موسوسة كغيرها: العلاج كما يجب مشاركة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأستاذ الدكتور وائل أبو هندي المحترم، تحية طيبة وبعد
إحدى السيدات أرسلت لموقعكم تشكو حيرتها في ماهيّة الأمومة: أتراها غريزة بحتة، أم مهارة مكتسبة صرفة؟.... أردت حينها أن أرسل الأفكار التي خلص إليها ذهني من عبثه بتلك المسألة، إلا أن واجباتي تكاثرت عليّ ولم يكن لي بد من أدائها.
اليوم تأتي حيرة السيد أحمد شوقي في أي السبل أنسب لطرق أحد أكثر الموضوعات إلحاحاً في وقتنا الحاضر أشدها حساسية في الذهنية العربية، أقول جاءت لتفسح لتلك الأفكار في وقتي المزدحم مساحة من الزمن، ناولتني قلماً وورقة وأقنعتني بضرورة الجلوس لتدوينها.
بيد أنه بداية لا يسعني إلا أن أتساءل: لم يدرك- إن أدرك- الفرد في مجتمعنا متأخراً حين يقصد مؤسسة الزواج أن إنجاب أفراد جدد يتجاوز مسألة التكثير الكمي الأفقي والعامودي- إن صحّ التعبير- إلى مسؤولية الإنتاج النوعي؟؟؟
يقف الإنسان العربي مرتبكاً حيال المشكلات التي لابد لها وأن تصادفه، بل ويزيد هذا الارتباك من تكرارها وتراكمها وتعقيدها. وكما أن تربيته صغيراً هي منشأ ارتباكه وحيرته، فإن الحيرة والارتباك يسهمان في انتهاج أساليب خاطئة بل مدمرة في التربية حين تقع مسؤوليتها على عاتقه... حيرة تولّد حيرة، وارتباك يلد آخر.
تبدأ الإشكالية التربوية في ضعف مفهوم "التربية" في أذهاننا، فهو محصور في زاوية شديدة الحدّة من جهة، وتكتنفه ضبابية تسمح للكثير من المفاهيم والممارسات المغلوطة بالاندماج معه من جهة أخرى.
فلا يعدو التعامل مع أبنائنا عن كونه معايشة متوترة- تماماً كما هي معظم علاقاتنا الاجتماعية- بين أفراد ينتمون لزمنين مختلفين-في هذه الحالة- يفشلون جميعاً في فهم الأسباب التي جمعتهم ابتداء، فيحالف الإخفاق الجميع في أداء المهمات المنوطة بهم و تحقيق المنافع المؤمّلة من ورائها.
لا يمكن النظر إلى التربية الجنسية خارج إطار التربية الأعم والأشمل والمرتكزة- ولم يكن اختيار هذه الكلمة عشوائياً- على اكتساب المعرفة أولاً، و بناء وسيلة لإيصال المفاهيم والمعلومات والقيم المتراكمة -في ضوء معرفة مبصرة- لأبنائنا ثانياً.
وإذا كانت الركيزة الأولى لا يمكن تحصيلها إلا على أرضية متينة من الثقافة الحقيقية والتي تبني عقلية متفتحة قادرة على التعامل مع مختلف التحديات التي تواجهها -وتربية الناشئة أهمها- برؤية وبتحليل صحيح وموضوعي.
والثقافة لا تحاز لحظياً بل تبنى تدريجياً بمرافقة الكتاب والمطالعة الجادّة في كل الموضوعات وشتّى الحقول.
وأقول، إذا كان الحال كذلك مع اكتساب المعرفة فإن الركيزة الثانية ليست ببعيدة عن سابقتها، فالثقافة تتدخل بصورة غير مباشرة لكن مؤثرة في وسائلنا التي ننقل من خلالها ما يتوجب علينا نقله لأولادنا.
هنا وفي هذه الجزئيّة بالذات نلحظ قصوراً حاداً في أدائنا كمربين مسئولين أمام الله والمجتمع. فالوسائل كما أراها محصورة في اثنتين لا ثالث لهما: الحوار والقدوة الحسنة، ونحن لا نفهم الأولى ولا نستطيع توفير الثانية!
فالحوار يتضمن طرفين على الأقل يعرض كل منهما وجهة نظره وأفكاره وعواطفه، قد ينتهي بالانحياز لرأي أحدهما أو احتفاظ كليهما برؤيته. لكن حتماً لا ينتهي بشجار ولا يتخلله أي استعلاء أو استخفاف أو ازدراء لما يعرض الطرف الآخر.
في حوارنا مع أبنائنا في مرحلة التكوين (الطفولة) والانقلاب (المراهقة) يجب –لا خيار أمامنا- أن يكون الرأي الذي ينتهي الحوار بقبوله من جميع الأطراف هو رأينا كمربين، ليس إكراهاً ولا بالعصا بل بحرصنا على أن نكون منطقيين في طرحنا، أي أن تستند حججنا على المنطق وأن تصمد عند المحاكمة العقلية في كل مرة يراجعها الأبناء.
إذاً لابدّ من ثقافة تغذينا بالعناصر الضرورية لصناعة تلك الحجج وفقاً لهذه المواصفات.
غنيّ عن القول أن حسن الاستماع لا يعطينا فرصة جيّدة للتعرف على ما في جعبة الآخر فقط، بل يوحي له بمدى اهتمامنا واحترامنا لما يقول مما يشجّعه على البوح أكثر و طرح أرائه كاملة للنقاش.
ولأن الكثير من قيمنا -الإيجابية والسلبية- ومواقفنا تجاه الأشخاص والأشياء نتعلمها ونكتسبها من خلال نماذج أثرّت في حياتنا، فإن أهم هذه النماذج على الإطلاق هما الوالدان. قد نحاور أولادنا بأسلوب ممتاز لكن نفشل في نقل ما نقول إلى حّيز الواقع، فنبدو متناقضين مع أنفسنا ونحطّ من مصداقيّة تلك القيم التي أدرنا حواراً معهم حولها!!!
وهنا لا نقصد الإيحاء بملائكيتنا لهم، حيث لابد من تذكيرهم بآدميتنا وطبيعية التعثر في طريقنا للمثل العليا، بل نقصد أن لا نكون ممن يقولون ما لا يفعلون، وأن نسمح لهم بانتقادنا عندما يكون للنقد موضع، وأن لا نجانب المنطق في تبريرنا لأخطائنا إن وجد مبرر.
لن نفلح في تربية أفراد أسوياء إذا لم نسوّي عيوبنا، ولن ننجح في أدائنا لمهمتنا إذا لم نتناول أنفسنا بالتربية الحسنة، ولن تقوم لنا قائمة طالما نهمل العقل إهمالنا المشين هذا ونفرّط في الثقافة ذلك التفريط الشنيع.
حينها، وحينها فقط يمكن للتربية الجنسية أن تتخلص من صفتها كمعضلة وتتطهر من وصمة العار التي ما فتأت تطاردها. في الحين الذي نستطيع أن نعترف بالجنس كمكون أساسي وطبيعي في بنيتنا السويّة، وننظر باحترام لإنسانيتنا بعناصرها الثلاثة: الروح والعقل والجسد.
كيف نربيهم جنسياً؟ كيف نربيهم إبتداءً؟
في المكتبات الآلاف من الكتب التي تنتظر من يتناولها ويقلب صفحاتها، ومن بعض الشاشات يطلّ علينا ناصحون يقدمون النصيحة بالمجان ويأملون أن يتلقفها ذهن واعٍ وضمير حيّ... اقرأ يا عزيزي لتعرف ولا تنتظر أن يصبّ أحدهم الإجابة في رأسك صبّاً، اجمع أنت قطعها ورتّبها وكوّن الصورة بالوضوح الذي تحتاج. أحط أطفالك بمصادر المعرفة، فقريباً لن تكون مصدرهم الوحيد، وجهّزهم بميزان بعينهم على فرز الصالح والفاسد والصحيح والخاطئ.
شكرا لكم
والله وليّ التوفيق.
11/5/2005
رد المستشار
الأخت الفاضلة لميس، مرةً قالها أخي الدكتور المهدي، ومرةً قالها أخي ابن عبد الله، أن مشاركتك لا تحتاج تعليقا ولا إضافة، وأنا أحظى للمرة الأولى بمشاركة لك في مشكلة قمت أنا بالرد عليها، ولا يسعني أن أقول إلا أنها سطور ذهبية تزين موقعنا مجانين، والحقيقة أنني أجد نفسي الآن أدعوك أولا إلى كتابة المشاركة التي كنت انتويت كتابتها في مشكلة الأمومة علمٌ أم فطرة ؟: مغامرة د. وائل التي أشرت إليها، والتي كانت بداية للتفكير في باب تربية مجانين الذي نخطو فيه خطواتنا الأولى، كما أدعوك إلى المساهمة معنا بمقالاتك أو مدوناتك للنشر في أبواب أخرى من أبواب الموقع.
أتفق معك تماما في كل ما أشرت إليه يا لميس وأسأل الله أن يبارك في كلامنا بركة توصله للناس القادرين على تفعيله، ذلك أن أمتنا تحتاج إلى إعادة تشكيل المفاهيم كلها، وأرجو أن يقرأ صاحب المشاركة المهندس أحمد شوقي مشاركتك هذه وأن تتحاورا معا وآخرون أيضًا على مجانين وأهلا بك وبكل سطورك على مجانين