكرةٌ تسلطية تتعلق بـ"كيف أنجو؟" من خطرٍ محددٍ يحدثُ خارج البيت أو حتى داخله في المراحل المتقدمة، وأضرب مثلا بمريض تتسلط عليه فكرةُ أنه سيحصره أو سيسبقه البول وهو في مكان لا يستطيع التبول فيه-خارج البيت-، ويصل به الحال إلى ضرورة التبول قبل الرد على مكالمة الهاتف الأرضي كي لا يحدثَ ذلك وهو يتكلم -أي داخل البيت-، وتصحب تلك الفكرة كل أشكال الأفعال القهرية التي تقلل من إفراز البول، فلا يشربُ مثلا خارج البيت ومبتدءًا من ساعتين قبل الخروج من بيته، بحيثُ يضمن ألا يحصره البول، وأذكر من لا يأكل أبدًا ليلة السفر، أو في الليلة التي تسبق الامتحان الشفهي خوفا من أن يتقيأ أمام الممتحن، أي أن كل أنواع الرهاب يمكنُ أن تتداخل أعراضها مع أعراض الوسواس القهري.
ولكن الغريب هو أنك تجدُ في صفات نفس هؤلاء الأشخاص سماتٍ في الشخصية أو أعراض تنتمي إلى أقصى الطرف الآخر من هذا المتصل الشعوري المعرفي فتجدهم مثلا يتسمون بالعجلة أو الاندفاعية والتي تعني تعرضا للخطر إما كسمات أو كعرض لاضطراب سلوكي مواكب Comorbid Behavioral Disorder، فهذا ما غالبا يتضح بعد قليل من الاستماع للمريض، بحيث تبدو في المريض نفسه سلوكيات تناقض الاضطراب الذي يشتكي منه، وعلى المستوى السلوكي المعرفي الشعوري نفسه.
-6- متصل شعوري معرفي سلوكي بين التحكم والانضباط وبين التسيب والانفلات: ولعل هذا المتصل هو الأشهر في التصورات الغربية الحديثة في الطب النفسي، وإن وضعوا عليه كل أصناف اضطرابات نطاق الوسواس القهري موزعة حسب مقدار التحكم والحرص على الانضباط أو العكس بحيث يقع اضطراب الوسواس القهري في أقصى جهة التحكم المفرط، بينما تقع اضطرابات العادات والنزوات في أقصى جهة التسيب والانفلات من نفس المتصل، وتقع الاضطرابات الأخرى في النطاق قريبا من هذا الطرف وبعيدا من الآخر بمقدار ما تقتربُ أعراض الاضطراب من التحكم أو التسيب، إلا أننا في نفس المريض بأي من اضطرابات النطاق غالبا ما نجدُ سماتٍ قهرية وسمات اندفاعية في نفس الوقت أو خلال مراحل مختلفة من حياته، أي أن المرض نفسه يتحرك داخل النطاق وتتأرجح أعراض اضطرابه أو السمات السائدة لسلوكه على متصل التحكم القهرية/التسيب الاندفاع، فمثلا نجد مريض الوسواس القهري في مواجهة المواقف الحياتية التي تتسم بالجدة عليه إنما يبينُ تأرجحَ موقفه بينَ الاستسلام التام وبينَ الاعتراض العدواني أحيانًا بالشكل الذي يؤكدُ افتقاده للمرونة في مواجهة المواقف الحياتية وعدم معرفته كيف يتعاملُ معها، ونفس الكلام يمكنُ أن يستنتجَ من عدم إقبالهم أو ترحيبهم بالجديد عموما لأنهم لا يعرفونَ أو يخافونَ من التعامل معه.
المهم أن ذلك كلهُ يجعلُ وضعَ اضطراب الوسواس القهري ضمنَ مجموعةٍ مستقلةٍ من الأمراض السلوكية والنفسية هيَ اضطراباتُ نطاق الوسواس القهري، هوَ الوضع الأقربُ إلى الواقع، ونحنُ ما نزالُ في مرحلةِ الفهم فيما يتعلقُ بهذه المجموعة من الاضطرابات، ولهذا السبب وغيره، يصبحُ التوجهُ الحديثُ لاعتبار اضطراب الوسواس القهري واحدًا من مجموعة الاضطرابات النفسية الجديدةِ إلى حد ما (أو التي بدأنا نفهمها ونجمعها ونصنفها حديثا) والتي تسمى باضطرابات نطاق الوسواس القهري OCSDs توجهٌ أفضلُ بكثيرٍ من اعتباره واحدًا من اضطرابات القلق، وهذه المجموعة من الاضطراباتِ في الحقيقة هيَ اضطراباتٌ تتعلقُ بمتصل شعوري معرفي هو متصل الاندفاعية "أو التسيب" أو الانفلات في مقابل القهرية "أو التحكم" أو السيطرة، أي أنها اضطرابات تتعلقُ بقدرة الشخص على التحكم في رغباته واندفاعاته، ويوضعُ مريضُ الوسواس القهري بالطبع على أقصى طرف القهرية أو التحكم بينما تتوزعُ بقيةُ الاضطرابات على هذا المتصل إلى أن نصل إلى اضطرابات العادات والنزوات في أقصى الطرف الآخر للمتصل أي طرف الاندفاعية أو التسيب.
ولا أظنُّ أنني بعد عرضي لما ورد على ذهنيَ الآن من أفكار تتعلق بذلك التداخل بين أعراض اضطرابات نطاق الوسواس القهري، لا أظنُّ أنني غطيت جوانب موضوع خاصة ما يتعلق منها بالتداخل مع الاضطرابات الذهانية Psychotic Disorders، أي بين الوسواس والفصام أو بين الوسواس والاضطراب الوهامي، بل ولم أغطِّ كل جوانب التداخل مع ما تطرقتُ إليه في هذا المقال من الاضطرابات العصابية Neurotic Disorders أو غيرها، وإنما عذري هو أننا ما نزال في مرحلة من يحاول التأمل والتفهم، كما أعد بمواصلة التفكير في هذا الموضوع، ولعلَّ تأمل الشكل التوضيحي في هذا المقال، ومعرفتنا بأن نتائج دراسات التواكب المرضي ودراسات العوامل الوراثية ودراسات تجريب العقاقير العلاجية، ودراسات تطبيق أساليب العلاج المعرفي السلوكي المختلفة.
كل ذلك يشيرُ بوضوح إلى أن المشترك بين كل هذه الاضطرابات وبين اضطراب الوسواس القهري أكثرُ بكثير من المختلف أو المُمَيِّزِ لأي اضطراب، فهي اضطرابات غالبا ما تتواكب في صورٍ مختلفة في نفس المريض أو نفس العائلة، وتستجيب لنفس طرق العلاج عقَّاريا بالماسا ونفسيا بنفس أساليب العلاج المعرفي السلوكي، وأعراضها تشمل دائما أفكارا أو مشاعر تتسلط على المريض وأفعالا يلجأ إليها ليقلل معاناته فلا تقللها إلا قليلا، كل ذلك يدفع المرء إلى الاقتناع بضرورة أن نفكرَ في منظومة اضطرابات نطاق الوسواس القهري بطريقةٍ أقرب إلى مفاهيم ثقافتنا فيما يتعلق بالوسوسة، لعلنا نسلط الضوء على معنى جديد يساعدُ في فهم الإنسان لنفسه، وهل نجدُ في ثقافتنا فهما مغايرا لما يضم الوسوسة والعجلة و........... غير ذلك؟
الكاتب: أ.د.وائل أبو هندى
نشرت على الموقع بتاريخ: 16/12/2004
|
|
|
|
|
|
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com
|
حقوق الطبع محفوظة لموقع مجانين.كوم ©
|
|