إغلاق
 

Bookmark and Share

متلازمة شم رائحة الجسدORS التشخيص ::

الكاتب: أ.د.وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 29/10/2005

بينا في المقدمة أن الشكوى من صدور رائحة كريهة أو منفرة من الجسد أو عبر واحدةٍ من فتحاته هي شكوى قد يسمعها الطبيب النفسي من أنواعٍ شتىَّ من المرضى في عيادته، ونحاول في هذا المقال أن نعرض احتمالات التشخيص الفارقي Differential Diagnosis، وكيف يبدو المريض النفسي في كل واحد من الاضطرابات النفسية التي قد يظهر معها ذلك العرض أو الشكوى من رائحة كريهة هو مصدرها، فبعد استبعاد الأسباب العضوية الظاهرة للشكوى(مثلا التهابٌ بالحلق أو الأنف أو الأسنان في حالات البخر Halitosis، يبدأ الطبيب النفسي في استبيان التاريخ الطبنفسي للحالة فإما أن يجد اضطرابا نفسيا أشمل وأعمق من متلازمة شم رائحة الجسدORS، كاضطراب الفصام Schizophrenia أو الاضطراب الوهامي Delusional Disorder أو الاكتئابMajor Depression أو غيره كما سنبين أو يكونُ التشخيص الوحيد الممكنُ هو متلازمة شم رائحة الجسدORS.

ففي مريض الفصام إضافةً إلى الأعراض والعلامات الأشمل للفصام، نجدُ أن ظهور فكرةِ صدور رائحة كريهة من الجسد -إن حدث- يتخذُ شكلا مختلفا من حيث توليفة الأعراض المصاحبة، ومن حيث السلوكيات المبنية عليها إذ كثيرا ما لا تتسمُ بالتناغم مع الفكرة وقد يظهرُ لنا سلوك المريض الظاهر نفسه أقرب للسلوك الفصامي غير المترابط أو المفرط في غرابته، فمثلا عالجتُ فصاميا أفسد لثته وأسنانه ولسانه من فرط استخدام المطهرات والمعطرات ومعاجين الأسنان،

وكانت شفاهه وبشرة وجهه بيضاء مجيرةً من كثرة استخدامه لأكثر من نوعٍ من الصابون لغسلها قبل مقابلة أي إنسان، وكان تفسيره الذي يكرره لهكذا سلوك هو فقط قوله المتكرر: "النظافة من الإيمان أليس كذلك؟"، وعرفنا من خلال التاريخ المرضي الذي قدمه أخوه أنه كان منذ سنين بعد سنتين من بداية مرضه، انشغل فترةً بأن رائحة كريهة تصدر من فمه وأنها مسلطة عليه من جهاز الموساد ومباحث أمن الدولة، أي أنه يعتقدُ أن فمه يصدر رائحة كريهة، لكنه لم يعد يصرح بذلك الاعتقاد مكتفيا بالسلوكيات المبنية عليه.

إذن قد لا يقدمُ لك المريض الفصامي تفسيرا لسلوكه، أو حتى يربطه بالفكرة، وهذا ما لا يحدثُ في المريض بمتلازمة شم رائحة الجسدORS، فهو دائما ما يكونُ مترابط السلوك المبني على الفكرة، وغالبا قادرًا على إخفائه أو إحاطته بشيء من السرية.

وفي حالات الاضطراب الوهامي يستند التشخيص إلى وجود فكرةٍ وهامية  Delusional Idea دون بقية أعراض وعلامات الفصام، وبعض حالات متلازمة شم رائحة الجسدORS تكونُ الفكرةُ فيها وهامية وبعضها تكونُ الفكرة فيه تسلطيةObsessive Idea ، ومهم أن نسترجع الفرق بين هذين النوعين من الأفكار البشرية المرضية، ولعلَّ أفضل طريقة لتوضيح الفرق هيَ تخيلُ نطاق أو متصل ٍ يمثلُ بخطٍ مستقيم، نضع في أحد طرفيه أولئك الذين ينطبقُ على أفكارهم التعريف التقليدي للفكرة التسلطية بمعنى أنهم مقتنعون بعدم صحة أو لا معقولية تلك الفكرة وهم بالتالي يقاومونها، بينما نضع في الطرف الآخر من الخط أولئك الذين لا ينطبق عليهم التعريف التقليدي فهم مقتنعون بصحة فكرتهم وهم بالتالي لا يقاومونها، وما بين طرفي الخط المستقيم أو المتصل المتخيل نستطيع أن نضع الكثيرين من المرضى بعضهم يشكُّ مثلاً في إمكانية أن تكونَ الفكرة التسلطية صحيحةً وبعضهم لا يحاولُ مقاومتها رغم أنه يراها غير صحيحة بمعنى أن هناك عدم توافق بين رأيه على المستوى المعرفي وبينَ أفعاله على المستوى السلوكي، أي أن المريض مثلا رغم عدم اقتناعه بفكرة أن جسده يصدر رائحة تنفر الناس إلا أنه يجد نفسه مضطرًا للتصرف على هذا الأساس، ولعلنا فصلنا في التفريق بين هذين النوعين من الأفكار المرضية في إجابات سابقة على استشارات مجانين منها:
الـزَّوَرُ (البارانويا) أنواع، فأيّ الأنواع أنت؟
وسواس أن المقصود أنا: وهام أم فكرةٌ مبالغٌ فيها؟

وأما في حالات الاكتئاب فإننا قليلا ما نجدُ انشغالا برائحة منفرة تصدر من الجسد، وذلك في حالات الاكتئاب الجسيم متوسط الشدة أو الشديد، وقد تأخذُ الفكرة شكل الفكرة التسلطية (الوسواسية) في الاكتئاب المتوسط الشدة أو الشديد، ولكنها في حالات الاكتئاب الشديد المصحوب بأعراض ذهانية قد تكونُ فكرةً وهامية، وصحيحٌ أن الاكتئاب دون مثل هذه الفكرة يمكنُ أن يؤديَ إلى انعزال اجتماعي لكن الانعزال لا يكونُ بسبب الخوف من أثر الرائحة الشخصية على الآخرين، أما في الحالات النادرة من المكتئبين المشغولين برائحة أجسادهم فإن الانعزال يكونُ ثانويا لمثل هذه الفكرة.

ومن المهم عند رؤية مكتئبٍ منشغل برائحته أن يتتبع الطبيب النفسي تاريخ ظهور الأعراض لأن من المهم تحديد ما إذا كان الانشغال برائحة الجسد (سواءً كانت الفكرة وسواسية أو وهامية) ثانويا لاضطراب الاكتئاب الجسيم، وهي الحالة التي تظهرُ فيها أعراض الاكتئاب قبل الانشغال برائحة الجسد، أو العكس هو الصحيح، أي أن أعراض الاكتئاب ثانوية لانشغال أولي بصدور رائحة منفرة من الجسد مثلما نجد في كثيرين من المرضى بمتلازمة شم رائحة الجسدORS.

وأما في مرضى اضطراب الوسواس القهري فإن من الممكن جدا أن تتسلط على المريض فكرةُ صدور رائحة كريهة أو منفرة من جسده أو عبر واحدةٍ من فتحاته، وقد يقضي وقتا طويلا في اتباع الأفعال القهرية المعادلة للفكرة أو المقللة من أثرها أو ربما الأفعال القهرية التجنبية التي قد تصل ببعضهم إلى الانعزال الاجتماعي، إلا أننا دائما ما نجدها في النهاية واحدةً من بين أشكال وأصنافٍ من الوساوس داهمته في فترة من فترات حياته وبعضها راح إلى الأبد وبعضها تكرر ضمن المسار المرضي المعروف لاضطراب الوسواس القهري، وفي هذه الحالة نجد أن الفكرة فكرةٌ تسلطية أو مبالغ في تقييمها أو أحيانا تكون فكرةً وهامية عندما يصدقها المريض، لكننا نبقى داخل الحدود التشخيصية للوسواس القهري، بل وتكونُ فكرة الرائحة تلك مصحوبة بوساوس (أفكار تسلطية وأفعال قهرية) أخرى متعلقةٍ بمشكلات غير مشكلة الرائحة، ونحن سنبينُ في مقالٍ قادم أننا نصنف مرضى متلازمة شم رائحة الجسد ORS  ضمن وساوس التشوه في نطاق الوسواس القهري.

وجديرٌ بالذكر في مناقشة التشخيص الفارقي لمتلازمة شم رائحة الجسد ORS  أن اضطرابا يسمى باليابانية تايجين كيوفوشو Taijin Kyofusho ويعتبرُ في صورته العصابية أحد أشكال الرهاب الاجتماعي، وفي صورته الذهانية أحد أشكال الاضطراب الوهامي، المرتبطة بثقافة الشرق الأقصى 'culture-bound'،  وفيه يشعرُ أو يوسوس الشخص بأن حضوره هو شخصيا أو تصرفاته أو صفاته الجسدية (وقد تكونُ الرائحة التي تصدر عن الجسد من بين الصفات)، لسببٍ ما فيه ما يجعله غير لائقٍ أو غير مرغوبٍ فيه أو منفرًا في تعامله مع الناس، وهو ما يجعله في المواقف الاجتماعية يشعرُ بالخجل والخوف والتوتر وربما الارتباك إذا لم يكن الانسحابُ من الموقف ممكنا، وبالطبع يدخل مرضى اضطرابات صورة الجسد هنا عندما تتعلق الفكرة بتشوهٍ متوهم أو مبالغ في تصوره، لكن أعداد من تشغلهم رائحة أجسادهم أو صورتها زادت في الفترة الأخيرة (Nakamura,1996) ولهذا الاضطراب مستوى عصابي ومستوى ذهاني طبقا لمستوى اقتناع الشخص بصحة الفكرة.

ويتميزُ المريض بهذا الاضطراب بأن خجله وخوفه من أن يكونَ حضوره مؤذيا للآخرين أكبر من خوفه من تقييمهم له مثلما هو المعهود في الرهاب الاجتماعي بمفهومه الغربي ولكن النتيجة في الحالتين هي نزوع ذلك الشخص إلى السلوك التجنبي ومعاناته الشديدة عندما يفرض عليه الاحتكاك بالآخرين، ويشترك بعضُ مرضى التايجين كيوفوشو مع مرضى متلازمة شم رائحة الجسد أيضًا في أنهم لا يعانون من أعراض شديدة في وجود الأشخاص المقربين منهم كأفراد الأسرة، أو الأشخاص الغرباء تماما عنهم، وإنما تكون معاناتهم شديدةً جدا في وجود معارف غير مقربين مثلا في المدرسة أو مكان العمل، ولما كنا نعرفُ أن الأطباء النفسيين في معظم بلداننا بعيدون فعليا عن بحث ما يوجدُ في مجتمعاتهم، فلا نستطيع اعتبار مثل هذا الاضطراب موجودا في بلادنا خاصة وأنني سمعت شخصيا من أحد الموسوسين أنه يتجنب صلاة الجماعة بسبب توهمه أن رائحة عرقه منفرة، ليس لرأي الناس فيه وإنما لأنه يفسدُ رائحة المسجد، ويؤذي إخوانه المصلين، بمعنى آخر قد يكونُ هذا الاضطراب المعتبر مرتبطا بثقافة الشرق الأقصى موجودا أيضًا في بلاد المسلمين ولكنه غير مدروس. 


وأما مرضى صرع الفص الصدغي Temporal Lobe Epilepsy، فأحيانا نجدُ الإحساس برائحة كريهة سواءً كان مصدرها الجسد أو غيره كواحدة من العلامات البادرية Prodromal Signs ، التي تسبق حدوث نوبة الصرعِ وأحيانا تكونُ النوبةُ نفسها مصحوبة بمثل تلك الخبرة الشعورية، لكنها في الحالتين تزول مع زوال النوبة، إلا أن بعض حالاتٍ مسجلة تشير إلى تحول تلك العلامة البادرية العابرة المتكررة إلى خبرةٍ حسية دائمة فنجدُ المريض يشتكي من شم رائحة كريهة مصدرها جسده ومقتنعا بأنها موجودة فعلا ولها سبب وأحيانا تختفي النوبات الصرعية وتبقى الرائحة تعذب المريض، وتأخذُ شكل الفكرة الوهامية المبنية على تلك الخبرة الشعورية المصنفة مع هلاوس الشم، وهذا المريض يأخذُ شكل المريض بمتلازمة شم رائحة الجسدORS.

ويبدو أن حدوث تلك الحالات التي تصل الفكرة فيها حدود الفكرة الوهامية يظهرُ أكثر في مرضى صرع الفص الصدغي الأيمن، أو مرضى صرع فص المخ الأيمن (Devinsky, et al.,1998)، ومهم هنا أن نعرف أن عصب الشم Olfactory Nerve (Cranial Nerve: I) يسير مباشرة من مستقبلات الشم في الأنف إلى فص المخ الصدغي اللصيق به تشريحيا وبصورة مباشرة، فالشم أحد وظائف الفص الصدغي خاصة في أجزائه الباطنية.

ومهم أيضًا هنا أن نذكرَ بأن كثيرا من حالات صرع الفص الصدغي لا تظهر علامات لها في رسم المخ الكهربي E.E.G أو خريطة المخ Brain Mapping ، وهي الفحوصات الأكثر انتشارا على الأقل في بلادنا، بمعنى أننا كثيرا ما لا نستطيع معرفة ما إذا كانت بؤرة الصرع الصدغية في الفص الأيمن أو الأيسر، ولما كانت بعض حالات الاضطرابات الوهامية قد تبين رجوعها إلى آفةٍ Lesionفي فص المخ الأيمن، فإن من المهم إجراء فحص بالتصوير الطبقي بالأشعة المقطعية لمرضى متلازمة شم رائحة الجسدORS من النوع الذهاني أي الذين تكونُ فكرتهم وهامية، حتى ولو لم يكن هناك تاريخٌ شخصي لصرع الفص الصدغي.

إذن هكذا يكونُ التفريق على قدر علمنا والله أعلم وأبصر- بين حالات شتى من المرضى المشتكين من صدور رائحة كريهة أو منفرة من الجسد أو عبر واحدةٍ من فتحاته في عيادة الطبيب النفسي، وفي المقال القادم إن شاء الله سنتكلم عن تصنيفنا المقترح لمتلازمة شم رائحة الجسدORS ضمن نطاق الوسواس القهري، ورمضان كريم يا مجانيني الأعزاء.

المراجع:

Nakamura K.(1996) Taijin-kyofusho no gendaiteki byozo—shinkeishitsu no hensen wo megutte [The recent presentation of taijin kyofusho—the change in shinkeishitsu]. Moritaryoho-gakkai-zasshi [J Morita Ther] 1996;7:157–161 [in Japanese].

Devinsky O, Khan S, Alper K.(1998): Olfactory Reference Syndrome in a patient with partial epilepsy. Neuropsychiatry Neuropsychol Behav Neurol 1998;11:103-5

اقرأ أيضا:
متلازمة شم رائحة الجسدORS مقدمة



الكاتب: أ.د.وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 29/10/2005