إغلاق
 

Bookmark and Share

قراءة في أحداث كنيسة الإسكندرية ::

الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 01/12/2005


الجو النفسي للفتنة
تعودنا في مهنة الطب النفسي أن نحدد عوامل الخطورة لدى الأشخاص المعرضين للقيام بسلوكيات عنيفة تجاه أنفسهم أو تجاه غيرهم, وذلك بهدف دراسة تلك العوامل والتعامل معها وتقليلها لكي نصل إلى حالة نسبية من الأمان للشخص وللمجتمع. وهذا المنهج يمكن تطبيقه في قراءة وتحديد عوامل الخطورة في الوسط الاجتماعي مع الوضع في الاعتبار سيكولوجيات الجماعة وسيكولوجية القيادة, وهذا ما سنحاوله تجاه أحداث العنف في الإسكندرية خاصة بعد أن هدأت العاصفة (مؤقتا وإلى إشعار آخر) وانقشع الغبار بعض الشيء.

وكما تعودنا فإن مهنة الطب هي أحد المهن الإنسانية المحايدة التي يفترض فيها الموضوعية والتعادلية والنزاهة والبعد عن التحيز والتعصب وميلها للرعاية والعناية والحفاظ على الحياة بصرف النظر عن أي اعتبارات سياسية أو دينية أو اجتماعية, فالطبيب حتى وهو في أرض المعركة مكلف بإنقاذ الجرحى وعلاج المرضى دون النظر إلى أي المعسكرين ينتموا, وهذا هو سر احترام الناس لها عبر القرون.

وإذا كانت هذه الاعتبارات في صلب قوانين وآداب مهنة الطب فهي أيضا قناعات شخصية لكاتب هذه السطور تجاه البشر عموما (كمخلوقات كرمها الله), وتجاه أبناء الوطن على وجه الخصوص بما لهم من حقوق المواطنة والجوار والشراكة والبر والعدل, وهذا ليس موقفا شخصيا أو إنسانيا أو رومانسيا مجردا, وإنما هو نابع من قناعة دينية أصيلة قررها خالق كل البشر بقوله: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين", نسأل الله أن يجعلنا من المقسطين الذين يحبهم لأنهم يبرون خلقه ويقسطون إليهم.

نستطيع بعد هذه المقدمة الضرورية (لدفع أي مظنة للتحيز, فالشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم كما ورد في الحديث الشريف) أن نرصد بعض عوامل الخطر والتي ما زالت كامنة على الرغم من الحسم الأمني وعلى الرغم من الأحضان واللقاءات التليفزيونية وحفلات الإفطار الرمضانية ولقاءات أعياد الميلاد وأعياد القيامة, وعلى الرغم من التاريخ الطويل لسلامة النسيج الوطني المصري على مر العصور كتجربة فريدة ومميزة فى التعايش بين الطوائف والأديان تحت مظلة واحدة:

1- تنامي نزعات الفكر الديني الاستقطابي الذي يرفض الآخر أو يلغيه أو يكفره أو يفسقه أو يسفهه أو يعاديه سرا أو علنا. وهذا الفكر قد يكون موجودا منذ زمن طويل لدى فئة قليلة من الطوائف والأديان المختلفة التي عاشت على أرض مصر ولكنها لم تكن تشكل توجه الأغلبية أو لم تكن على الأقل تشكل نسبة كبيرة خاصة بين الشباب, أما الآن فهناك عوامل تغذيها على الجانبين نذكر منها :

عوامل داخلية: وجود قيادات دينية داخلية على الجانبين تتبنى الفكر الاستقطابي وتغذيه لدى الشباب, وتستغل كل الأحداث والظروف لتأكيده, ومع الوقت أصبحت هذه القيادات الدينية تمثل بؤرا للاستقطاب الديني يلتف حولها الشباب ويلجئون إليها في وقت الشدائد والمحن فتمنحهم الرعاية والحماية, فيتأكد لديهم مفهوم الانتماء الطائفي المستقطب, ويشعرون بالأمان في كنفه. ويزيد من المشكلة ضعف القيادات السياسية والوطنية وتراجعها أمام ضغط القيادات الدينية الاستقطابية أو المستقطبة, وإعطائها امتيازات تغرى بمزيد من التمادي في الاستقطاب حتى ولو على حساب الحقوق الدستورية والقانونية للمواطنين المصريين (كانتماء أحدهم لعقيدة معينة).

عوامل خارجية: كثرة الأصابع التي تلعب على الوتر الطائفي وتزكيه, بعض هذه الأصابع تنتمي لمن هاجروا من مصر أو هجروها وهم يحملون في أنفسهم مشاعر سلبية تجاه الوطن نظرا لما عانوه فيه من مصاعب ومشكلات فاقت قدرتهم على الاحتمال ودفعتهم للهجرة (أو الهجر) بعيدا عن حضن وطنهم, لذلك فهم لديهم مشاعر ثأر من الظروف التي عاشوها ولديهم رغبة في الانتقام ممن سببوها لهم خاصة إذا شعروا أنهم تعرضوا لما تعرضوا له بسبب انتماءاتهم الدينية أو الطائفية. وأصعب وضع يمر به وطن أن تصل فيه الأمور إلى حالة تدفع أبناءه إلى حربه من الخارج واستعداء القوى الخارجية والداخلية ضده, وفى هذا دلالة على انعدام (أو على الأقل ضعف) قيم العدالة والمساواة والحرية وحقوق المواطنة في هذا الوطن.

وتنتمي بعض الأصابع الأخرى إلى جهات وهيئات أجنبية (أمريكية في الأغلب على الأقل في الفترة الأخيرة) تحاول تغيير خريطة المنطقة بما يخدم مصالحها في ظل ظروف غير مواتية تعيشها الدول العربية, وهذه الأصابع تستغل كل الأوراق بما فيها الورقة الطائفية ومفهوم الأقليات والحريات الدينية, وتستغل أطماع الجالسين على كراسي الحكم في الأنظمة العربية (أطماعهم في البقاء وأطماعهم في الحكم الاستبدادي المطلق) لكي تساومهم وتبتزهم وتقايض مصالحهم الشخصية بمصالح الأوطان.

وهذه الأصابع الخارجية تكاد تكون أحد أهم عوامل الاستقطاب الديني في الوقت الحالي فهي تعطى وعودا مباشرة أو غير مباشرة لطرف من الأطراف بالحماية والرعاية وربما تدفعه للاستقواء على الطرف الآخر, وهذا الموقف يستفز الطرف الآخر ويدفعه للبحث عن مصادر قوته ودعمه للوقوف أمام قوى الاستقطاب الداخلية المستقوية أو المحتمية بالقوى الخارجية, وهذا الوضع قد شعر به المثقف المتابع كما شعر به رجل الشارع وأصبح يشكل خطرا لا يستهان به, بل ويشكل تشكيكا (بحق أو بغير حق) في وطنية وانتماء المحتمين أو المستقوين بالخارج أو حتى الذين يحاولون استثمار الوضع العالمي الجديد لتحقيق مصالح فئوية أو طائفية بالضغط الخشن أو الناعم.

وهذا الدعم الاستقطابي القادم من الغرب يقابله على الطرف الآخر دعما استقطابيا آخر قادم من الشرق في صورة توجهات دينية سلفية معاصرة تضع الآخر في موضع أدنى عقائديا وتتشكك في انتمائه الوطني والإيماني وتضعه في معسكر قابل لأن يكون معاديا في أي لحظة.

2- ضعف الانتماء الوطني العام: فنتيجة للظروف السياسية التي اتسمت بالجمود والميل للاستبداد وفقدان الأمل في التغيير, والظروف الاقتصادية التي اتسمت بصعوبات الحياة أمام غالبية الشعب وانعدام فرص العمل وانعدام الأمل أمام الشباب, والظروف الاجتماعية التي اتسمت بتفشي سمات الفهلوة والقيم السلبية الأخرى مثل الرشوة والفساد والوساطة والإهمال والتسيب, كل هذا أفرز حالة هي مزيج من الغضب المكتوم والسلبية واللامبالاة والتراخي والكسل والمشاعر السلبية تجاه كل شئ وفقدان الحلم وانعدام الأمل في المستقبل, وحالة من العدوان السلبي تجاه الوطن وتجاه الناس وتجاه الشخص ذاته, ولم تعد هناك على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي شخصيات وطنية تغرى بالحب أو الإقتداء.

3- ظهور القيادات التحتية المتعددة: ففي حالة ضعف الانتماء الوطني العام وغياب الهدف القومي الذي يسعى من أجله الجميع (كما قالت المرأة الصعيدية في ديوان ئ"أحمد سماعين" لعبد الرحمن الأبنودي: "الشغل يا ولدى يخاوي بين المسلم والنصراني"), وغياب القيادة السياسية التي يشعر الجميع بحيادها ونزاهتها وعدلها وحبها, وغياب النظام الديمقراطي الذي تجد كل الفئات والطوائف نفسها ممثلة وفاعلة فيه, في ظل كل هذا تتكون قيادات تحتية تعمل بديلا للقيادة العامة الغائبة أو الضعيفة أو المتحيزة أو المتهمة (بحق أو بغير حق), وتبدأ حالة تكوين المجموعات والجماعات التحتية, تحت قيادات متعددة لا رابط بينها ولا تنسيق, وهنا تبدأ الانشقاقات والتصدعات خاصة إذا تم تدعيم أو تحفيز أو تشجيع تلك القيادات من هنا أو هناك.

وهذا ما حدث ويحدث في مصر في السنوات الأخيرة حيث ضعف الانتماء الوطني العام واتجه جانب كبير من شباب المسلمين نحو جماعاتهم الدينية وأمرائهم ومرشديهم, واتجه شباب الأقباط إلى الكنيسة وإلى البابا, وأصبحت هذه الانتماءات البديلة هي الأقوى والأكثر تأثيرا بدليل احتشاد الشباب القبطي في الكنائس مع أي مشكلة تواجههم ودفاع البابا عنهم لدى الدولة وكأنهما طرفين متصارعين, وأيضا تجمع عدد غير قليل من الشباب المسلم حول قيادات دينية لها مصداقية وتأثيرا عليهم أكثر من الدولة وقياداتها بل إن هناك صراعا بين الدولة وبين تلك القيادات والجماعات ومن خلفهم من الشباب. هذا الوضع خلق حالة من التقسيم غاب عنها الدور الناضج والمحايد والعادل والراعي للدولة, وهو آخذ في الازدياد مع الوقت في ظل الإصرار على لحالة السياسية الراهنة بمشكلاتها وعيوبها وجمودها وتشبثها بالسلطة وتحايلها من أجل البقاء بأي ثمن حتى ولو كان سلامة الوطن.

4- التربية في الأماكن المغلقة: لما ضعف الدور التربوي للمدارس أو اختفى تقريبا في بعض المراحل الهامة (وبالأخص المرحلة الثانوية), لذلك انتقلت عملية التربية إلى الغرف المغلقة والمساجد النائية والكنائس المغلقة, وأصبح غير معروف ما يقال في هذه الأماكن للشباب, ولكن من الواضح أن هنا عمليات تسخين وتحفيز تجرى على الجانبين نرى آثارها حين تظهر أي مشكلة في صورة شباب غاضب وناقم ومتحفز ومستقطب.

5- التغطية على المشكلات وتجنب مواجهتها: فما من شك أن هناك مشكلات يعانيها الشعب ككل سببها غياب الحريات الحقيقية وضعف الأمل في تداول السلطة, وحالة الصمم السياسي أمام المطالب الشعبية, وحالة العناد السلطوي, وحالة البطالة والفقر, وتفشى الفساد بشكل مرعب, كما أن هناك مشكلات تخص عنصري الأمة كل على حدة, وهذه المشكلات تحتاج للمناقشة الجادة ومحاولات الحل الصادقة وتحتاج للثقة بين جميع الأطراف وتحتاج للتفكير من خلال المصلحة الوطنية وليس من خلال البحث عن مكاسب فئوية أو طائفية أو من خلال استغلال ظروف محلية أو دولية. ومن الخطر أن نكتفي بالحلول التليفزيونية وبالأحضان والقبلات بين القيادات الدينية في المناسبات المختلفة, فهذا يشكل غطاءا خادعا يخفى النار تحت الرماد لنفاجأ لا قدر الله باشتعالها فجأة كما حدث في الإسكندرية.

6- تكرار أحداث الغضب وتصاعدها: فمن حادث وفاء قسطنطين إلى حادث مارى عبد الله إلى حادث كنيسة الفيوم وقبلها حوادث الكشح وآخرها وأخطرها حادث الإسكندرية, والذي يزيد من خطورته وجود نص مسرحي ومسرحية ترى الآخر بصورة مشوهة وعدائية تمثل في كنيسة كبيرة وبموافقة كنسية رسمية ثم رد فعل عنيف ومفاجئ وضخم (حوالي عشرة آلاف متظاهر غاضب ومتألم). فهذا التكرار وهذا التصاعد دون ظهور حلول حقيقية على السطح يجعل معدلات الخطورة أكثر من الناحية العلمية (مثل محاولات الانتحار أو القتل المتكررة والمتصاعدة على المستوى الفردي والتي توحي بقدر عال من الخطورة لا يجب تجاهله).

والآن وبعد استعراض عوامل الخطورة الكامنة وراء هذه الأحداث نذكر من موقع الأمانة الوطنية والحياد النزيه بعض المقترحات المتواضعة علها تصل إلى من يهمهم الأمر (فعلا) فيفعلون شيئا قبل فوات الأوان:

1- تكوين لجنة من الحكماء المعروفين بوطنيتهم واستقلالهم وتجردهم, تكون وظيفتها دراسة ومناقشة الأوضاع المتأزمة بين الفئات والطوائف المختلفة ووضع الحلول الحقيقية والمقترحات لها ومتابعة تنفيذها حتى لا تنفض كما انفضت لجنة العطيفى السابقة التي كلفت بمثل هذه المهمة كإجراء شكلي ولم يأخذه أحد مأخذ الجد.

2- المسارعة في الإصلاح السياسي على كل المستويات دون تأجيل أو مراوغة أو التفاف بحيث تتحقق تعددية سياسية حقيقية تستوعب كل التيارات والطوائف بشكل يسمح للجميع بالتعبير عن مشكلاته وطموحاته ومصاعبه وأماله ويشارك بشكل حقيقي في بناء هذا الوطن, ولا يشعر أحد أيا كان أنه مهمش أو مستبعد.

3- استعادة الدور التربوي في المدارس وفى المؤسسات الثقافية والاجتماعية وفى الأحزاب السياسية (بعد إطلاقها من القيود).

4- تجنب الاستقواء بالخارج سواء كان شرقيا أو غربيا, وتجنب استغلال الظروف الدولية الراهنة لتحقيق مصالح أو مكاسب فئوية أو طائفية على حساب قطاعات أخرى من الشعب لأن ذلك سيولد ضغينة لدى تلك الفئات يصعب اقتلاعها بعد ذلك.

5- التعامل الواضح والنظيف والنبيل بين السلطة والقيادات الدينية والشعبية بعيدا عن كل وسائل لي الذراع أو شد الأذن أو ما نسميه بالعدوان السلبي المستتر, ذلك العدوان المتبادل الذي تغطيه وتخفيه بعض الابتسامات والتصريحات الدبلوماسية.

6- وأخيرا نتذكر أننا جميعا أبناء وطن واحد, وإذا لم نعمل جميعا لصالحه ومن أجل سلامته فسندفع جميعا ثمنا باهظا.

وأخيرا نسأل الله السلامة والسلام والمحبة للجميع

للتواصل:
 
maganin@maganin.com

**اقرأ أيضا:
على باب الله: (أحداث كنيسة الإسكندرية )
يوميات رحاب: أحداث الإسكندرية..
مسرحية الإسكندرية.. فوضوية الاستهزاء
مسرحية الإسكندرية..قراءة ثانية-1 

 



الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 01/12/2005