لم تكن ظاهرة البغاء للفتيات العربيات منتشرة في أوربا في حقبة الستينيات والسبعينيات، بل ظهرت وتزايدت في العقدين الماضيين؛ ففي الآونة الأخيرة شهدت إيطاليا، وبريطانيا، وفرنسا وعواصم بعض الدول الغربية هذه الظاهرة، بقدوم بعض الفتيات العربيات جلهم من شمال إفريقيا، بطرق شرعية وذلك بأخذ تأشيرات سياحية لهذه الدول، ومن ثم تأجير شقق مفروشة لممارسة البغاء فيها، أو بطرق غير شرعية عن طريق التهريب الذي تمارسه عصابات متخصصة في الرقيق الأبيض، وذلك للإقامة المؤقتة أو الدائمة في بعض الدول الأوربية، وبعضهن فضلن الإقامة الدائمة، بالزواج من أزواج غير مسلمين، فتزوجن وأنجبن منهم.. والعياذ بالله.
فهل هو العوز والحاجة؟ أم الضائقة الاقتصادية؟ أم أن المفاهيم والقيم الاجتماعية في وطننا العربي بدأت تتغير وتتبدل!.. وهذا هو الثمن الذي يطلبه عصر الانفتاح الاقتصادي، وزمن العولمة بما يحمله من مفاهيم اقتصادية وإعلامية كاسحة، قادرة على تشكيل ذهنية وشخصية المتلقي العربي، وإدخاله في الطور الأول للعلة (النكوص) .. ليصبح جاهزاً للطور الثاني للعلة (الاستلاب) ومن ثم الانسياق، والتبعية بكل ما يحمله معنى هذه الكلمة.
وكي نلقي نظرة موضوعية على هذه الظاهرة، وذلك بالتفتيش عن جذورها.. وكي لا نقع في خطأ تصحيح الظل ما دام الغصن في الأساس أعوج!.. فالسؤال الذي يطرح نفسه، أوليست ظاهرة البغاء ظاهرة قديمة وموجودة في وطننا والسلطات تغض البصر عنها بغرض.. تنشيط السياحة؟! أوليس الوطن كله أصبح مستودعًا كبيرًا لتصريف السلع الرأسمالية والقيم الرأسمالية النفعية؟
فالأسواق العربية ترزح تحت عبء استيراد المواد الاستهلاكية غير الضرورية وتُفرغ من ثرواتها الأساسية الأمر الذي زاد من عجز ميزان المدفوعات باتجاه تراكمي في بعض هذه الأقطار، وخلق منها اقتصاديات تابعة، وأدت هذه التبعية بالتالي إلى إحداث خلل كبير في التوازن بين القطاعات الاجتماعية وكذلك في تعميق الهوة بين الطبقات، وتفسخ قيم وعلاقات التعاضد والتماسك الاجتماعي، التي كان المجتمع العربي التقليدي قائماً عليها، فتفككت البِنَى الاجتماعية التقليدية كالأسرة والقبيلة، وحصل نوع من المسخ الاجتماعي انعكس على وضعية المرأة والطفل الشريحة الأضعف داخل هذه التركيبة الاجتماعية.
فمن بِنًى اقتصادية واجتماعية هشة (تبعية،أمية) إلى بِنًى إعلامية لا تقل هشاشة عن سابقتها، فقد ساهم الإعلام العربي عبر الفضائيات والأرضيات، في حقن المتلقي العربي يوميًّا بآلاف الصور والمسلسلات والأفلام المستوردة التي تعرض الإثارة، وتمجد العنف والجريمة، والفردية، ويتخلل ساعات البث حملات إعلامية ضخمة لشركات أجنبية، بغرض فرض منتجاتها وسلعها الاستهلاكية، وقيم وأنماط استهلاك شعوبها على شعوب البلاد الفقيرة، لعلاج أزمات فائض الإنتاج عندها، بدلاً من إلقائه في صناديق الزبالة، أو البحر، ناهيك عن الاحتكار الدولي لتدفق الأنباء، إذ تقوم أربع وكالات فقط باحتكار أكثر من 80% من تدفق الأخبار على الساحة الدولية، وهذه الوكالات هي: رويتر، والفرنسية، واليونايتد برس والأسوشيتد برس، وعندما تثير هذه الو كالات زوابع حرب نفسية حول هذه القضية أو تلك، تتحول أجهزة الإعلام العربية منصاعة إلى فروع لهذه الوكالات العالمية، بدلاً من أن تتصدى لها وتكشف نواياها، وتشترك في عملية الحقن اليومية هذه بسيل استهلاكي، يعمل على تدمير الذاتية الشخصية للفرد، والذاتية الثقافية والروحية العامة للأمة، وذلك بالتأثير على العادات والتقاليد؛ لأنها لا تلجأ إلى بيان طبيعتها بالإفصاح عن محتواها بشكل مباشر؛ وذلك لأن الأثر الإعلامي يظهر بشكل غير واع، ويتدخل في تكوين التفكير والسلوك والأخلاق، والعادات اليومية والخصائص الشخصية للجماعات والأفراد، وذلك بإحلال بدائل وهمية مشوقة محل الوقائع، وتكوين بنى روحية للعدوى الاجتماعية الجماعية في تلقي نمط الحياة الرأسمالية وتقليده، واليوم نجد في شريحة شبابنا العربي المُهَمش بفعل إعلامنا التابع، فئة دمرتها المخدرات والإدمان، وفئة أخرى هامشية مهجنة تعيش في تقليد نمط الحياة الغربية، تعرف عن (رامبو) ـ الذي سطر بأفلامه أمجاداً وبطولات، وبفلم واحد منه استطاع (رامبو) أن يفعل ما لم تستطع أمريكا أن تفعله بحربها في فيتنام ـ أكثر مما تعرفه عن شيخ الشهداء (عمر المختار)، وتعرف عن الممثلة الأمريكية الخليعة (مادونا)، أكثر مما تعرفه عن البطلة الجزائرية (جميلة بوحريد).
فالمتتبع للخطاب الإعلامي والاقتصادي السائد في الوطن العربي اليوم يلاحظ تعثر المحاولات الإعلامية والاقتصادية في معظم الدول العربية؛ لأنها حدثت في الأغلب الأعم ضمن نموذج رأسمالي يكرس التبعية بدلًا من أن يكسر طوقها .. فالنظام الرأسمالي استطاع أن يبتلع كل الأنظمة: الشيوعية، والاشتراكية، والتقدمية والرجعية منها، ولكنه لم يستطع أن يبتلع الإسلام؛ لأن الإسلام نقيض له، فهو ينحط بالمادة، والإسلام يسمو بالروح.
أخي القارئ، قد يسألني هنا عقلك وضميرك .. هل هناك من وسيلة لتغيير هذا الواقع الرديء؟ أقول: نعم إذا رجعنا للكتاب والسنة كنموذج عمل، وخير شاهد على ما نحن فيه، نص الآية الكريمة: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)؛ لأن التقدم في شرطه الأولى، وعي بالتخلف وإرادة لتجاوزه، وأن النهضة نتاج اصطدام بعناصر التخلف والانحطاط.
واقرأ أيضا:
الكلمة الإيجابية ضرورة إنسانية!! / يا أمة الإسلام أغيثوا أهل غزة