إغلاق
 

Bookmark and Share

المسخرخانة.. الحلقة الأولى ::

الكاتب: د.عاطف عزت
نشرت على الموقع بتاريخ: 05/01/2006


من أخطائي التي لا أغفرها لنفسي حتى الآن.. أنني طوال فترة التلمذة لم أكن أتحرك كثيرًا خارج حدود كلية الطب..وعدد المرات التي ذهبت فيها مع الزملاء للتمشية في الجامعة.. أي في الكليات المجاورة لنا: الهندسة، التجارة، الحقوق، الزراعة،لا يتجاوز أصابع اليدين.. طوال سنوات دراستي بالكلية.. وحتى بعد التخرج وطوال سنة الامتياز وسنوات النيابة.. لم أكن من هواة التمشية في الجامعة..

وفي الحقيقة.. كان تفسير ذلك أنني لم يكن ينقصني شيء في كلية الطب.. ليس تعصبًا لها ولكن بالفعل كنت أجد بها العلم والنشاط الجامعي غير المسبوق والعلاقات الحميمة مع الأصدقاء والحب بمعناه النقي جدا الذي لم يرد على مولات ولا مينيمم تشارج كافيهات..

وكان بعض الزملاء يهوى التواجد الدائم في الكليات الأخرى من باب التنطيط على البنات فهو بوصوله يبقى الداكتور وصل.. ولم أكن أحب هذا الأسلوب..
ومن عواقب هذا السلوك.. أنني وللآن.. إذا ذهبت إلى الجامعة لقضاء مصلحة مثلاً.. تراني مثل الصعيدي لأول مرة في محطة مصر..

ممكن لو سمحت.. باب كلية الحقوق منين..؟؟
من فضلك شئون الطلبة أروح لها ازاي..؟؟
لو تسمح.. هي دي غرفة تسجيل الدراسات العليا آداب انجليزي؟

وهكذا تراني.. من أيد.. لأيد.. لحد ما أقضي المصلحة.. وبعد قضائها أجري على عملي أو على المكتبة في كلية الطب.. أستشعر فيها أجمل أيام حياتي والتي كنت أتعجل انتهائها بالتخرج..
ومن أيام قليلة تلقيت دعوة من اللجنة الثقافية بالجامعة للاشتراك في ندوة ثقافية علمية مع طلبة الجامعة وتقام في كلية التجارة ويشترك معي فيها الدكتور رئيس قسم علم النفس والاجتماع بكلية الآداب وأحد أشهر أدباء وشعراء المنصورة..

وسألت الندوة موضوعها إيه بالضبط عشان أحضر له..؟؟؟

لا يادكتور دي ندوة عامة لمناقشة مشاكل الشباب وسماع آراءهم في مختلف القضايا وطبعًا هما كمان هيسمعوا رأى حضراتكم باعتباركم الجيل السابق.. وأهل التخصص والخبرة..
آآآآآآآه.. أكثر شيء يخيفني هو الذهاب لندوة أو مؤتمر مجهول الهوية.. يعتمد على مناقشة قد تدخل في مواضيع تتعدى الخطوط الحمراء ربنا يستر..

وتعمدت أن أذهب الى الجامعة قبل الموعد بساعة.. يادوب على ما أوصل لمكان المدرج الذي لم أره في حياتي..
ياألله.. ماهذه الحشود الهائله من الطلبة.. وكأنها جحافل التتار.. تنتشر في أروقة وحدائق ومزانق وحواري الجامعة..
ووجدت أمامي مبنى لمدرج ضخم وأمامه زحمة غير مسبوقة من الطلبة
بس هو ده..وسألت كالعادة:
-من فضلك يا أخ.. هوه فيه إيه جوه..؟؟
-أبدًا.. محاضرة عادية..؟؟؟
-طب وانت مش حاضر المحاضرة ليه مش عارف تخش م الزحمة..؟

ونظر إليَّ الشاب من فوق لتحت وقال لي:
-شوف يادكتور.. (طبعًا استشعر أنني دكتور من البدلة والكرافته.. فهذا الزي لا يرتديه في الجامعة إلا الدكاترة وسواق سيارة رئيس الجامعة)
.. شوف يادكتور الدفعة بتاعتي والمفروض إنها تحضر المحاضره3500 طالب والمدرج بياخد1000 فالنظام هنا كالآتي سيادتك..
1-جلوس على البنش 30 جنيه ف الأسبوع
2-جلوس ف البلكون 20 جنيه ف الأسبوع
3-قعود على أرض المدرج 3 جنيه ف الأسبوع
4-وقوف ف المدرج 2 جنيه
5-كرسي أمام الدكتور مباشرة 50 جنيه
6-كرسي جنب الدكتور 100 جنيه
7-قعود على حجر الدكتور.. {للآنسات فقط}.. امتحان الترم يطلع
سعادتك هو ده النظام.. حضرتك عاوز أنهي كلية بالضبط؟

-أنا عايز كلية التجارة مدرج السلام
-حضرتك تمشي على طول تعدي الزراعة والحقوق وبعدها على طول مدرج السلام. هوه حضرتك اللي ف الندوة؟؟
-أيوة يابني.. كتر خيرك..

إيييييه ده.. إيه اللي حصل وازاي الطالب ده بيتكلم كده.. وازاي دفعة3500 طالب ياخدو كلهم في وقت واحد.. العيال دي معذورة دا مش نظام تعليم أبدًا..
وبدأت طريقي تجاه المدرج المنشود.. مطمئنًا أنني عرفت مكانه على الأقل.. وباقي نصف ساعة على الندوة..

وفي طريقي راعني مشهد غريب.. مجموعة من الشباب قد علت أصواتهم بالضحك والألفاظ الصاخبة وهم يتبادلون دق الكفوف على كل نكتة يقولها واحد منهم.. وسمعت مع دق الكفوف حاجة كدة زي: قشطة يامان،، قشطة يامس..

مس..؟؟ هوه فيه معاهم بنات ولا إيه..؟؟

واقتربت منهم في طريقي فوجدتهم فعلاً مجموعة من البنات والشباب كلهم تقريبًا لابسين الزي الموحد.. كلهم لابسين زي الجامعة الموحد.. البنطلون الجينز المنتش.. يعني اللي ماليان تناتيش صناعية زي مايكون صاحبه كان نايم على لوح مسامير.. زي الهنود.. ولازم يكون الجينز قذر.. آآآسف قذر دي ماركة مش صفة {DIRTEY}..

أما التيشرتات فقصيرة.. بحيث لو انحنى صاحبها للأمام يظهر عموده الفقري ولو مال للخلف تظهر بطنه.. ماهي دي موضة المعدة.. الأستوماك.. يارب.. أنا ف انتظار ظهور موضة الغليظ.. ولابد الواحد ساعتها يكون مستقيييم..!!!

الكل يرتدي الكوتشي لأن الأحذية الجلدية تسبب ضوضاء أثناء المشي وهذا يتنافى مع قانون حماية البيئة من الضوضاء.. الكل طبعًا يكنس طرقات الجامعة بديل البنطلون.. تنفيذًا لتعليمات وزير النظافة.. والله واجب عليه يبعت للجيل كله خطابات شكر.. ولا عزاء للآباء.. إذا داب البنطلون خلال شهرين مع أن تمنه فوق ال400 جنية..

وفي ركن بعيد بجوار حديقة كلية الزراعة.. كان هناك طالب وطالبة عندما رأيتهم تخيلت أنهم في نقاش حامي حول أحد السياسات في البلد أو في مناقشة حول موقف سوريا من النيله اللي هي فيها.. وعندما اقتربت منهم.. سمعت الطالبة تقول بصوت سمعته الجامعة كلها:

-إنت هاتسيح لي.. كلمتين قلتهم لك ف السر كل الشله لازم تعرفهم؟؟ إنت ماحدش لك حل غير إني أنفضلك من النهاردة..
فرد عليها الطالب بمنتهى العنف وقال وهو يتركها ويذهب:
-تنفضيلي إيه إنتي فاكرة نفسك مادونا ولا جمالك محصلش.. دانتي زباااااالة.....

وأسرعت في مشيتي بعيدًا عن أرض المعركة.. وقبل أن تسقط البنت من هول اللفظ الجارح..
ولكن وللعجب البنت لم تسقط.. واكتفت بقلب شفتيها اشمئزازا..

هاتسيح لي يعنى إيه..؟؟ تكونش البنت بتبيع سمنة بلدي معاه بعد الظهر.. ولا آيس كريم؟؟ هايسيح إيه غير كده.. ثم إيه اللفظ الغريب اللي قاله ده.. زباااله؟؟..

ومرق في ذهني.. ربع قرن من الزمان في لحظة.. تذكرت فيها الأوقات الخالية بين المحاضرات التي كنت أجلس فيها مع.. سميرة.. في كافيتريا الكلية المشمسة دائمًا حتى في فصل الشتاء نتناقش في كل شيء...يجمعنا حوار هادئ دافئ بالرغم من برودة الجو في شتاء المنصورة..

كانت تجمعنا كلمات رقيقة.. مهذبة.. كانت تفصلنا ترابيزة الكافيتريا دائمًا.. وعليها أكواب الشاي الذي يعده لنا كل يوم عم فوزي فراش الكافيتريا.. شاي لأحسن دكاترة كما كان دايمًا يقول لنا..

كانت أذني هي أقصى مدى لصوتها وكانت أذنها هي أقصى مدى لصوتي.. كان يجمعنا الحوار الباسم حول الدراسة والمستقبل والنشاط الجامعي، والمذاكرة وهم الامتحانات.. ورخامة منهج الكيمياء الحيوية.. كان حوارنا لا تمتد فيه الأيدي ولو حتى.. للإشارة.. إنما هي نظرة العين التي تترجمها الكلمة الدافئة.. البسيطة التلقائية..
لم نعرف أبدًا لغة التسبيل ولا الأسطوانات المشروخة أو الأفلام المحروقة.. كل شيء كان واضحًا وجادًا ويقطر احترامًا ومحافظة على المشاعر..

مازالت حلاوة هذه الذكريات التي تزداد احترامًا في قلبي كلما تقدم بي السن فهي ذكرياتي الجميلة.. البكر.. النقية..
وحتى الآن وبعد أن رحلت سميرة إلى العالم الآخر.. منذ أعوام طويلة.. أثناء ولادتها لابنتها الوحيدة... منى..

آآآآآآآآي... شعرت بألم شديد في رأسي....

لا مؤاخذة.. أصلي خبطت ف شجرة ف الطريق يظهر عيني غبشت.. باين من النضارة............. لأ..........

من الدموع.........

*اقرأ أيضا:
نصائح وهمية (1) ..!!
نصائح وهمية (2) ..!!
نصائح وهمية (3) ..!!
نصائح وهمية (4) ..!!
دعاء واحد مصري مطحون
هي الناس اتهبلت من شويه؟  
خلى بالك من عيال اليومين دول..
عيال صايعة.. بس عندها منطق..!!
ليست شرم الشيخ وحدها.. ياريس..

 



الكاتب: د.عاطف عزت
نشرت على الموقع بتاريخ: 05/01/2006