السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا كنت عايزة أستشير حضرتك في موضوعي بس كنت عايزة من حضرتك إنك تعاملني كإنسانة كبيرة يعني تكلمني كلامك للكبار وان شاء الله هفهمه، هي مشكلتي تتلخص في إن بابا وماما بينهم مشاكل بتكبر بمرور الأيام ويزيد الشرخ بينهم أنا حاولت كثير أنا وأخواتي لكن ما باليد حيلة وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
المشكلة هنا أنى بنت بتتمتع بكل الصفات تقريبا يعنى أنا الحمد لله متدينة وبطلع الأولى في مدرسة تحفيظ القرآن وعلى قدر كبير من الذكاء والجمال ومحبوبة بين أصحابي بس ناقصني إني أحس بالحنان من بابا وماما بس طبعا مش هينفع لأنهم على وشك الطلاق بس أنا مش عارفه أعمل إيه
يعني أنا من وأنا صغيرة وأنا بتحمل مسئوليتي وهمومي لوحدي وكمان هموم أخواتي رغم أني الصغيرة وده لأني والحمد لله بتمتع برجاحة العقل بس أنا كان نفسي أعيش طفولتي التي ضاعت وحياتي اللي هتضيع بمرور الوقت.
أنا بكل صراحة استشرتك لأني محبش أحكي لحد من أصحابي لأني عارفة أنهم هيحلوها بطريقة طفولية شوية وأنا جربت بنفسي فيا ليت حضرتك تقولي على الحل اللي يخليني أعيش حياة مستقرة خالية من الاضطرابات...
وأنا آسفة إذا كنت طولت على حضرتك..
يا ليت حضرتك كمان تبعت لي الحل على ايميلي المسجل عندكم.
11/2/2007
رد المستشار
الابنة العزيزة أهلا وسهلاً على صفحتنا استشارات مجانين، وشكرًا على رسالتك التي حركت بي كثيرًا من المشاعر، ليس من العدل ولا من الحكمة بدايةً أن يسمح الأب والأم لمشكلاتهم بأن تكبر بمرور الأيام، وهما مستمران في تعميق الشرخ الناتج بينهما، بالشكل الذي يجعلهما عاجزين عن منح الحنان لحصيلة عمرهما، وتصل الأمور إلى وضع ابنةٍ نابهةٍ مثلك في هذا الموقف.
ولأنك لم تذكري لنا إلا أقل القليل عن معاناتك ومشاعرك، وشعرت دون داعٍ بأنك أطلت علينا مع أننا حين عبرت لنا عن ذلك، كنا نشعرُ برغبةٍ صادقةٍ في معرفة المزيد عن مشكلة والديك، لكنك عبرت عن لمحةٍ اكتئابية خفيفة حين قلت: (وأنا آسفة إذا كنت طولت على حضرتك)، فأنت تشعرين بأن أحدا لا يهمه أن يسمعك، وهذا شعورٌ غير صحيح مع الأسف، لكنني بالطبع لا أقول أن لديك اكتئابًا لا قدر الله، وإنما فقط بعضٌ من الحزن المبرر والمنطقي جدا.
ولكن دعيني أحاول التخلل من خلال كلماتك البسيطة الصادقة لجمع بعض الأفكار والتخمينات عن نوع الخلل الحادث في علاقة زوجين مضى على زواجهما أكثر من عقدٍ ونصف (وربما عقدين كاملين فأنت البنت الصغرى كما بينت في إفادتك)، وهما يعيشان في مستوى اقتصادي مرتفع، فهذا الخلل إما أن يكونَ مزمنا، لأنه غير قابلٍ للإصلاح أو لأنهما لا يحاولان إصلاحه، ومعنى ذلك أنه موجودٌ منذ سنوات وهذا هو الاحتمال الأقرب، وإما أنه خلل حادثٌ أو جديدٌ لكنه عظيم الأثر بحيث جعلهما يطرحان فكرة الطلاق لا سمح الله!
والمفترض يا ابنتي أنه بعد كل تلك السنوات من المودة والرحمة بين زوجين، أن يكونَ التكاملُ والتواصل والتشابه بين الزوجين قد تسيد الموقف، وأدار دفة الأسرة في بحر المجتمع، لكنَّ الواقع في أسرٍ تفوق الحصر في مجتمعاتنا العربية غير ذلك مع الأسف، ولذلك يا ابنتي أسبابٌ يضيقُ المقام بي هنا عن الخوض فيها.
لكنني سأتكلم كلام الكبار مع الفتاة صاحبة العقل الراجح لأقول لها وأنا أعتبر الاحتمال الأول لنوع الخلل الحادث في علاقة والديك، وهو أنه خلل مزمن وأنهما ما يزالان عاجزين عن حله، أعتبر هذا الاحتمال هو الأقرب للصحة، وهذه حالةٌ تعني أنني أستطيع استبعاد احتمال الطلاق، لأن كثيرًا من التوازنات ستحكم سلوكَ الطرفين، بل إنني أخمن أنها ليست المرة الأولى التي يقفان فيها على الطلاق، ثم يهديهما الله، فاسألي الله لهما الهداية والوفاق.
لكن عليك أن تنتبهي جيدًا إلى المرحلة العمرية التي أنت على أعتابها أو في مرحلتها المبكرة، وهي مرحلة المراهقة فأنت الآن تدخلين مرحلة المراهقة، بأمواجها في البحر، وزلازلها في الأرض، في الوقت الذي أنت مطالبةٌ فيه ببناء نفسك وكيانك المعرفي والاجتماعي، وأنت تتحركين بلا دعم معنوي وتربوي كافٍ مع الأسف.
أقول ذلك لأنني لا أستطيع استبعاد احتمال استمرار خلافات والديك النارية في التذبذب ما بين الكمون والاشتعال، وهو ما يعني استمرار عجزهما عن منحك ما يلزمك من دعم حسب كل مرحلةٍ تمرين بها، فأنت وإن اعتبرت الحنان فقط هو ما ينقصك، إلا أنك ربما خانك التعبير، لأن ما تحتاجين إليه يزيد عن مجرد الحنان، ومن المتوقع بل ومن الصحي أن يزيد احتياجك في المرحلة المقبلة من حياتك، فهل سيبقى احتياجا لا أحد يلبيه؟
إن نموذج والديك يا بنيتي نموذجٌ قديمٌ في تاريخ البشر، فمن الممكن بعد سنواتٍ من العشرة الزوجية أن تصل الأمور بالزوجين إلى الطلاق، ولذلك شرعه المولى سبحانه وتعالى وجعله أبغض الحلال عند الله لينفر عباده من اللجوء إلى الطلاق، المهم أن نموذج الوالدين اللذين تمنعهما مشاكلهما معا من تلبية احتياجات أبنائهم نموذج قديم، قد يكونُ ازداد انتشارًا في العقود الأخيرة، ولكن هذا يبقى كلاما مبنيا على الحدس بلا سندٍ علمي كاف، إلا أن المهم هنا هو أن أبناءً وبناتٍ عاشوا مثل المشكلة التي تواجهينها أنت الآن، لكنهم وجدوا الأب البديل والأم البديلة (على المستوى المعنوي) متاحا لهم في من حولهم من البشر سواءً كانوا جيرانهم أو أفراد عائلاتهم أو مدرسيهم ومدرساتهم إلخ......،
أما كيف كان ذلك؟ ولماذا لم تجدي أنت مثل هذا البديل المعنوي؟ متاحا في من حولك من البشر، إن السبب في ذلك يا صغيرتي هو التغير الذي طرأ على مجتمعاتنا، ولو سألتني وما هو ذلك التغير؟ سأقول لك: هو التغير الذي أفقدنا ما كانت تتمتع به مجتمعاتنا من وجود الجماعة الاجتماعية الحية، هذه الجماعة الاجتماعية كانت تعني أسرةً ممتدةً مثلا حيث تعيش الأجيال المتعاقبة من العائلة في مكانٍ واحدٍ وربما أكلوا سويا كل يوم، بحيث كان العم متاحا وزوجة العم متاحة والجد والجدة أيضًا، وببساطةٍ شديدةٍ كنت ستجدين لدى أي منهم أو غيرهم من يعينك على سبيل المثال، فيقوم الأخ بما لم يقم به أخوه، وتقوم زوجة الأخ بما لم تقم به زوجة عم أبنائها وهكذا...
وما تزال نماذج للأسر الممتدة موجودةً في بعض القرى في بلادنا إلى اليوم، لكنها في تناقص مستمر مثلما القيم التي كانت تعنى بها في تآكل مستمر، ونحن في زمن انقراض الأسر الممتدة، وأنا طبعا أعرفُ أن الأسرة الممتدة لها عيوبها مثلما لها مميزاتها، لكن لهذا الكلام مقام مختلف.
وتمثلت الجماعة الاجتماعية الحية بعد انتهاء زمان الأسر الممتدة، في ما كان قائما أيضًا معها لأنه لا تعارض، وذلك هو حق الجيرة الذي تعلمناه من الإسلام، والذي تعرفين منه الآن ما يرددهُ الناس كأنه أحد الأمثال من أن النبي عليه الصلاة والسلام أوصى بالجار فالجار إلى سابع جار، فهل تدرين كيف كان يطبق ذلك في بلاد المسلمين؟ بل وكان إلى حد سنوات ما قبل الانفتاح الاقتصادي الذي بدأته مصر في أواخر السبعينات من القرن الماضي.
ببساطةٍ شديدةٍ أيضًا يا بنيتي، كان الرجل، والشاب، والمرأة والبنت في كل حي أو شارع أو قولي في كل حارة، يشعر أنه مسئول عن كل طفل في محيطه وليس فقط عن أطفاله هو، حتى أن قواعد الرجولة والأصالة والشهامة والنبل كانت إلى عهدِ ما قبل الانفتاح تلزم الأخ الميسور أو الجار الميسور مثلاً بأن يشتري كسوة العيد ليس فقط لزوجته وأبنائه، وإنما لجميع الصغار في جماعته الاجتماعية، وبالمثل لم يكن تسمح له هذا القواعد بأن يرى أحد أطفال جماعته الاجتماعية حزينا دون أن يحاول مساعدته، وكان هناك ما يسمى بنجدة الملهوف، وكان وكان.....
وفي ذلك الإطار كنت ستجدين مانحي الحنان، ومانحي التوجيه والإرشاد، والمهتمين بإصلاح ما بين والديك من خلاف، كنت ستجدين كل هؤلاء يقومون بما يعتبرونها واجباتٍ تكاد لا تستدعي الشكر، المهم أن مجتمعنا تغير، وضيع ميزات الجماعة الاجتماعية، وتعززت قيم الفردية، واهتمام كل شخص بنفسه وأسرته بالكاد، ولذلك أسبابٌ كثيرةٌ غيرت الأفراد والمجتمع، ولم تنتبه مجتمعاتنا مع الأسف إلى ضرورة إيجاد البدائل المناسبة للجماعة الاجتماعية التي ضيعتها، إلا أنه في السنوات الأخيرة بدأ المجتمع البشري الحديث بوجه عام، وبدأت مجتمعاتنا أخيرا جدا، تنتبه إلى أهمية تفعيل ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني وتنظيماته والتي ينتظرُ منها أن تقوم بدور ما في هذا الشأن، وإن اختلفت التوجهات والمنظومات الفكرية لتلك المؤسسات.
المهم يا بنيتي أنك طلبت منا الدعم المعنوي أو على الأقل توسمته فينا، ونسأل الله أن يعيننا على تقديمه، فإذا كنت مقبلةً على مرحلةٍ هي أزهى مراحل عمرك من ناحية القدرة على العمل والتحصيل والمثابرة، وطرح الجديد والتجريب، وغير ذلك كثير، وإذا عرفت أن صراعات والديك قد تكونُ مزمنة وقد تظل كذلك، فإن عليك أن تكوني عمليةً جدا في تعاملك مع ما تمرين به من أحداث، وعليك أن تحددي أهدافك جيدا، وأن ترتبي أولوياتك أيضًا، وأن ترفعي عتبة تأثرك بخلافاتهما، لأننا إن أفردنا وقتا طويلا للبكاء فإننا نضيع وقت العمل، وأنا معك أنك لم تعيشي طفولتك كما ينبغي، لأنك ينقصك الشعور بحنان والديك، ورغم أن ذلك كان من حقك وما يزال، إلا أنني لا أظن ذلك النقص أقوى منك بفضل الله.
أولا لأن كَمَّ ما منحه الله لك من مميزات يحمد عليها هو كم كبير، وثانيا لأن لديك استعدادا من الأصل لأن تتصرفي كالكبار وتشعري كالكبار، وهذا هو ما يستنتجُ من قولك: (بس أنا مش عارفه أعمل إيه يعنى أنا من وأنا صغيرة وأنا بتحمل مسئوليتي وهمومي لوحدي وكمان هموم أخواتي رغم أني الصغيرة وده لأني والحمد لله بتمتع برجاحة العقل)، إذن أقول لك أنك لست الأولى التي لا تعيش مرحلةً ما من حياتها كما ينبغي، وقد تكونين أقدر من غيرك على تجاوز ذلك بنجاح،
واتبعي نصائحي التالية وترتيبها حسب أهميتها وحاجتك لها:
1- عليك أن تحسني علاقتك بالله سبحانه وتعالى، فإن نجحت في ذلك فإن استقرارا وأمنا كبيرين سيملآن روعك،
2- وعليك أن تهتمي بإرساء أساس قوي لبنائك المعرفي الذاتي من خلال الاهتمام بدراستك وبالقراءة، والاطلاع،
3- وعليك أن تحاولي أيضًا مشاركة من هم في مثل عمرك اهتماماتهم المشروعة، وأن تتذكري دائما أن كل كبيرٍ يستطيع أن يلعب ويعيش دور الطفل ودور المراهق، وليس العكس صحيحا، فليس كل طفل أو مراهق يستطيع أن يلعب ويعيش دور الكبير،
4- وعليك فيما يتعلق بالدعم المعنوي الذي تحتاجينه (توجيها وإرشادا) ألا تكفي عن طلبه من والديك، واغفري لهما تقصيرهما من الآن، وتذكري أنه تقصيرٌ منهما في حق نفسيهما قبل أن يكونَ في حقك أو حق أخوتك، وأنهم ضحايا قبل أن يكونوا مذنبين لأن كما المتناقضات الذي عاصره جيلهم كان هائلا،
5- وعليك أن تحاولي أيضًا أن تقيمي علاقات طيبة مع من هم أهل ثقةٍ من المتاحين حولك من أعضاء العائلة، وكذلك تذكري دائما أننا معك هنا في استشارات مجانين.
معنى هذا أنني أعيد الكرة إلى ملعبك أنت يا صغيرتي، وبنفس منطقك أنت أيضًا فقد طلبت مني أن أكتب لك كلاما يكتب للكبار، وأنا أقول لك تحملي مزيدا من مسئولية العيش كالكبار، وأهلا وسهلا بك دائما فتابعينا بأخبارك.