مذكرات معاقة ::
الكاتب: هدى
نشرت على الموقع بتاريخ: 07/06/2005
في يوم من الأيام كان هناك طفلة عمرها ست سنوات, تملأ الأرض مرحًا و شقاوة, و لا تهدأ. أرادت أن تشتري شيئاً من الدكان القريب جداً من بيتها و لكنها لم تجده, ولما كانت هذه الطفلة عنيدة ولا بد أن تحصل على ما تريد حتى لو كان بعيدًا فقد ذهبت إلى الدكان الأبعد حيث عليها أن تقطع الشارع ولم تخبر أحدًا من أهلها, قطعت الطفلة الشارع بأمان و اشترت ما تريد, وفي طريق العودة, قطعته إلى منتصفه و كان فارغًا إلا من شاحنة تقف في طرفه الآخر, وعندما اقتربت منها بدأت الشاحنة بالعودة إلى الوراء فصدمت الطفلة و وقعت أرضًا, وداس دولاب الشاحنة على القدم الهشة فهرسها وجعلها أشلاءً ممزقة.
وهكذا في لحظة, المشهد تغير: الطفلة التي لا تهدأ أصبحت أسيرة المستشفى, ممددة على السرير وفاقدة لعضو من أعضائها. الكل مذهول, الأم من هول الصدمة لم تستطع حتى البكاء والأب القوي الذي لم يبكي يومًا يبكي الآن كالأطفال, هذه الطفلة هي أنا, و ما زلت أذكر بكاء والدي و توسله إلى الطبيب أن يفعل شيئًا آخر غير البتر مهما كان الثمن حتى لو اضطر إلى بيع منزله ومحله وكل ما يملك ولكن الطبيب يؤكد له أن لا حل آخر.
هذه هي البداية, قضيت أيامًا طويلة في المستشفى, عدت بعد ذلك إلى المنزل. لا زلت أذكر مشاعري في تلك اللحظة عندما رأيت الحديقة العامة التي تقع مقابل عمارتنا و كنت أقضي معظم أوقاتي ألعب فيها, حدثتني نفسي كيف سألعب بعد الآن؟ مضت الأيام والتأمت الجراح وجلب أبي لي عكازين حتى أستطيع المشي ولا زلت أذكر كيف أني أمضيت النهار بطوله وعرضه وأنا أتدرب على استخدامهما حتى أتقنت ذلك. وعدت إلى حياتي من جديد أخرج إلى اللعب ولا أجد حرجًا أني مختلفة وكان لي صديقاتي وكنا نتسابق وقد عودت نفسي على الجري بسرعة باستخدام العكازين.
لكن ليت كل الأيام كما هي الطفولة, ليت الإنسان يستطيع أن يعيش كل حياته يشعر كما الأطفال يسعد بأقل الأشياء ويصنع الفرح من أتفه الأمور وينظر إلى لحظته الآنية لا يفكر في مستقبل ولا ماضي, تهون عليه المصائب مهما بلغت و لا تصعقه الآلام.
لكن لا بد أن نكبر ونتغير وننظر حولنا لنرى النظرات المسائلة تلاحقنا والناس منهم العطوف ومنهم السافل وكلهم في نظري واحد فمن يقول لك: الله يعنيك هو تمامًا كمن يستهزأ بك. لكني حاولت أن أكون أبعد نظرًا وأن أجعل لنفسي منطقًا أستوعب به كل أنواع البشر فلا أتأثر بكلمة أو بنظرة.
فمن يدعو لي مهما كان قصده قد يكون في سجل حسناته ما يجعل دعائه مستجاب ولذلك كنت أردد دومًا ورائه آمين، ومن يستهزأ فهو أهون بكثير من أن ألقي له بالاً فهو ليس سوى حقير سافل تربى في بيئة جعلته كذلك ولذلك تنقلب مشاعري نحوه من الحقد إلى الشفقة فالسافل في أمر لا بد أنه سافل في كل شيء و هو في النهاية ضحية لتربية هشة لم تعلمه احترام الإنسان لأنه إنسان.
عندما كبرت قليلاً كرهت العكازتين أصبحت أتجنب الخروج إلا إلى المدرسة, كنت وقتها قد عرفت ما معنى أن أكون فتاة معاقة، كرهت أنوثتي، وأصبحت أحاول مجاهدة أن أنساها، عودت نفسي على القراءة وأصبحت هوايتي المفضلة، واجتهدت أن يكون لي عقيدة ثابتة ولا تهتز فقرأت كتب العقيدة وكثيرًا عن العدالة الإلهية، كنت أطرح الأسئلة على نفسي ثم أبحث عن الإجابات هنا وهناك وحفظت القرآن وأحاطني الله بأهل رائعين وصحبة صالحة كانت خير ملاذ.
كنت في البداية لا أستطيع استعمال طرف صناعي بسبب مشاكل سببها لي الأطباء ولا عجب لأن: بلاد العرب أوطاني. و اضطررت إلى بتر جزء آخر من ساقي حتى يتسنى لي استعمال طرف وهكذا كان وأصبحت حياتي أفضل فلم أعد مختلفة كثيرًا وأنا أمشي في الشارع.
وأتممت دراستي في المجال الذي طالما أحببته وعشقته لأنني كنت أستمد منه الحكمة والمنطق ألا وهو الرياضيات معشوقي الأول والأخير. ربما كان الرياضيات بالنسبة لي بديلاً عن الرجل الذي لم أفكر يومًا في حبه لماذا؟؟ لأني لا أستطيع أن أتخيل أن أحب أحدهم من طرف واحد لأنه لا يمكن لرجل أن يحب معاقة لأن الشكل أهم شيء بالنسبة للفتاة وفقد أحد أعضائي يفقدني حتمًا شيء من الجاذبية بالنسبة للرجل. هكذا حاولت أن أقنع نفسي إلى أن اقتنعت.
لكن يشاء الله أن أتعرف على أحدهم ويطلب الزواج ولكن نفسي التي اقتنعت طويلاً بعدم الحب لم تستطع أن تغير قناعتها. ولذلك قررت خطة محكمة هي أن أتزوج وأنجب طفلاً بعد ذلك أطلب الطلاق وكان لي ما خططت له، حاولت كثيرًا أن أحب زوجي واقتنع بحبه وبأنه سعيد معي ولكن نفسي كانت تحدثني دومًا بعكس ذلك وبأنه مظلوم معي فمن حقه أن يتزوج امرأة كاملة و للأسف لم يساعدني مجتمعي على الاقتناع بأني امرأة كاملة. وهكذا أنجبت طفلي و طلبت الطلاق بعد ذلك. لم أندم على ما فعلت لأني الأمومة كانت دومًا بالنسبة لي حلمًا رائعًا وجميلاً.
الآن أنا أم وطفلي هو أهم ما أملك والحياة تمر والناس كما كانوا دائمًا منهم العطوف ومنهم السافل. ومنطقي ما زال محكمًا وكما هو ويا سبحان الله: كم من مرة اشتدت علي المحن حتى ظننت أنها لن تفرج فيأتيني الفرج من حيث لا أدري ولا أعلم وكأنه دعاء أحدهم استجابه الله بفضل حسنة من حسناته
شعور واحد لم يفارقني في حياتي: هو أن الله معي كنت أحس برحمته في كل خطوة أخطوها, في كل إنسان صادق وقف معي وساعدني, في طفلي الرائع عندما يجلب لي كأس ماء لأني تعبة و يقول خليك مرتاحة يا ماما وعندما تقسو الحياة أحيانًا كنت ألوذ بهذا الدعاء الذي حفظته للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله: "يا حبيبي: و حقك لولا يقيني بحبك لعتبت عليك, ولولا علمي برحمتك لشكوتك إليك,
ولولا ثقتي بعدلك لاستعديتك عليك, و لولا رؤيتي نعمك لاستبطأت كريم إحسانك. ولكني ألجمت الشك باليقين والسخط بالرضا والتبرم بالصبر. فلك يا حبيبي رضا نفسي وإن شكا لساني, وهدوء نفسي وإن بكت عيوني, وإشراق روحي وإن تجهم وجهي, وأمل يقيني وإن يئس جسمي, فلا تؤاخذيني بصنيع ما يفنى مني ولك مما أعود به إليك ما تحب" كل شيء بقي كما هو إلا شيئًا واحدًا هو أني اقتنعت أني امرأة كاملة ويا ليتني لم أفعل.
الكاتب: هدى
نشرت على الموقع بتاريخ: 07/06/2005
|
|